إسرائيل بدأت تتراجع عن أهداف الحرب ضد لبنان

على هامش المشهد

 (*) في ظلّ الأوضاع السياسية السائدة في إسرائيل حاليًا ما من سبب وجيه يدعو إلى الشكّ في ما يقوله أحد الباحثين والأساتذة الجامعيين الإسرائيليين، في تصريحات خاصة بـ"المشهد الإسرائيلي"، بشأن أنّ "إسرائيل ما زالت لا تعرف ما الذي تريده" في أعقاب الأحداث الأخيرة في غزة، الناجمة عن سيطرة حركة "حماس" على القطاع، أكثر من بلوغ غاية الانفصال عن الفلسطينيين [طالع النصّ الكامل للمقابلة مع د. كوبي ميخائيل في مكان آخر]. ولعلّ إحدى الإشارات إلى ذلك هي ما يتميز به أداء رئيس الحكومة الإسرائيلية، إيهود أولمرت، حيال الحراك السياسيّ المتجدّد تمهيدًا لانعقاد "مؤتمر السلام الإقليمي" برعاية الولايات المتحدة الذي بات، فور الإعلان عنه، يشغل "مركز الثقل" في التحركات والمخططات السياسية المختلفة.

 

إنّ هذا الأمر هو تفصيل هام في الصورة العامة، التي تشتمل على تفاصيل أخرى ليست أقل أهمية.

 

ومن هذه التفاصيل يتعيّن ذكر أنّ هناك إجماعًا يسود الرأي العام في إسرائيل منذ عدة أعوام على ضرورة الانفصال عن العرب الفلسطينيين، لكن من غير تحميل النفس "عناء" الحل العادل للقضية الفلسطينية، أي من غير الانسحاب إلى حدود 1967 ومن غير القدس وطبعًا من غير حق العودة للاجئين. فهذه الأمور كافة تبقى معلقة على "الأفق السياسيّ".

 

وبالإمكان دائمًا الاستعانة بما لا يغيب حتى عن بال بعض المعلقين الإسرائيليين في صدد تفاصيل أخرى.

 

فقد كتب المعلق السياسيّ لصحيفة "هآرتس"، عكيفا إلدار، يوم 6/8/2007، مقالة أشار في سياقها إلى ضرورة عدم "استفظاع" الازدواجية المتناقضة التي تتسم بها مواقف أولمرت الأخيرة، لكونها تنهل من النبع العكر للسياسة الإسرائيلية الرسمية، في الأقل على مدار الأربعين عامًا الماضية.

 

في الأسبوع الماضي- كتب إلدار في تاريخه- أرسل رئيس الحكومة إيهود أولمرت تهانيه إلى كلية أريئيل لمناسبة قرار "مجلس التعليم العالي في يهودا والسامرة" (الضفة الغربية) القاضي برفع مكانة هذه الكلية إلى مرتبة جامعة. واليوم (6/8/2007) يسافر أولمرت إلى أريحا ليتحادث مع رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس (أبو مازن)، بشأن اتفاق مبادئ (أو "مبادئ متفق عليها") بشأن إقامة دولة فلسطينية. وبحسب جميع الخرائط، بما في ذلك خرائط أصدقائنا الأميركيين، فإن أراضي الحرم الجامعي الجديد يفترض أن تكون جزءًا لا يتجزأ من الدولة الفلسطينية الجديدة. فكيف يتعيّن على المواطن الفلسطيني البسيط أن يفسّر الأنباء بشأن ترسيخ مكانة الكلية الإسرائيلية الكبرى التي زرعت في قلب الضفة الغربية؟. وما هي، في نظر هذا المواطن، قيمة الوعد الذي سيقطعه أولمرت لأبو مازن بشأن الدفع قدمًا نحو اتفاق سلام يضع حدًا للاحتلال الإسرائيلي؟.

 

إن أولمرت، مثل معظم الإسرائيليين، اعتاد طوال 40 عامًا على أن يحيا مع هذا السلوك المزدوج. فقد مدّت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة يدًا واحدة "للسلام مع العرب" وفي نفس الوقت زرعت اليد الثانية وتدًا آخر في المناطق المحتلة. ولتيسير صناعة التناقضات بين الأقوال والأفعال أنشأ رجال القانون للسياسيين منظومة من الجسور الفاخرة التي تتيح ضم الأراضي الفلسطينية فعليًا من غير ضم السكان الفلسطينيين. وإنّ "مجلس التعليم العالي في يهودا والسامرة" هو أحد هذه الابتكارات.

 

وأعاد إلدار إلى الأذهان أن وزير الدفاع الإسرائيلي الحالي، إيهود باراك، يستهويه كثيرًا المصطلح الذي يصف إسرائيل بأنها "فيللا في غابة"، كي يشير إلى أنه ما دام باراك وغيره من المسؤولين في المؤسسة الأمنية والسياسية والقانونية ينظرون إلى المناطق (الفلسطينية المحتلة) المحيطة بأريئيل باعتبارها غابة، ففي وسع رئيس الحكومة أن يوفر على نفسه حتى وعثاء السفر إلى أريحا في حرّ آب اللهّاب.

 

وما دمنا في سيرة وزير الدفاع الإسرائيلي فقد ذكر المراسل السياسي لصحيفة "هآرتس"، ألوف بن، قبل فترة وجيزة من مقالة إلدار أعلاه وكذلك قبل التداول الواسع لهذا الموضوع في الأيام القليلة الفائتة، أنّ الأشخاص الذين اجتمعوا مؤخرًا مع باراك، سمعوا منه بأنه "ليس في وسع إسرائيل أن تتنازل عن سيطرتها الأمنية على الضفة الغربية على الأقل حتى تتزوّد بمنظومة إسقاط صواريخ قصيرة المدى. وهذا مشروع يحتاج إلى مدة تتراوح بين ثلاثة وخمسة أعوام". وبالتالي "ثمة شكّ فيما إذا كان سيحصل حتى انسحاب رمزيّ من عدة بؤر استيطانية أو مستوطنات معزولة. وسيدعي الجيش أن قواته منهمكة بالتدريب والإعداد للحرب في الشمال وليس في وسعها التفرّغ لمواجهات مع المستوطنين".

 

وخلص "بن" من ذلك إلى القول إنه في ظلّ ظروف كهذه "تتسع الهوة بين الخطاب الدبلوماسي الإسرائيلي وبين الواقع الميدانيّ". وأضاف: صحيح أن أحاديث السلام تبقى أفضل من المماحكات لكنها تنطوي على خطر خلق توقعات مبالغ فيها لدى الطرف الفلسطيني، ومن شأن تبدّد هذه التوقعات أن يؤدي مرة أخرى "إلى خيبة الأمل وإلى تجدّد المواجهات الدامية". إنّ أولمرت يفهم هذا ويحاول ردم الهوة بواسطة اتفاق مبادئ. بيد أن ثمة طريقة أخرى لذلك، كاد أن يقول "بن" إنها أسهل وأكمل، هي ترجمة النوايا الحسنة إلى تغييرات في الميدان، مثل تسهيل حرية حركة الفلسطينيين في الضفة الغربية.

 

إن الذي يتوصل إلى هذه الخلاصة هو مراسل سياسيّ لا يمكن اتهامه بمناهضة الصهيونية، فقد استبق خلاصته بالتوكيد على أن ثمة أنباء سارة هي أن هناك إشارات إلى تحرّك في العملية السياسية. للمرّة الأولى منذ سبعة أعوام يعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية أن هناك شريكًا فلسطينيًا (في شخص محمود عباس وسلام فياض). وتنطلق من مقرّ الحكومة في القدس الغربية مبادرات سياسية. وقد أقنع إيهود أولمرت الكاتب عاموس عوز، وهو المعلم الروحي لليسار الصهيوني، بجدية نواياه بالانسحاب من مناطق (محتلة). وطوني بلير يتجوّل في المنطقة. والإدارة الأميركية تنظم مؤتمر سلام في الخريف المقبل. لكن الأمر لا يخلو من أنباء سيئة أيضًا، وهي أن المبادرات والخطط الجميلة تتعامل مع واقع متخيل، كما لو أن هناك جهودًا حثيثة لإقامة دولة فلسطينية. وإنّ نقطة الانطلاق، المسكوت عنها، الواقفة وراء إرخاء العنان لجميع هذه المبادرات هي أن "عباس وفياض ضعيفان للغاية ولن ينجحا في فرض الأمن والنظام على الضفة الغربية"، وعليه تبقى إسرائيل في حلّ من تنفيذ أية التزامات في هذا الاتجاه، حتى إشعار آخر، من شبه المؤكد فقط أن يتم عنده البحث عن تفاصيل أخرى لما قد نجهله أو ربما لا نجهله الآن.