جديد "مدار": "قضايا إسرائيلية"، العدد 19

وثائق وتقارير

<ليس هنالك مجتمع انساني كامل. هذه الأمور قد تحدث مرة اخرى، وليس بالضرورة ان تحدث بنفس الطريقة، كما ليس بالضرورة ضد اليهود تحديدًا، بل ضد أي شعب آخر. ابادة الشعب التي تعرض لها اليهود هي الأفظع حتى الآن ولا اعلم من سيكون "اليهود" في المرة القادمة>.

<ما نراه الآن بين اسرائيل والفلسطينيين هو نزاع مسلح. اذا ما تقوى طرف ما أكثر، فثمة احتمال لإبادة شعب>، هذا ما قاله هذا الأسبوع البروفيسور يهودا باور، الحائز على <جائزة اسرائيل> عن ابحاثه حول المحرقة اليهودية (الهولوكوست) والمؤرخ ذو الشهرة العالمية في هذا المجال، خلال محاضرة قدمها امام مجموعة من المربين والطلاب الدنماركيين الذين زاروا البلاد مؤخرًا.

<الطرفان قويان جدًا ويستطيعان قتل بعضهما البعض>، واصل الباحث ابن الـ 77 عامًا، الذي ولد في تشيكيا وهاجر الى فلسطين عام 1939، <وهما يدركان أن ليس بمقدورهما التخلص من بعضهما البعض، بل يتحتم عليهما التوصل الى حل سياسي ما>.

يدعي باور أن <النزاعات العرقية والقومية تنشب لدى حصول توازن، تقريبا، في القوة السياسية والعسكرية، او حين يعجز طرف ما عن فرض الحل الذي يريده هو على الطرف الآخر>. ان خطر تحول نزاع كهذا الى حالة من الجينوسايد (ابادة شعب) يتحقق عندما يصبح فرض الحل امرًا ممكناً. وفي ما يتصل بالنزاع الإسرائيلي - الفلسطيني، يعتقد باور ان <تدخلا خارجياً، بصيغة ضغط سياسي واقتصادي، هو أمر محتوم من اجل جلب الطرفين الى مائدة المفاوضات>.

المربون والطلاب الدنماركيون الـ 16 الذين أصغوا للتحليل الذي قدمه باور حول <ابادة الشعب> الأفظع في تاريخ البشرية، غادروا البلاد يوم السبت الماضي بعد مشاركتهم في دورة استمرت اسبوعين في المدرسة الدولية لدراسة المحرقة اليهودية في <ياد فشيم>. وكان هؤلاء حصلوا على منحة من معهد <بفضل الأسكندنافيين> (TTS ) التابع لمنظمة <اميريكان جويش كوميتي>.

<هل افهم من كلامك ان اسرائيل يمكن ان تنفذ ابادة شعب بحق الفلسطينيين؟>، سأل أحد الحاضرين بنوع من المفاجأة. <نعم>، قال باور، <فقط قبل يومين وزع مستوطنون متطرفون منشورات تدعو الى طرد العرب من هذه البلاد. التطهير العرقي يؤدي الى ابادة جماعية>. واضاف ان استطلاعات الرأي تدل على ان نسبة عالية بين الفلسطينيين تريد التخلص من اليهود.

* عامل رادع

باور، الذي أثار اصداء واسعة في العام 1989 حين عدل تقديراته السابقة بشأن عدد اليهود الذين قتلوا في معسكر اوشفيتس من 2 - 4 مليون الى 1،6 مليون فقط، يقول ان ثمة اليوم اربعة أشكال للإبادة الجماعية: ابادة شعب وأعمال القتل التي تتخللها؛ الصراعات العرقية، القومية، الدينية ـ العرقية؛ القتل المستند الى ايديولوجيات وعادات سياسية - طبقية؛ والأصولية السلفية التي تتمظهر في اعمال ارهابية.

وحين سئل عن الطرق الممكنة لمنع ابادة شعب في الأماكن التي ثمة احتمال لحصولها فيها، قال باور: <هذا يتحقق عبر مفاوضات سياسية. وقد ينجح اذا لاح ايضًا تهديد باستخدام السلاح، اضافة الى العقوبات السياسية والأقتصادية>. ويؤيد باور الإقتراح الذي قدم الى الأمم المتحدة والقاضي بتشكيل قوة دولية مسلحة كأداة لمنع ابادة شعب، تشكل عامل ردع في الدول غير العظمى.

<الآراء التي أطرحها هنا ليست ايديولوجية مشتركة لجميع الباحثين في "ياد فشيم"، لكنني اعتقد ان خطوط التفكير بشكل عام هي متشابهة>، قال باور، احد مؤسسي <المركز الدولي على اسم فيدال سسون لدراسة اللاسامية>، الذي نظم يوماً دراسيًا في القدس الأسبوع الماضي.

فرويد قال ان لدى كل انسان غريزة عميقة جدًا للحياة وللموت، وان الغالبية العظمى منا موجودة في الوسط. معنى هذا اننا نستطيع الوصول الى كلا القطبين، قال المحاضر المتقاعد في دراسات المحرقة اليهودية في الجامعة العبرية والمدير السابق للمدرسة الدولية لدراسة المحرقة. <لا فرق، سواء كنت ابيض او اسود، بنيا او اصفر. بنو البشر جميعا نفس الشيء>.

مايكل موغنسون، المؤرخ الباحث في تاريخ المحرقة والمحاضر في احدى جامعات الدنمارك، قال له ان شكاوى عديدة قدمت ضد <المركز الدنماركي لأبحاث المحرقة والجينوسايد> الذي يعمل فيه، وذلك بسبب عدم قيامه ببحث ابادة الشعب التي تعرض لها الشيوعيون ابان الحرب العالمية الثانية. <مشروع غولاغ لم يكن ابادة شعب. لقد انحصر في مجموعات عشوائية، رغم ان عدد الذين قتلوا خلاله قد يفوق عدد الذين قتلوا في ابادة الشعب في روسيا>، رد باور. <اذا كنت تريد بحث ابادة الشعب في رواندة، أو الأتحاد السوفييتي السابق أو كمبوديا، بامكانك ان تفعل ذلك. لكن هذا لا يعني ان عليك التوقف عن ارسال مربين الى "ياد فشيم". عليك فقط ان توسع دائرة الإرشاد والتثقيف>.

البحث في الماضي ضروري لمواجهة الواقع، كما يؤمن باور. <شعبك هو مثال رائع لذلك. مؤخرًا تبين ان مجموعة صغيرة من اليهود الشيوعيين الدنماركيين تم تسليمهم للنازيين. لماذا يلجأ الناس الى الأرشيفات لكي يعثروا على هذه الأمور؟ انهم لا يستطيعون منع ذلك. انه هناك، ببساطة>. ولكن، كما يقول، <ليست هنالك اية دروس مستفادة من التاريخ - الدروس هي شخصية. وهي مذوتة. انني اصاب بطفح جلدي في جسمي كله حين اسمع عبارة "دروس المحرقة".>.

باور يعارض تشويش ملامح المحرقة، كما يرفض مواقف بعض الفلاسفة والمؤرخين الذين يقولون ان المحرقة عصية على الفهم الأنساني وأكبر من قدرة البشر على الأدراك. ويقول انه بالأمكان تفسيرها لأنها نفذت على ايدي بشر <لأسباب نابعة من الطبيعة الأنسانية>. وعلى الرغم من ان <ابادة الشعب التي تعرض لها اليهود هي أفظع بشكل واضح>، الا انه لا يتعامل معها باعتبرها <أمرًا مميزًا وفريدًا>، وانما باعتبارها أمرًا غير مسبوق ومنذ لحظة حدوثه قد يحدث ثانية ايضاً. مؤخرًا اصدر كتابًا بعنوان <اعادة تفكير في المحرقة> وفيه يقدم تفكيرًا جديدًا عنها.

<امر مثير للغاية ان يكون بمقدور انسان في سنه اثارة التفكير والتأمل وتوجيه النقد الذاتي>، قال لاحقا نيلس دانيئيلسون، الطالب للقب الثاني في التاريخ. <ليس هنالك كثيرون ممن يستطيعون القول في سن متقدمة، انهم يرون الأشياء بصورة مختلفة عن الماضي>.

<لم يكن ذلك عملا حيوانيا، بل عملا نفذه بشر>، قال موغنسون، الذي يقول انه من المعجبين بباور. <الحيوانات لم تكن لتفعل شيئا كهذا، أبداً. باور عرض الأمور بشكل مغاير وجعلنا نعيد التفكير بها بصورة مختلفة>.

* درس في التاريخ

اللقاء مع باور كان جزءاً من برنامج محاضرات وجولات يومية. هذه الدورة مولها معهد TTS المخصص لذكرى الأسكندنافيين الذين انقذوا اليهود ابان الحرب العالمية الثانية. وهو معهد اقامه سنة 1963 الممثل النماركي اليهودي الراحل فيكتور بورجيه والمحامي النيويوركي ريتشارد نيتر. وخصص هذا المعهد سنويا 250 الف دولار لبرامج منوعة ومنح للأبحاث من صندوق تبلغ ميزانيته 6 ملايين دولار. ويقول ممثل المعهد في اسرائيل بيتر سينغر، ان الجزء الأكبر من هذه الميزانية هو تبرعات تقدمها الجاليات اليهودية في الولايات المتحدة.

هذه هي المجموعة السادسة من المربين الدنماركيين التي تحضر الى اسرائيل بواسطة هذا المعهد.

فثي ختام القاء مع اعضاء المجموعة قال باور انه <ليس هنالك مجتمع انساني كامل. هذه الأمور قد تحدث مرة اخرى، وليس بالضرورة ان تحدث بنفس الطريقة، كما ليس بالضرورة ضد اليهود تحديدًا، بل ضد أي شعب آخر. ابادة الشعب التي تعرض لها اليهود هي الأفظع حتى الآن ولا اعلم من سيكون "اليهود" في المرة القادمة>.