انا وأنتم سنغير العالم: أنصار الحرب اليهود من واشنطن

وثائق وتقارير

 

خلال السنة الأخيرة تنامى في واشنطن الايمان بالحرب ضد العراق. هذا الايمان المتقد بثته ثلة صغيرة تعدادها 25 ـ 30 شخصًا من المحافظين الجدد، كلهم تقريباً من اليهود، وكلهم تقريباٍ مثقفون، منهم: ريتشارد بيرل، بول وولفوفيتس، داغ بييت، بيل كريستول، اليوت ابراهمس، تشارلز كروتهايمر، وهم اشخاص تربطهم ببعض صداقات، ويؤازرون بعضهم بعضًا، ومقتنعون بأن الأفكار السياسية هي قوة دفع مركزية في التاريخ، وبأن الفكرة السياسية الصحيحة مرهونة بالمزاوجة بين الأخلاق والقوة، وحقوق الانسان والتصميم. المحافظون الجدد في واشنطن يؤسسون فكرهم على هوبس وميكيافيللي وادموند برك. ويجلّون وينستون تشرتشل وسياسة ريغن. ويميلون الى قراءة الواقع بمصطلحات فشل الثلاثينات (ميونيخ) مقابل نجاح الثمانينات (سقوط سور برلين).

أ ـ المذهب

في نهاية اسبوعها الثاني، لم تبد حرب تحرير العراق بصورة جيدة. كذلك في واشنطن ذاتها، فإنها لم تبد بصورة جيدة. فرضية الانهيار السريع لنظام صَدام انهارت. وانهارت فرضية انهيار الدكتاتورية العراقية في اللحظة التي تصاب فيها بالقوة الأمريكية. الشيعة لم يتمردوا، والسنّة حاربوا بضراوة. حرب العصابات العراقية ضبطت الجنرالات الأمريكيين غير مهيأين وشكلت خطرًا على خطوط الامداد الطويلة التي اقاموها. وبالرغم من هذا، واصل حوالي 70% من الأمريكيين تأييد الحرب. حوالي 60% منهم اعتقدوا ان النصر مؤكد. 74% عبروا عن ثقتهم بقيادة الرئيس بوش.

مدينة صغيرة هي واشنطن. مدينة بحجم انساني. اشبه بقرية صغيرة تهيأت لها الفرصة لادارة امبراطورية. قرية صغيرة من موظفي الادارة واعضاء الكونغرس ورجال معاهد الأبحاث والصحفيين، يعرف فيها الجميع، تقريبًا، بعضهم بعضًا. جميعهم يتآمرون ضد بعضهم البعض، وينمّون على بعضهم البعض.

خلال السنة الأخيرة تنامى في هذه القرية ايمان جديد: الايمان بالحرب ضد العراق. هذا الايمان المتقد بثته ثلة صغيرة تعدادها 25 ـ 30 شخصًا من المحافظين الجدد، كلهم تقريباً من اليهود، كلهم تقريبا مثقفون (قائمة جزئية: ريتشارد بيرل، بول وولفوفيتس، داغ بييت، بيل كريستول، اليوت ابراهمس، تشارلز كروتهايمر)، اشخاص تربطهم ببعض صداقات، ويؤازرون بعضهم بعضً، ومقتنعون بأن الأفكار السياسية هي قوة دفع مركزية في التاريخ. وهم يؤمنون بأن الفكرة السياسية الصحيحة مرهونة بالمزاوجة بين الأخلاق والقوة، وحقوق الانسان والتصميم. المحافظون الجدد في واشنطن يؤسسون فكرهم على هوبس وميكيافيللي وادموند برك. ويجلّون وينستون تشرتشل وسياسة ريغن. ويميلون الى قراءة الواقع بمصطلحات فشل الثلاثينات (ميونيخ) مقابل نجاح الثمانينات (سقوط سور برلين).

هل أخطأوا؟ هل ارتكبوا حماقة بسوقهم واشنطن الى بغداد؟ هم لا يعتقدون ذلك. وهم لا يزالون متمسكين بايمانهم، وتظاهرون بأن كل شيء، تقريبا، على ما يرام، وبأنه سيكون خيرًا. ولكن من حين الى آخر يخيل ان عَرَقاً بارداً يظهر على وجوههم. لم يعد الأمر مجرد رياضة اكاديمية، يقول احدهم، نحن نتحمل مسؤولية ما يجري. الأفكار التي اقترحناها تؤثر الآن على حياة ملايين البشر. ثمة، اذن، لحظات خوف. انك تقول: تباً، اردنا تقديم مساعدة للجميع لكن ربما أخطأنا.

ب ـ بيل كريستول

هل تورطت امريكا؟ بيل كريستول يقول لا. صحيح ان الصحافة سلبية جدًا، لكن عند فحص الحقائق الميدانية نرى انه ليس هنالك ارهاب، وليست هنالك ابادة جماعية، وليست هنالك هجمات ضد اسرائيل. حقول النفط في الجنوب نجت، وتحققت سيطرة جوية، وقوات امريكية على مشارف بغداد. ومن هنا، فلو ان بعض الأخطاء قد ارتكبت هنا وهناك الا انها ليست فادحة ولا خطيرة. امريكا عظيمة بما يكفي للصمود بوجهها. ولا يساوره أي شك قط في ان الجنرال تومي فرانكس سيحقق اهدافه، في نهاية المطاف. الفرقة الرابعة ستُدفع، تواً، الى فلب المعركة، وفرقة اضافية اخرى انطلقت الى هناك من تكساس. ربما لن تكون هذه، اذن، حربًا أنيقة توقع ستين قتيلا في اسبوعين، وانما ـ بدلا من ذلك ـ ستكون حرباً أقل اناقة توقع الف قتيل في شهرين. ولكن، وعلى الرغم من ذلك، ليس لدى بيل كريستول أي شك في ان حرب تحرير العراق هي حرب عادلة. حرب جبرية يفرضها الواقع.

كريستول هو انسان وسيم الوجه متوسط القامة في اواخر الأربعينات من العمر. استغل منصبه رئيسًا لتحرير اسبوعية "ويكلي ستاندارد" اليمينية وكونه كأحد قادة حلقة المحافظين الجدد في واشنطن، خلال الأشهر الثمانية عشرة الأخيرة، لتحفيز البيت الأبيض وحضه على التحرك ضد صدام حسين. وكونه معروفاً بتأثيره الواضح على الرئيس، وعلى نائب الرئيس وعلى وزير الدفاع، فهو يعتبر ذا قسط كبير في جر واشنطن الى الحرب في بغداد. وحين يجلس من وراء اكوام الكتب التي تملأ طاولته في مكاتب "ويكلي ستاندارد" في الشمال الغربي من واشنطن، فسيحاول اقناعي بأنه ليس قلِقاً. لا يمكنه تصور ان امريكا لن تنتصر. فالنتائج، في مثل هذه الحالة، ستكون كارثية. لا أحد يرغب في التفكير الجدي بمثل هذا الاحتمال.

على ماذا هذه الحرب، أسأله. كريستول يجيب بالقول ان هذه الحرب، في احد مستوياتها، هي الحرب ذاتها التي يتحدث عنها جورج بوش ـ حرب ضد نظام وحشي يمتلك اسلحة دمار شامل. ولكن في مستوى اكثر عمقاً، هي حرب أكبر من أجل صياغة شرق اوسط جديد. انها حرب ترمي الى تغيير الثقافة السياسية في المنطقة بأكملها. ذلك ان ما حصل في 11 أيلول 2001، يقول كريستول، هو ان الأمريكيين رفعوا رؤوسهم فاكتشفوا ان العالم ليس كما تصوروه. العالم هو مكان خطير جدًا. ولذلك فتش الأمريكيون عن مذهب يمكّنهم من مواجهة هذا العالم الخطير. المذهب الوحيد الذي عثروا عليه هو مذهب المحافظين - الجدد.

هذا المذهب يدعي بأن المشكلة مع الشرق الأوسط هي انعدام الدمقراطية وانعدام الحرية. وعليه، فان الطريقة الوحيدة للجم اشخاص مثل صدام حسين ومثل اسامة بن لادن هي نشر الدمقراطية والحرية. تغيير تلك الديناميكية الثقافية والسياسية التي تنبتهم، من الجذور. ثم محاربة الفوضى بواسطة خلق نظام عالمي جديد يقوم على الحرية وحقوق الانسان. وهكذا، فان هذه الحرب، في الحقيقة، هي على هذا الهدف. على خلق شرق اوسط جديد.

هل معنى هذا ان حرب العراق هي، في الحقيقة، حرب محافظين جدد؟ هكذا يقولون، يضحك كريستول. لكن الحقيقة هي ان هذه الحرب امريكية. المحافظون الجدد نجحوا لأنهم لامَسوا بنية اساسية امريكية عميقة. ذلك ان لدى امريكا شعورًا عميقًا بأنها صاحبة رسالة. لدى امريكا حاجة لعرض شيء ما أكثر من الحياة المريحة. أكثر من النجاح المادي. ومن هنا، وبسبب مثاليتهم، فقد تقبل الأمريكيون ما اقترحه عليهم المحافظون الجدد. لم يرغبوا في شن حرب على المصالح، بل على القيم. حرب على رؤيا أخلاقية. ارادوا التجند لشيء ما أكبر منهم أنفسهم.

هل ستقود هذه الرؤيا الأخلاقية الى وضع السعودية وسوريا بالدور بعد العراق؟ كريستول يقول انه لا يزال على خلاف مع الادارة (الأمريكية) بشأن السعودية. اما رأيه هو فيقول انه من غير الممكن السماح للسعودية بالاستمرار على ما هي عليه. لا يمكن القبول بمعاداة الأمركة التي تبثها. ذلك ان الوهابية المتعصبة التي تنتجها السعودية تزعزع استقرار المنطقة كلها. كذلك في ما يتصل بمصر، يعتقد كريستول انه لا يمكن القبول باستمرار الوضع القائم. ينبغي ان يكون التوجه فيها ايضاً نحو الدمقراطية الليبرالية. ينبغي الادراك بأن الاستقرار الذي يقترحه الطغاة العرب الفاسدون هو استقرار موهوم. بالضبط مثلما كان الاستقرار الذي حصل عليه رابين من (الرئيس ياسر) عرفات استقرارًا وهمياً. وفي نهاية المطاف، لن تصمد أي من هذه الدكتاتوريات المتآكلة. الخيار هو بين الاسلاموية المتطرفة وبين الفاشية العلمانية وبين الدمقراطية. وبسبب 11 أيلول اصبحت امريكا تفهم ذلك. امريكا هي دولة لا خيار امامها، ولزام عليها ان تكون اكثر عنفًا في دفع الدمقراطية. ومن هنا هذه الحرب. انطلاقًا من الفهم الأمريكي الجديد بأنه اذا لم تقم الولايات المتحدة بصياغة العالم على صورتها وشاكلتها هي، فسيقوم العالم بصياغتها على صورته وشاكلته هو.

ج ـ تشارلز كروتهايمر

هل هذه فيتنام جديدة؟ تشارلز كروتهايمر يقول: لا. ليس ثمة أي وجه شبه مع فيتنام. خلافاً للستينات، ليست في امريكا الآن ثقافة معادية للمؤسسة السلطوية. وخلافًا للستينات، في امريكا الآن حب رائع للجيش. وخلافاً للستينات، يجلس في البيت الأبيض الآن رئيس حازم، ذو شخصية قوية. وخلافاً للستينات، الأمريكيون لا يترددون الآن في تقديم التضحيات. هذا هو التغيير الكبير الذي حصل هنا في 11 أيلول 2001. منذ ذلك الصباح اصبح الأمريكيون يدركون انهم اذا لم يتحركوا الآن واذا ما وصلت اسلحة دمار شامل الى ايدي منظمات ارهابية متطرفة، فسيتعرض ملايين الأمريكيين للموت. وعليه، وبما انهم يدركون ان هؤلاء يريدون قتلهم، يريدون قتلهم بالملايين، يفضل الأمريكيون الخروج الى الميدان والقتال على انتظار الموت في البيت مكتوفي الأيدي.

تشارلز كروتهايمر هو رجل وسيم، أسمر وفصيح. في مكتبه الكبير في شارع رقم 19 في الشمال الغربي من واشنطن يجلس مشرئباً على كرسي عجلات اسود. رغم انه يميل الى السوداوية في كتاباته، الا ان مزاجه الآن رائع. ليست لدى صاحب الزاوية المعروفة (في "واشنطن بوست" و"تايم" و"ويكلي ستاندارد") اي شكوك حول نتائج هذه الحرب التي عمل من أجلها طوال الأشهر الثمانية عشرة الأخيرة. لا، لا يقبل القول بأنه ساعد في جر امريكا الى ساحات القتل الجديدة بين دجلة والفرات. لكن، صحيح انه يشكل جزءًا من تيار فكري وجد، بحلول 11 أيلول 2001, ما يقترحه على الأمريكيين. بعد اسابيع قليلة من الهجوم على التوأمين في نيويورك، اشار في مقالاته الى بغداد باعتبارها هدفًا اجبارياً. والآن ايضا لا يزال مقتنعاً بأن في مقدور امريكا القيام بذلك. لا يخطر في باله، قط، احتمال ان لا تنتصر امريكا في هذه الحرب.

على ماذا هذه الحرب؟ على ثلاث قضايا مختلفة. اولاً وقبل كل شيء، هي حرب لنزع اسلحة الدمار الشامل. هذا هو الأساس، هذا هو المفهوم ضمنًا. انه مبرر كاف. ولكن اضافة الى ذلك، تأتي الحرب في العراق لتغيير الصفقة الشيطانية التي عقدتها امريكا مع العالم العربي قبل عشرات السنين. تلك الصفقة التي قالت - انتم ترسلون لنا النفط ونحن لا نتدخل في شؤونكم الداخلية. ارسلوا لنا النفط ولن نطالبكم بما نطالب به تشيلي والفلبين وكوريا وجنوب افريقيا.

هذه الصفقة انتهى مفعولها، عملياً، في 11 أيلول 2001، يقول كروتهايمر. فمنذ ذلك اليوم اصبح الأمريكيون يدركون انهم اذا ما تركوا العالم العربي يسير في دروبه السيئة - القمع والاضطهاد والتدمير الاقتصادي وزرع اليأس - فسيواصل تنمية المزيد والمزيد من الأسامات. ولذلك توصلت امريكا الى الاستنتاج بأن لا خيار امامها - ولزام عليها الاضطلاع بتنفيذ مشروع اعادة بناء العالم العربي من جديد. ضمن هذه الرؤية، فان الحرب في العراق هي بداية تجربة تاريخية هائلة غايتها تنفيذ ما تم تنفيذه آنذاك في المانيا واليابان في العالم العربي الآن. انها محاولة طموحة جدًا، يعترف كروتهايمر، وربما تكون مثالية، لكنها ليست غير واقعية. اذ لا يمكن القبول بالفرضية العنصرية القائلة بأن العرب يختلفون عن بقية البشر، وبأن العرب غير مؤهلين لتبني القيم الديموقراطية.

ولكن صاحب الزاوية الصحفية، اليهودي الأمريكي، يرى ان لهذه الحرب الحالية أهمية اخرى اضافية. فاذا ما اصبح العراق موالياً للغرب وبؤرة للتأثير الأمريكي، فستكون لذلك اهمية جيوسياسية عظيمة. الوجود الامريكي في العراق سيبث قوة في المنطقة. سيعطي جرأة وطاقة للمتمردين في ايران، كما سيردع سوريا ويلجمها. وسيسرّع وتائر التغيير الذي يجب ان يحصل في الشرق الاوسط.

اليست فكرة الحرب الوقائية فكرة خطيرة تزعزع النظام العالمي؟ لا خيار، يجيب كروتهايمر. في القرن الـ 21 نحن نواجه تحديًا جديدًا ومميزًا ـ دَمقرطة الدمار الشامل. في مواجهة هذا التحدي ثمة ثلاث استراتيجيات: المصالحة، والردع والوقاية (المنع المسبق). وبما ان المصالحة والردع لا يصلحان ولا يمكن تطبيقهما، فان المنع المسبق هو الاستراتيجية الوحيدة المتبقية. على الولايات المتحدة تطبيق سياسة هجومية للمنع المسبق. وهذا بالضبط ما تفعله الآن في العراق. هذا ما يفعله جنود تومي فرانكس في هذه اللحظات.

وماذا لو فشلت هذه التجربة؟ لو هُزمت امريكا؟ هذه الحرب ستعزز مكانة امريكا في العالم في الجيل القادم، يقول كروتهايمر. نتائجها ستصوغ العالم للسنوات الـ 25 القادمة. هنالك ثلاث امكانيات: اذا انتصرت الولايات المتحدة بسرعة وبدون مذابح وحمامات دم، فستصبح سيدًا جبارًا يملي ارادته على العالم. واذا كان الانتصار بطيئًا وملوثًا فلن يكون بالامكان الاستمرار والانتقال من العراق الى دول اخرى. اما اذا هزمت امريكا فستكون النتائج كارثية. قوتها الردعية ستضعف، اصدقاؤها سيهجرونها وستنطوي على نفسها. اما في الشرق الاوسط فسينشأ عدم استقرار متطرف.

انك لا ترغب حقا في التفكير بما قد يحدث، يوجه كروتهايمر نظرات مباشرة الى عيني. لكن لهذا السبب بالذات، انا واثق بأننا لن نًُهزم. لأن الادارة تدرك المدلولات جيداً. الرئيس يعرف تمام المعرفة ان كل شيء على كفة عفريت، ولذلك سيصب كل ما في حوزتنا الى داخل هذه المحاولة. سيفعل كل ما ينبغي فعله. جورج دبليو بوش لن يدع امريكا تُهزم.

د ـ توم فريدمان

هل هذه حرب لبنان امريكية؟ توم فريدمان يقول انه يخشى ان تكون كذلك. لقد كان هناك في فندق "الكومودور" في بيروت في صيف 1982 ولا يزال يذكر ذلك جيداً. وعليه، فهو يرى خطوط التشابه. الجنرال حمد شلبي (الزعيم الشيعي الذي يريد المحافظون الجدد تنصيبه رئيسًا للعراق الحر) في دور بشير جميّل. المعارضة العراقية في دور الكتائب. ريتشارد بيرل وحلقة المحافظين من حوله في دور ارئيل شارون. وحرب هي، في اساسها، حرب اختيارية. حرب تحاول تفعيل قوة هائلة من اجل اقامة نظام جديد.

توم فريدمان لم يعارض الحرب. هو ايضًا اهتز بقوة في الحادي عشر من ايلول 2001. هو ايضًا حاول ان يفهم من اين يأتي هؤلاء المتعصبين اليائسين الذين يكرهون امريكا اكثر من حبهم لحيواتهم هم. وهو ايضًا توصل الى الاستنتاج بأن الوضع القائم في الشرق الأوسط لم يعد مقبولاً. الوضع القائم يستفحل. ولذلك، فثمة حاجة ملحة لاجراء اصلاحات في العالم العربي.

ثمة اشياء حقيقية، على الرغم من ان بوش يؤمن بها، يقول فريدمان باسماً. وفي اعقاب 11 ايلول لم يكن من الممكن القول لبوش: دعك من هذا وتجاهله. كانت ثمة عدالة اساسية في الشعور الأمريكي العام الذي قال للدول العربية - تركناكم وحدكم وقتاً طويلاً، انتم لعبتم بالنار ونحن احترقنا. ولذلك، لن نترككم وحدكم اكثر. لن ندعكم وشأنكم.

يجلس في غرفة مستطيلة في مكاتب صحيفة " نيويورك تايمز" في الشمال الغربي من واشنطن، في زاوية الشارع رقم 17. احد جدران الغرفة عبارة عن خارطة ضخمة جدًا للعالم - من هاواي وحتى سان فرانسيسكو. ينظر الى حاسوبه ويقرأ لي بعض الأسطر من مقاله الذي سيدفع به الى الطباعة بعد ساعتين. حائر في ما يصح قوله الآن، وما يجدر الانتظار اكثر قبل قوله. يتوجه الي ويقول ان الأنظمة الديموقراطية تبدو لطيفة حتى يتم تهديدها. حين تتعرض للتهديد تصبح قاسية جداً. وحرب العراق، عملياً، هي جِنين كبيرة. كذلك في جنين قال الاسرائيليون للفلسطينيين لقد تركناكم وحدكم ولعبتم بالكبريت حتى فجرتم لنا ليلة الفصح في نتانيا. ولذلك لن نترككم وحدكم بعد الآن. سنمشط بيوت القصبة، بيتاً بيتاً. وبالنسبة لأمريكا، عراق صدام هو جنين. هذه الحرب هي "السور الواقي" ولذا فالخطر واحد: ان تقع امريكا في خطأ اسرائيل نفسه - استخدام القوة فقط.

هذه ليس حربًا غير شرعية، يقول فريدمان. لكنها حرب غرورة جداً. انك بحاجة الى الكثير جداً من الغرور لتصدق ان بمقدورك اعادة بناء دولة تقع على بعد نصف العالم من البيت. ولكن لكي يكون لحرب غرورة كهذه امل جدي، فهي بحاجة الى دعم دولي. الشرعية الدولية ضرورية جدًا هنا من اجل ان يتوفر لديك ما يكفي من الوقت والمجال لاخراج مشروعك الغرور الى حيز التنفيذ. ولكن، لم يكن لدى جورج بوش الصبر الكافي لتجنيد الدعم الدولي. لقد راهن على ان تبرر الحرب ذاتها، على ان ندخل بسرعة ونحتل بغداد بسرعة وان يستقبلنا العراقيون بالأرز، وعندها تبرر الحرب نفسها. هذا لم يحدث. ربما يحدث في الأسبوع المقبل، لكنه حتى الآن لم يحدث.

حين أفكر بما يمكن ان يحدث في المستقبل اتصبب عرقاً، حقًا، يقول فريدمان. ارانا نضطر الى فرض الحصار على بغداد، وانا أعرف أي جنون يمكن ان يخلقه الحصار على بغداد. التفكير بحرب من بيت الى بيت في بغداد، من دون غطاء الشرعية الدولية، يجعلني افقد الشهية. ارى سفارات امريكية تحترق، ارى محلات تجارية امريكية محطمة. ارى كيف تلتحم المقاومة العراقية لأمريكا مع المعارضة العربية الشاملة لأمريكا ومع المعارضة الدولية الشاملة لأمريكا. التفكير بما يمكن ان يحدث يأكلني من الداخل.

ما فعله جورج بوش، يقول فريدمان، هو انه قدّم لنا طاولة "مهاجوني" رائعة: عراق الجديد، الديموقراطي. ولكن عندما نقلب الطاولة نرى ان لها رِجلاً واحدة فقط. هذه الحرب تقف على رجل واحدة فقط. ولكن من الجهة الأخرى، من يعتقد ان بامكانه الانتصار على جورج بوش حري به ان يعيد التفكير مرة اخرى. بوش لن يتنازل اطلاقاً. صدقني، انت لا ترغب في ان تكون الى جانب هذا الرجل حين يشعر بأنه يُحشر في الزاوية. انا لا انصح أي انسان يحب الحياة بالتورط مع ديك تشيني، ودونالد رامسفيلد والرئيس بوش.

هل حرب العراق هي حرب المحافظين الجدد الكبيرة؟ هذه الحرب هي ما ارادها المحافظون الجدد، يقول فريدمان. هذه هي الحرب التي سوّقها المحافظون الجدد. هؤلاء الأشخاص كانت لديهم فكرة للبيع بحلول 11 أيلول وقد باعوها فعلا. ولذلك، هذه ليست حرباً ارادتها الجماهير، انها حرب النخبة. يضحك فريدمان: استطيع تزويدك بأسماء خمسة وعشرين شخصا (جميعهم موجودون، هذه اللحظة، في دائرة لا يزيد قطرها عن خمسة شوارع من هذا المكتب) لو كان تم اجلاؤهم الى جزيرة نائية قبل سنة ونصف السنة، لما وقعت الحرب على العراق.

وعلى الرغم من هذا، فالأمر ليس بهذه السهولة، يستدرك فريدمان. هذه ليست "فانتازيا" ابتدعها المحافظون الجدد. ليس ان خمسة وعشرين شخصاً نجحوا في اختطاف امريكا. ليس بالامكان جر أمّة كبيرة جدًا كهذه الى مغامرة كبيرة كهذه بواسطة بيل كريستول و"ويكلي ستاندارد" وخمسة - ستة صحفيين آخرين ذوي نفوذ وتأثير. إن ما أوقع هذه الحرب، في نهاية المطاف، هو رد الفعل الأمريكي المبالغ به على 11 أيلول. مشاعر الخوف الحقيقية التي تفشت في امريكا بعد 11 أيلول. ما اقتادنا الى ضواحي بغداد ليس المحافظون الجدد فحسب. ان ما اقتادنا الى ضواحي بغداد هو مزيج امريكي خالص من الخوف والتهوّد.

(ملحق "هآرتس" الاسبوعي، 4/4، ترجمة "مـدار")