نتنياهو يلغي جولة أوروبية وينفي تخوفه من ضغوط وانتقادات

على هامش المشهد

مقابلة خاصة مع أستاذ علم الاجتماع في جامعة تل أبيب حول تصعيد الهجوم اليميني على التيارات النقدية في الجامعات الإسرائيلية

 

 

كتب بلال ضـاهر:

 

في إطار الهجمة المنظمة التي يشنها اليمين الإسرائيلي أعد "معهد الإستراتيجيا الصهيونية"، هذا الأسبوع، ورقة وصفها بـ "البحث" وركزت على المنهاج التعليمي في أقسام علم الاجتماع في الجامعات الإسرائيلية. واعتبر هذا "البحث" أن معظم المحاضرين في هذه الأقسام ينتمون إلى تيار "ما بعد الصهيونية" وأنهم يستخدمون في عملية التدريس مصادر ومؤلفات لمفكرين وباحثين وأكاديميين يساريين، إسرائيليين وغير إسرائيليين، وأنهم مثل "المؤرخين الجدد" يسعون إلى نفي الرواية الصهيونية للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. ويأخذ هذا "البحث" على هؤلاء المحاضرين الما بعد صهيونيين أنهم لا يستخدمون المصطلحات الصهيونية في أبحاثهم، مثل أن يقولوا "حرب 1948" وليس "حرب الاستقلال"، أو وصف اليهود الذين يصلون إلى إسرائيل بـ "المهاجرين" وليس "القادمين الجدد"، وبدلا من استخدام المصطلح الصهيوني "تخليص الأرض" يقول هؤلاء المحاضرون "شراء الأرض"... وما إلى ذلك.

 

والجدير بالذكر أن "معهد الإستراتيجيا الصهيونية" أسسه يسرائيل هارئيل، وهو أحد قادة المستوطنين ومؤسس مجلس المستوطنات. وبين أعضاء هيئته الإدارية نائب رئيس الحكومة ووزير الشؤون الإستراتيجية، موشيه يعلون، ووزير الدفاع الأسبق، موشيه أرنس، وأساتذة جامعيين من صفوف اليمين بينهم البروفسور يسرائيل أومان الحائز على جائزة نوبل، ورئيس الوكالة اليهودية، نتان شيرانسكي.

وركّز "البحث" الذي أعده "معهد الإستراتيجيا الصهيونية" على مجموعة "علماء الاجتماع النقديين" الذين صنفهم على أنهم ينتمون إلى تيار ما بعد الصهيونية. وقال إن لهذه المجموعة ثلاثة "آباء مؤسسين" هم البروفسور يونتان شابيرا من جامعة تل أبيب، والبروفسور سامي سموحة من جامعة حيفا، والمرحوم البروفسور باروخ كيمرلينغ من الجامعة العبرية في القدس. وأشار إلى وجود اختلافات بين الأفكار التي يحملها علما الاجتماع الما بعد صهيونيين، بحيث صنفهم "البحث" ما بين يساريين راديكاليين ويساريين أكثر اعتدالا. وبشكل استثنائي ركز "البحث" على أستاذ الجغرافيا في جامعة بن غوريون في بئر السبع، البروفسور أورن يفتاحئيل، ووصفه بأنه "ينمي أجيالا مقبلة من الباحثين الما بعد صهيونيين" الذين ينقضون الفكر والرواية الصهيونية.

ويعرف "البحث" مصطلح ما بعد الصهيونية على أنه "اسم مشترك للعديد من الآراء والتوجهات والعقائد الأكاديمية التي تقوض الأسس الأيديولوجية التي تم تأسيس الرؤيا الصهيونية عليها وأدت إلى قيام دولة إسرائيل كدولة الشهب اليهودي. وهذا المصطلح هو سقف ل’سوبرماركت’ يشمل مواقف ونظريات تجمع على نقد الصهيونية". ويشير البحث إلى مجموعتين أساسيتين تكونان تيار ما بعد الصهيونية "وترى المجموعة الأولى أن الدور التاريخي للصهيونية قد انتهى، فيما ترفض المجموعة الثانية الصهيونية وتحمل أفكارا معادية لها".

ويذكر "البحث" بالاسم عددا كبيرا من المحاضرين في أقسام علم الاجتماع في الجامعات الإسرائيلية الذي وصفهم بأنهم ما بعد صهيونيين. كما أن "البحث" يستعرض قوائم المصادر للدورات التعليمية التي يدرسّها هؤلاء المحاضرون ويشير إلى عدد المصادر، في هذه القوائم، التي أعدها باحثون ما بعد صهيونيين وإلى عدد المصادر التي أعدها باحثون صهيونيون. ووفقا لـ "البحث" فإن محاضري علم الاجتماع استخدموا 440 مصدرا ما بعد صهيوني مقابل 146 مصدرا صهيونيا. كذلك يستعرض البحث كتبا ألفها محاضرون ما بعد صهيونيين وأقوالا لمحاضرين في ندوات عقدت في الجامعات، تتعارض في غالب الأحيان مع الخطاب الصهيوني، خصوصا فيما يتعلق بالصراع والممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين. ويذكر "البحث" معاهد الأبحاث الموجودة في الجامعات والتي تمولها الحكومة الإسرائيلية أو متبرعون أجانب، وخصوصا من اليهود الأميركيين. ويدعي "البحث" أن الأكاديميين الذين ينتمون إلى تيار ما بعد الصهيونية "يستغلون" هذه المعاهد للترويج لأفكارهم.

وفي إثر ضغوط اليمين، قررت جامعة تل أبيب التدقيق في مضامين الدورات التي تُدرس في قسم علم الاجتماع وما إذا كانت مضامين ما بعد صهيونية. وطلب رئيس الجامعة، البروفسور يوسف كليبتر، تزويده بقوائم المصادر التي يتم تدريسها في القسم.

ومن بين المحاضرين الذين يهاجمهم "معهد الإستراتيجيا الصهيونية" البروفسور يهودا شنهاف، من قسم علم الاجتماع في جامعة تل أبيب.

وقال شنهاف لـ "المشهد الإسرائيلي": "أنا لا أعرف نفسي كمن يحمل أفكارا ما بعد صهيونية، إذ إن ما بعد الصهيونية هي تصنيف للهوية. وبالنسبة لي، فإن ما بعد الصهيونية هي مسألة أشكنازية - بيضاء، فقد شارك آباؤهم في حرب العام 1948، وهم ينتقدون هذه المسألة، وعمليا، هذا ينطوي على علاقات بين أب وابنه. وبهذا المفهوم فإني لم أعرف نفسي أبدا كمن يحمل أفكارا ما بعد صهيونية. رغم ذلك فإني أعرف أشخاصا يأخذون هذا التصنيف على محمل الجد ويعرفون أنفسهم كمن يحملون أفكارا ما بعد صهيونية لأنهم يريدون أن يتحملوا المسؤولية. أي أنه إذا قلت أني معاد للصهيونية فإنه لا يمكنني أن أتحمل مسؤولية عن ممارسات الصهيونية. هذا يعني أن هناك شيئًا ما في فكر ما بعد الصهيونية بالإمكان فهمه والإعجاب به لأنه يتحمل مسؤولية. أي أن تكون ما بعد صهيوني يعني الاعتراف بأنك شاركت في العنف ضد الفلسطينيين وأنك اليوم تتحمل مسؤولية ذلك. ولذلك فإني لا أعرف نفسي على هذا النحو لعدة أسباب داخلية وتتعلق بالمجتمع اليهودي".

(*) "المشهد الإسرائيلي": لماذا إذن يهاجمونك بشدة في هذا "البحث"؟

شنهاف: "أعتقد أننا موجودون اليوم في فترة لا أذكر مثيلا لها في تاريخ المجتمع الإسرائيلي، ولا حتى في نهاية سنوات الثمانين، عندما كان حكم اليمين في عهد رئيس الحكومة إسحاق شمير قويا جدا. التهجمات والتجريحات [ضد اليسار] كانت مختلفة حينذاك. لكن الآن تصاعدت حدة الأمور. وهناك تعاون بين الدولة ومنظمات مجتمع مدني، ممولة بأموال طائلة. وأعتقد أن هذه الحركة ممولة بأموال يهودية أميركية. والأمر المقلق هو أن نشاط هذه المنظمات تذكر بفترة مكارثي في الولايات المتحدة. وأنا لا أبالغ بقولي هذا. أي أن الفاشية لا تعني فقط أن ترى الفاشيين في الشوارع، فهذا يكون في النهاية. وإنما الفاشية تبدأ تماما مثلما هو الوضع الآن. ولا شك لدي في أنه توجد هنا مظاهر فاشية صارخة، ونحن نعرف ذلك، وهي ليست بالضرورة شبيهة بالفاشية التي كانت في أوروبا. وترافق هذه المظاهر مكارثية، من جهة أولى، وكم أفواه من جهة ثانية، وعنف الدولة تجاه الداخل والخارج، من جهة ثالثة، واستخدام مصطلحات مثل ’[دولة] ديمقراطية تدافع عن نفسها’ تبحث عن العنف، من جهة رابعة".

(*) كيف تنظر إلى تعريف إسرائيل لنفسها على أنها "دولة يهودية وديمقراطية"؟

شنهاف: "بداية، أنا أؤيد إلغاء حل الدولتين، وأؤيد فتح الحيز للجميع هنا. ليكن واضحا ما هي أفكاري".

(*) تقصد حل الدولة الواحدة.

شنهاف: "نعم. وصدر لي كتاب، مؤخرا، بعنوان ’مصيدة الخط الأخضر’ وهو يتناول هذا الموضوع. وأنا أدعي في هذا الكتاب أن فكرة الدولتين هي فنتازيا [أي وهم]، مثلما أن تعريف ’يهودية وديمقراطية’ هو فنتازيا. لأنه عندما يقولون لي إنه يجب أن تقام هنا دولتان للشعبين، لأنه إذا قام هنا حيز واحد سيحدث سفك دماء، فإن ردي يكون أن الحيز الواحد أصبح قائما، ونحن نعيش في حيز واحد. ودولة ’يهودية وديمقراطية’ هي فنتازيا لم تتحقق أبدا ولن تتحقق. وإذا اعترفنا بأننا نعيش في حيز وواحد تحت سياسة أبارتهايد [تفرقة عنصرية]، فإننا سندرك أن الطريق الديمقراطية الوحيدة هي العيش في حيز واحد. لكني لست مؤمنا بحل الدولتين، وأنا أعلم أن ثمة إشكالية في أن يصدر هذا القول عن يهودي، لأنه لا يوجد للفلسطينيين دولة بعد، لكني أعتقد أن هذا هو حل مدمر في ظل الوضع الذي يعيشه الفلسطينيون، لأن الدولة الفلسطينية ستقوم على 18 أو 20 بالمائة من مساحة البلاد بينما قرار التقسيم قضى بتقسيم البلاد مناصفة تقريبا. وهذا يعني أنه لا توجد إمكانية في الوضع الحالي للتحدث حول الدولتين، بدون موارد ومياه وما إلى ذلك للفلسطينيين. كذلك لن يكون هناك تواصل جغرافي بين أجزائها. وواضح تماما أن الإمبراطورية الإسرائيلية مرتبكة. وما تراه الآن نابع من الارتباك والخوف. لأنهم لا يدركون ما الذي يحدث. وهم يشعرون محاصرين... قالوا مرة إن إقامة سيادة يهودية سيعيد اليهود إلى التاريخ، لكن باعتقادي أنهم خرجوا من التاريخ عندما أقيمت السيادة اليهودية لأنهم لا يقيمون علاقات مع أحد. وأنا كيهودي، أشعر بأني وطني لأني أريد تغيير هذا النظام. لا أريد تدمير المجتمع هنا، لكني أريد لهذا النظام أن ينهار لأنه نظام غير عادل، ومن أجل بناء نظام ديمقراطي أكثر. وعندما تنظر إلى الهجمة الحالية ضد حزب التجمع الوطني الديمقراطي بإمكانك أن تلحظ المنهجية، من خلال ملاحقة [عضو الكنيست] حنين زعبي. وأعتقد أنه توجد منظمات، تبدو أنها منظمات مدنية، تأخذ على عاتقها مهمة الشرطة وهي تحوّل الدولة إلى دولة بوليس. وأعتقد أن هذا نابع من الارتباك والخوف. لكن أن يسعوا إلى ترهيب الفكر والقول لمحاضر كيف عليه أن يتكلم في دروسه، فهذا تجاوز لخط أحمر".

(*) ما مدى صحة ما جاء في "البحث" بأن الأكاديميين الذين ينتمون إلى تيار ما بعد الصهيونية يسيطرون على معظم أقسام علم الاجتماع في جامعات إسرائيل، ربما باستثناء جامعة بار إيلان؟

شنهاف: "ماذا يعني علم الاجتماع؟ أعتقد أنه يوجد هنا عدم فهم مطلق لطبيعة علم الاجتماع. علم الاجتماع هو فرع معرفي يتناول مسائل القوة وعلاقات القوة، ومهمة هذا العلم الكشف عن مبنى القوة. فكيف يمكن أن تكون عالم اجتماع ولا تعمل من أجل كشف مبنى القوة؟ ومهمة علم الاجتماع أن يكون نقديا. عليه أن ينتقد عنف مهنة الطب وعنف مهنة الطب النفسي، كما أن عليه أن يكشف عنف الدولة. ولذلك فإنه لا حاجة لأن يسيطر النقديون على أقسام علم الاجتماع لأن علم الاجتماع من حيث تعريفه هو علم نقدي".

(*) إذن، ما هو "الخطر" الذي تشكله مجموعة علماء الاجتماع على المشروع الصهيوني ودولة إسرائيل، الذي جعل هذا المعهد يضع "بحثا" كهذا؟

شنهاف: "أعتقد أن ما يحدث هنا هو بالأساس عملية تخويف. رغم ذلك فإنه لا أحد يمكنه أن يتسبب بأذى لأي محاضر. لأنه بحسب القانون والأنظمة لا أحد بإمكانه التدخل في مضامين الدورات التي أقدمها للطلاب. لكنهم يصنعون أجواء تخويف. أي أنه عندما أعدّ قائمة مصادر لمحاضراتي، في المستقبل، ستجعلني هذه الأجواء أفكّر مرتين. وكذلك سيفعل محاضر شاب".

(*) مجموعة علماء الاجتماع النقديين هي في نهاية المطاف مجموعة من النخب المثقفة، وعمليا هي مجموعة هامشية. لكن هذا "البحث" يدعي أن ما بعد الصهيونية تؤثر بصورة عميقة على المجتمع الإسرائيلي، وعملية صناعة القرار، وعلى مكانة إسرائيل الدولية. هل هذا الادعاء صحيح أم أنه جاء ليتم استخدامه كحجة لتبرير الهجوم ضدكم؟

شنهاف: "ليت تأثيرنا هو كما يصفونه. وأعتقد أن هذا الادعاء جاء لتبرير التهجم علينا. إني ألتقي ألف طالب في كل عام، وأنا أعمل كمحاضر منذ 26 عاما. لنفترض أني تحدثت مع 26 ألف طالب. هل جميع هؤلاء أصبحوا متأثرين بأفكاري؟ ليت الأمور كانت على هذا النحو لكنها ليست كذلك. ربما نحن نتمكن من بلورة رأي عام بين قسم من طلاب الجامعات، لكن لا يمكن مقارنة هذا مع قوة الدولة وعنفها".

(*) من الناحية الفعلية، فإن "معهد الإستراتيجيا الصهيونية" يهاجم العالم الأكاديمي في أقسام علم الاجتماع. وهو يقول إنه بصدد نشر "البحث" الكامل في شهر تشرين الأول المقبل وسيرفق ذلك بتوصيات. ما هي التوصيات المتوقعة، برأيك؟

شنهاف: "ربما سيقترحون أنه عندما يتم قبول محاضرين جدد في الجامعات يجب أن يشترطوا عليهم ألا يولوا اهتماما لنوعية أبحاثهم الأكاديمية وإنما لأفكارهم السياسية. وإذا كانوا سيقبلون المحاضرين بهذه الطريقة فإن هذا يدل على نهاية الإمبراطورية. لكن يجب الإشارة إلى أن معظم علماء الاجتماع سيعرّفون على أنهم يساريون بسبب طبيعة هذه المهنة".

(*) وهذا "البحث" ينضم إلى وثائق ونشاطات أخرى من جانب اليمين في إسرائيل وتهدف إلى ملاحقة اليساريين؟

شنهاف: "قبل شهرين تم نشر تقرير لحركة تطلق على نفسها اسم ’إم تيرتسو’. وهاجم هذا التقرير عددا من المحاضرين وبينهم أنا. وفي إثر ذلك استدعاني عميد الجامعة إلى محادثة. وسألني: ’لماذا يكتبون أنك درّست دورة في الجامعة حول حقوق الإنسان؟’. فقلت بأنني درست حول حقوق الإنسان وليس عن العنف. ثم سألني حول مشاركة المحامي ميخائيل سفاراد [المتخصص في الدفاع عن حقوق الإنسان الفلسطيني]، فأجبت: لأنه محام متخصص في حقوق الإنسان. هكذا كانت الأسئلة. وعميد الجامعة لا يستطيع أن يفعل شيئا ضدي. لكن هذه أجواء تخويف. وأنا أشعر بوجود خوف لدى قسم من المحاضرين. يوجد في هذه الحملة أمر مخيف جدا، ولو كنت اليوم في سن الثلاثين لغادرت".