معطيات جديدة: الفقر لدى الأولاد العرب يفوق الفقر لدى الأولاد اليهود بثلاث مرّات

العرب في إسرائيل

قبل حوالي اربع سنوات، دعا بروفيسور دان مخمن، الدكتورة ساره بندر، المحاضرة في قسم تاريخ اسرائيل في جامعة حيفا والمختصة بتاريخ اليهود في بولندا إبان المحرقة النازية (الهولوكوست)، لإلقاء محاضرة في جامعة بار ايلان حول "تمرد الغيتوات". "ولكن، لم يكن ثمة تمرد في الغيتوات، باستثناء غيتو وارسو"، ردّت بندر. في اطروحة الدكتوراة التي كتبتها، في بداية الثمانينات، عن غيتو بياليستوك، لاحظت للمرة الأولى، انه "خلافًا للأسطورة، لم يكن هناك تمرد".

 

قبل حوالي اربع سنوات، دعا بروفيسور دان مخمن، الدكتورة ساره بندر، المحاضرة في قسم تاريخ اسرائيل في جامعة حيفا والمختصة بتاريخ اليهود في بولندا إبان المحرقة النازية (الهولوكوست)، لإلقاء محاضرة في جامعة بار ايلان حول "تمرد الغيتوات".

"ولكن، لم يكن ثمة تمرد في الغيتوات، باستثناء غيتو وارسو"، ردّت بندر. في اطروحة الدكتوراة التي كتبتها، في بداية الثمانينات، عن غيتو بياليستوك، لاحظت للمرة الأولى، انه "خلافًا للأسطورة، لم يكن هناك تمرد".

"فلتكن محاضرتك عن هذا الأمر اذن"، اقترح عليها بروفيسور مخمن. قررت بندر قبول الاقتراح وقدمت المحاضرة. منذ ذلك اليوم، عادت وقدمتها مرات عديدة، بما في ذلك امام قطاعات حساسة بشكل خاص، كما في اليوم الدراسي الذي عقد بمناسبة صدور الكتاب الذي ألفته بروفيسور دينا بورات، عن سيرة حياة الشاعر آبا كوفنر، الناجي من "المحرقة"، بحضور ابناء عائلته واصدقائه.

أطروحة بندر ليست جديدة، وهي أول من يقر بهذا. منذ الخمسينات، كان ثمة من انتبه الى الحقائق - بطلها في هذا الصدد هو الشاعر نتان ألترمان - وجزم بأن الأحاديث عن ظاهرة "ثوار الغيتوات" ليست سوى شعار، لأنه باستثناء غيتو وارسو، لم تكن هنالك اية ثورة او تمرد في أي مكان آخر. لكن سنين عديدة مرت فترسخت الأسطورة وتعززت حتى بدا هذا الكلام وكأنه تجديد عاصف. لذا تحرص بندر على التذكير بالحقائق، واحدة واحدة: "كانت هنالك بضعة غيتوات صغيرة جدًا وقعت فيها حوادث رفع اليهود خلالها السلاح. لكن حين يجري الحديث عن "ثورة الغيتوات" فان المقصود بها الغيتوات الثلاثة الأكبر: فيلنا، بياليستوك ووارسو". في تلك الغيتوات الثلاثة كانت هنالك، حقاً، حركات سرية سعت الى تنظيم تمردات، لكن فقط تلك التي كانت في معسكر وارسو، نجحت في تحقيق ذلك.

القصة الحقيقية عن معسكر فيلنا رويت غير مرة. ومؤخراً صدر ايضا كتاب المذكرات الذي وضعه نيسان رزنيك، وهو آخر من تبقى على قيد الحياة من بين قادة التمرد هناك. "في فيلنا تأسس التمرد الأول"، تقول بندر. "في البداية، من خلال منشور كوبنر، في 1 يناير 1942. ليس من الممكن انكار دور كوبنر في ادراك ان عمليات الاغتيال المنهجية في غيتو فيلنا لم تكن شأنا محلياً فحسب، كما اعتقد رفاقه في حركة "درور"، الذين قالوا ان الألمان يطهرون المعسكر بسبب كثرة الشيوعيين بين يهود المدينة، وليس بسبب يهوديتهم". أدرك كوبنر ان تلك العمليات تشكل نموذجًا للقضاء على يهود اوروبا عامة. ولذلك كان اول من دعا الى التمرد، في منشور صاغه مع رفاقه: "حذار من الذهاب كالقطيع الى المسلخ"، كتب كوبنر، "ان نسقط كمحاربين أحرار، افضل من ان نعيش تحت رحمة القتلة".

تقول بندر "ان من كان قائد التمرد في معسكر فيلنا لأكثر من سنة ونصف السنة، يتسحاق فيطنبرغ، اضطر،عمليًا، الى تسليم نفسه للألمان - ليس بسبب نشاطه السري الذي لم يكن الألمان يعرفون عنه شيئاً، وانما بسبب هويته الشيوعية. بعد تردد طويل، قرر تسليم نفسه ثم أقدم على الانتحار، بعد ذلك مباشرة. نائبه، يوسف غلازمان من مجموعة "بيتار"، فرّ من المعسكر فبقيت حركة التمرد السرية من غير قيادة. وكان آبا كوبنر هو الشخصية الأبرز فيها، على الرغم من عدم حمله صفة قيادية رسمية، وذلك لكونه قائد المجموعة الأكبر في المعسكر، مجموعة "هشومير هتسعير". منذ البداية أكد اعضاء الحركات السرية - وهذا ينطبق على جميع المعسكرات التي كانت فيها تنظيمات سرية - انهم سوف يثورون فقط اذا تبين لهم، بوضوح، ان المعسكر يواجه خطر التصفية التامة والنهائية، وذلك كي لا يشكل تمردهم عائقًا امام امكانية الحفاظ على المعسكر ثم انقاذه، طالما بقيت امكانية كهذه. وفي اللحظة التي قرر فيها الألمان تصفية المعسكر (في 1 سبتمبر 1943)، اتخذت التنظيمات السرية قرارًا عكسيًا: لا فائدة من اعلان تمرد عديم الأمل في داخل المعسكر. لقد قرروا الفرار الى الغابة من اجل الانضمام الى المحاربين الوطنيين والقتال معهم من هناك". كان ذلك قرارًا صعبًا، قرارًا فظيعا على المستوى الشخصي الفردي، لأنه كان يعني التخلي عن ابناء العائلة المسنين غير القادرين على الهرب الى الغابة.

قرار الموت الكريم

في بياليستوك كان الوضع اكثر تعقيداً. حايكه غوسمان، ابنة المدينة، كانت في فيلنا عندما اقيم التنظيم السري الأول هناك. تم ايفادها الى بياليستوك لمحاولة اقامة تنظيم سري مشترك لكل الحركات: هشومير هتسعير، الشيوعيون، البوند، هحلوتس - درور، هنوعر هتسيوني (الصهيونيون العموميون) والتنقيحيون. وكان انشئ في بياليستوك، من قبل، تنظيم سري للشيوعيين، فتوجهت غروسمان، عضو "هشومير هتسعير"، الى قائدهم لولك مينتس عارضة عليه اقامة كتلة سرية مشتركة. وتروي غروسمان، في مذكراتها، ان مينتس اصابته صدمة حين سمع ان رفيقه الشيوعي من فيلنا، فايطنبرغ، قبل بالتحالف مع الأحزاب الصهيونية، "بل ومع التنقيحيين، حتى". لكنه رفض عرضها، ولم يقم التنظيم السري المشترك الا في آب 1942، بعد ايفاد مندوب آخر من فيلنا، كان يتمتع كما يبدو بقدر أكبر من التأثير والجاذبية، هو أدك بوراكس. وقد تم ذلك بعد بعد أن علم أن عملية تصفية لمعسكر وارسو قد بدأت قبل ذلك بشهر واحد، وبعد حصول انقسام في صفوف الشيوعيين. وحتى في تلك الظروف، لم يوافق الشيوعيون على التحالف إلا مع حركة "هشومير هتسعير" التي كانت ذات توجهات ماركسية، وليس مع حركة "هحلوتس - درور" التي كانت تعتبر صهيونية "أكثر من اللزوم"، ناهيك عن التنقيحيين. وفي نوفمبر 1942، لدى عودة قائد حركة "درور" في بياليستوك، مردخاي تننبويم - تمروف، من وارسو، بادر الى اقامة تنظيم سري آخر ضم حركته والتنقيحيين و "هنوعر هتسيوني" وجزءًا من "البوند" وأعضاء "هشومير هتسعير" الذين نشطوا في كلا التنظيمين السريين وشكلوا حلقة وصل بينهما.

في بياليستوك أيضاً، كان الرأي السائد انه يجب اعلان التمرد فقط عند نشوء خطر حقيقي بتصفية المعسكر نهائيا. وتقول بندر ان ذلك يعني ان التنظيمين السريين تركا قرار اعلان التمرد بأيدي الألمان، جاعلينه - مسبقًا - عملية "موت كريم" فقط، وليس عملية إنقاذ وخلاص. وكان ثمة من وصف ذلك بأنه "نضال من اجل ثلاثة اسطر في كتب التاريخ". كوبنر نفسه قال، بعد الحرب: "أردنا فقط أن نموت، لكن الموت بطريقة تبقينا أحياء في ذاكرتكم". وثمة دلالة اخرى انطوى عليها القرار بشأن موعد اعلان التمرد هي ان المنظمات المختلفة اسقطت من برنامجها امكانية التحرك في حال جرت تصفية المعسكر بصورة تدريجية، وليس مرة واحدة.

تقول بندر انه حين جاءت لحظة التصفية النهائية لمعسكر بياليستوك وتم طرد سكانه للإبادة، في آب 1943، لم يجر أي تمرد. لم يكن قد مر على توحيد التنظيمين السريين سوى بضعة ايام، ولم يكونا مستعدين للقتال. كما انهما لم يخبرا سكان المعسكر بأمر وجودهما، وحين جرت عملية التصفية ودعا التنظيمان السريان جماهير اليهود الى المقاومة، لم يكن أي منهم يعلم من هم الثوار الذين يأمرون بالتمرد وكيف عليهم ان يتصرفوا. حتى ان التنظيمين السريين نفسيهما لم يكن لديهما أي برنامج واضح للعمل. وفي اللحظة الأخيرة، حين كان الألمان قد أحكموا الحصار على المعسكر تمهيداً لتصفيته، اصدر تننباوم، الذي اصبح قائد التنظيم السري الموحد، أمرًا بفتح ثغرات في أسيجة المعسكر لكي يتمكن اكبر عدد من اليهود من الفرار. لكن كل من امتثل لهذا الأمر وحاول تنفيذه تعرض للنيران القاتلة من الألمان الذين كانوا قد أحاطوا المعسكر. عمليًا، اليهود في المعسكر لم يتمردوا، بل ان غالبية اعضاء التنظيم السري الذين كان يفترض بهم فتح ثغرات في الأسيجة، اختبأوا في ملجأ، الى ان تم اكتشافهم والقضاء عليهم. مصير تننباوم نفسه لا يزال يكتنفه الغموض حتى يومنا هذا، وتشير التقديرات الى انه قد انتحر. لكن غروسمان لم تنتظر مصيرًا مماثلاً، تقول بندر، بل هربت من المعسكر من طريق كانت تعرفها من قبل وبهوية بولندية مستعارة، وذلك في صبيحة اليوم الذي فرض فيه الحصار. "وأنا لا اصدر حكمًا عليها جراء ذلك"، تؤكد بندر.

التمرد الوحيد، الذي شمل ايضاً جموع اليهود الذين كانوا يسكنون في المعسكر، وقع في غيتو وارسو، كما تدعي بندر. وقد حصل ذلك بفضل ظروف فريدة: ففي وارسو، خلافاً للمعسكرات الأخرى، قام الألمان بتصفية غالبية يهود المعسكر في فترة مبكرة نسبياً، في تموز 1942. وقد أثار ذلك غلياناً شديداً بين اليهود وأدى، ايضًا، الى انتحار رئيس "اليودنرات" ("مجلس اليهود"، القيادة المحلية في الغيتوات)، آدم تشرنياكوف. "نتيجة لذلك، كان المعسكر ناضجاً لتقبل قيادة بديلة. في اعقاب انتحار تشرنياكوف بدأ التنظيم السري أيضًا بالتحرك، في مرحلة مبكرة نسبياً: في اعقاب التهجير الكبير الى تربلينكا، بدأ التنظيم السري ينفذ عمليات اغتيال ضد قادة الشرطة اليهودية، وفي يناير 1943، أي قبل انطلاق التمرد بثلاثة اشهر وحين تجددت عمليات الطرد والتهجير الى معسكرات الابادة، قام أعضاء التنظيم السري باطلاق الرصاص على الألمان ايضًا. كل هذه العمليات جعلت اليهود في وارسو مدركين لوجود التنظيم السري فقبلوا بالامتثال لتوجيهاته. وهكذا، ففي الفترة بين يناير وابريل 1943، موعد انطلاق التمرد، عكف اليهود الذين بقوا في وارسو على التحضير لأعمال المقاومة وأقاموا العديد من التحصينات التي اختبأوا فيها مع بدء عمليات التهجير الجماعية. كان ذلك هو التعبير الأوضح عن الطابع الشمولي، الشعبي، للتمرد في وارسو".

"روح البطولة"

اعضاء التنظيمات السرية لم يحاولوا اعادة كتابة التاريخ فيما يتعلق بمشاركتهم في التمرد. العكس هو الصحيح، فقد وثّقوا في مذكراتهم المعضلات التي واجهتهم والقرارات الحاسمة التي اخذوها. ولكن ، تقول بندر، المجتمع الاسرائيلي في الخمسينات، والذي كان بحاجة الى روح البطولة من اجل "موازنة" اهانة الابادة، هو الذي أوجد اسطورة "ثورة الغيتوات"، والتي تدعي بأن اعمال تمرد أخرى وقعت، غير تلك التي كانت في وارسو. هكذا جرى محو الفوارق بين العضوية في التنظيم السري، الذي كان ينوي التمرد حقًا، وبين المشاركة في التمرد فعليا. ولذلك فاز كوبنر - الذي لم يتم تسميته قائدًا للتنظيم السري في فيلنا - بلقب قائد التمرد هناك، بينما اعتبر تننباوم قائدا للتمرد في بياليستوك.

إذا كان لدى بندر أي ادعاء ضد الناجين من التنظيمات السرية، فذلك انهم لم يضعوا الأمور في نصابها الصحيح والدقيق: "كان من الواضح، خلال سنوات، وخاصة في كيبوتسات هشومير هتسعير، حركة كوبنر، ان تمردًا قد حصل في فيلنا وان كوبنر كان قائده، لكن كوبنر لم يبادر قط الى تصحيح اولئك الذين كانوا ينادونه بـ "قائد التمرد" ". وثمة ادعاء آخر ايضاً ضد محاولة الناجين من اعضاء التنظيمات السرية الفصل والتمييز بينهم وبين اعضاء "اليودنرات" واعتباراتهم: "كوبنر، بشكل خاص، ولكن آخرين غيره ايضًا، اتهموا رؤساء اليودنرات بالمسؤولية عن فشل التمرد. لكن طابع اعتباراتهم، في المحصلة، لم يكن مختلفاً عن طابع الاعتبارات التي اعتمدها اعضاء اليودنرات. هم ايضاً لم يتمردوا لأنهم لم يرغبوا في تعريض جماهير اليهود الى الخطر طالما بقي هناك أمل لانقاذهم. وبالنسبة الى معسكر فيلنا، يمكن القول انهم حين خططوا للتمرد لم يكن واردًا، قط، خيار القتال في الغابة. ومن هنا، فأنا لا أنتقد خيار الخروج الى الغابة، بحد ذاته - فهو خيار مشروع، بل مفهوم ومبرر - ولكن لماذا التفاخر بذلك واعتبار أعضاء اليودنرات خونة، ونفسك مخلّصًا؟".

ولا تقبل بندر، ايضًا، الادعاء بأن اعضاء التنظيمات السرية، خلافًا لأعضاء اليودنرات، لم يكونوا متعاونين في قتل اليهود، بشكل فاعل: "رؤساء اليودنرات تصرفوا بدافع الرغبة في انقاذ اكبر عدد من اليهود. غالبية اليهود سيقوا الى الابادة في فترة لم يكن أي شخص - بمن فيهم قادة اليودنرات - يعلم بأنهم يساقون للإبادة. فقد كان الألمان يتحدثون عن معسكرات للعمل. لقد تصرفوا كقيادة تضطر الى اتخاذ قرارات حاسمة في ظروف عصيبة".

النموذج بالنسبة الى بندر هو الشاعر نتان الترمان، "الرجل الذي أدرك، بعبقريته، منذ الخمسينات، ما أقوله أنا اليوم". إثر قراءته مذكرات اعضاء التنظيمات السرية، كتب ألترمان قصائد ومقالات أثارت عاصفة هوجاء بين السنوات 1954 و 1955. الشاعر، الذي مثّل ودعم أضاء "البلماح"، هاجم بشدة الطروحات القائلة بوجود تعارض قطبي بين طريق التنظيمات السرية وبين طريق اليودنرات، وقال ان منطلق اعتبارات الطرفين لم يكن مختلفاً: "في كل الازمان، والى الأبد، لم تكن التنظيمات السرية تتخيل ان ترى نفسها بديلاً عن التعاون، وريثة طبيعية (لليودنرات).. وغالباً، طوال كل الوقت، تصرفت التنظيمات السرية الى جانب استسلامهم ومن واقع القبول بضرورة استسلامهم، بل واحياناً من خلال الاستعانة باستسلامهم، لأنها كانت تعرف ان لا طريق آخر غير هذا"، كتب ألترمان.

بندر نفسها هي كريمة تسفي ليفشيتس، الذي فرّ من غيتو فيلنا وقاتل في الغابة الى جانب المحاربين الروس: "لم يهرب من اجل ان يقاتل، وانما لانقاذ نفسه من الهلاك في الغيتو، لنه كان قد تعهد لوالده ببذل كل ما في وسعه من اجل ان ينجو وان يروي للأجيال القادمة. القتال كان، ببساطة، حتمية الواقع في الغابة". وحين تُسأل بندر عن ردود الفعل على محاضراتها في هذا الموضوع تقدم تشخيصًا مثيراً: "ًكبار السن يتقبلون ما اقول، عادة، ويتفقون معي. انهم يعرفون الحقائق أكثر من غيرهم ويذكرون ما شهدته البلاد في الخمسينات. الجيل الشاب، بالذات، هم الذين يثورون غاضبين على تحطيم اسطورة ثورة الغيتوات".

(يئير شيلغ، هآرتس، 29/4)