بعد انقضاء أقل من أسبوع على قرار الحكومة الإسرائيلية، من يوم الخميس الفائت، والقاضي بـ "إزاحة" الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، بلسان ذلك القرار، تبدو التعقيبات الإسرائيلية الشتيتة عليه متمسكةً، أكثر شيء، بالتقدير الذاهب إلى كون حكومة أريئيل شارون قد دفعت نفسها، بنفسها، نحو طريق مسدود.
ويستصعب المعقبون على هذا القرار، في شبه إجماع، أن يعثروا ولو على خيط رفيع يشير إلى منطقٍ ما يحكم أو يسوّغ اتخاذ قرار خطير كهذا، حتى من وجهة النظر الإسرائيلية "الأمنية" الصرفة المتعلقة بمحاربة ما يسمى بـ "الإرهاب".
"إذا كان معروفا سلفا أن قرار إزاحة عرفات لن يؤدي، في حال من الأحوال، إلى تقليل فرص الإرهاب، فلماذا أصرت حكومة شارون على ركوب هذا المركب"؟- هكذا تساءل عوفر شيلح، أحد كبار المعلقين في "يديعوت أحرونوت" (14/9/2003)، الذي رأى أن القرار بشأن الرئيس عرفات - طرده أو اغتياله، لا يهم - "يشكل ذروة سياسة الشيء ونقيضه" التي تتبعها الحكومة الإسرائيلية، وهي مدركة تماما أنها لا تؤدي إلى أية نتيجة ملموسة، لا على الصعيد السياسي ولا حتى على الصعيد الميداني في مجال يسميه "بمحاربة الإرهاب"!
وبالإستناد إلى ذلك يعتبر هذا المعلق القرار السالف "أسلوبا تهكميا" آخر لحكومة شارون، يندرج في إطار أساليب أخرى تزين لها طريق التهرب من مسؤوليتها، إلى جهة مواصلة تحذير الجماهير العريضة والرأي العام في إسرائيل بـ "قصص خارقة" متخيلة ما زال في مكنة الحكومة أن تلوح بها لكي تلمح إلى أنها ما زالت قابضة على زمام الأمور فيما يتعلق بالمستقبل. وفي هذا الصدد يسخف شيلح أيضا لجوء بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى نشر روايات ملفقة عن "جهوزية الجيش الإسرائيلي لتنفيذ عملية طرد عرفات" بصورة توحي بأن عملية كهذه "تكاد أن تكون معركة ستالينغراد جديدة"!
إلى ذلك يؤكد المعلق نفسه أن ما تشف عنه خطوات الحكومة في مواجهة الانتفاضة الفلسطينية وعملياتها حتى الآن هو، في الظاهر، شيء واحد ووحيد متمثل في انعدام أي هدف "للحرب المعلنة على الفلسطينيين"! غير أن المعلق العسكري للصحيفة ذاتها، أليكس فيشمان، يعتقد أن الجوهر الغالب على أداء الحكومة الإسرائيلية في مجمل القضايا الأمنية المستجدة، بما في ذلك القرار المتعلق بالرئيس عرفات، يحيل إلى تقنية "قررنا أن لا نقرر" ("يديعوت أحرونوت"- 15/9/2003). ومع ذلك - يضيف شيلح - لا مهرب من التفكير أنه من داخل اللاهدف يتشكل رويدًا رويدًا، عن قصد وربما عن غير قصد، هدف بعينه.
وحتى لا يكون هذا الحكم الأخير طلمسيًا بعض الشيء يكتب شيلح قائلا: لقد أمسى واضحا أن تقويض السلطة الوطنية الفلسطينية، ناهيك عن الجوع والقتل والحواجز (الإحتلالية)، يخلق في المناطق ضرباً من الفوضى يبرر العودة إلى احتلالها بالكامل (من جانب إسرائيل). ومثل هذا الأمر حدث في الضفة الغربية. وفي الجيش الإسرائيلي باتوا يكررون الآن مقولة: "لا نرغب بالعودة إلى غزة، لكن إذا لم يكن بد من ذلك فسنعود إلى هناك أيضا!
من جهة يعتقد روبيك روزنطال، المعلق في صحيفة "معاريف" ومحرر صفحة الرأي فيها (14/9/2003)، أن القرار الحكومي الإسرائيلي "المبدئي" بشأن طرد الرئيس عرفات لم يتم اتخاذه بدافع أن أحدًا ما (في المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة) يعتقد حقا أن هذا الطرد ممكن أو ناجع، وإنما يكمن دافعه في نفق الزمان الذي يغرق فيه شارون". ونفق الزمان هذا يقود إلى حدثين: الأول هو طرد عرفات إلى تونس من بيروت. فإن ما منع شارون من طرد عرفات من الحياة آنذاك في ظروف مريحة أكثر من الظروف الراهنة هو الذي سيمنعه الآن من طرده إلى المنفى. وهو المعرفة التي يدركها شارون، أيضا من عمق أعماق عالمه المبني على مفاهيم من العمليات العسكرية، أنه يمكن إخفاء قادة لكن يستحيل القضاء على الوجود الفلسطيني. هذا الوجود باق معنا وعرفات سيبقى رمزا له.
أما الحدث الثاني، في قراءة روزنطال، فهو موقف رئيسة وزراء إسرائيل غولدا مئير الذي أنكر، عندما كان شارون جنديا في صفوف جيشها، هذا الوجود الفلسطيني. أما الآن فإن القرار حول طرد عرفات يعيد النزاع (مع الفلسطينيين) إلى أسئلته الرئيسة ويزيحه عن "سؤال الإرهاب". ذلك أن الحكم على عرفات، في ضوء قرار كهذا، لا يتم "بموجب أفعاله" وإنما بموجب مكانته الرمزية التي لم يمسها حصاره في "المقاطعة" كما لم يمسها طرده إلى تونس أو "إجراءاته" بعد محادثات "كامب ديفيد".
ويخلص روزنطال إلى القول إن "النزاع بيننا وبين الفلسطينيين لن يجد حلا له بدون كيان سياسي فلسطيني مع حدود واضحة. ولا يوجد حل آخر خلاف ذلك. ثمة أحلام أخرى، وثمة شعارات أخرى، لكن لا يوجد واقع آخر. في هذا الواقع عرفات هو عدو مرير، أخفق في طريقه التاريخية، لكنه غير قابل للطرد".
على النسق ذاته، يقول زئيف شيف، المعلق العسكري لصحيفة "هآرتس" (14/9/2003)، إن قرار إزاحة عرفات "أعاد هذا الأخير إلى الحياة، بعد أن اعتبر مؤخرًا شخصية سياسية غاربة من ناحية عالمية وعربية، فضلا عن وقوف معارضة فلسطينية في مواجهة تسير في خط متصاعد لكونه غير قادر على تخليص شعبه أزمة مستعصية"! وعليه فإن القرار "يطرح علامات استفهام جدية حول مقدرة هذه الحكومة في أن تدير، كما ينبغي، الأزمة الراهنة مع الفلسطينيين والتي يترتب عليها سفك الكثير من الدماء".
ويعتقد شيف أن الحديث دائر عن أشد "القرارات الحربية" غرابة، التي اتخذتها حكومة في إسرائيل. فإن "من يرغب القيام بعمل ما، وأساسا بعملية عسكرية، يتخذ عادة قرارًا سريًا بذلك، ثم يطبق القرار. لكن ما حدث هنا هو العكس تماما".
وأحيانا يقررون "خطاً أحمرَ" ويعلنون عنه.. لكن فيما يخص عرفات لم يكن هناك "خط أحمر" وإنما إعلان نوايا فقط. وهو ما أثار واشنطن والأسرة الدولية ضد إسرائيل. والجيش الإسرائيلي لكم يكن بحاجة إلى قرار كهذا في أيامنا الحالية لكي يبدأ بالتخطيط. فمن الممكن الافتراض بأن لدى الجيش "خططا جاهزة" لعملية كهذه.
ويرى شيف أن إسرائيل دفعت نفسها، بهذا القرار، نحو طريق مسدود، فإذا ما نفذت القرار فستدخل في مواجهة مع هيئات دولية مختلفة ومع كثير من الحكومات دون أن تحظى هذه المرة بتأييد واشنطن. وإذا تراجعت عن القرار فستمس مكانتها وتعتبر كما لو أنها من رعايا واشنطن. وإذا ما طبقت القرار وأصيب عرفات في أثناء العملية، حسبما يقترح وزير "الأمن" أيضا شاؤل موفاز، فسينشأ وضع وصفه أحد القادة السياسيين الإسرائيليين بقوله: "لسنا بحاجة إلى مسيح آخر يزعمون أن اليهود مسؤولون عن موته". ويمكن أن ينشأ، من ناحية عملية، وضع لا يستطيع فيه أي زعيم فلسطيني بعد طرد عرفات أن يجري مفاوضات مستقلة مع إسرائيل.
وفيما رفع نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود اولمرت وتيرة التهديد الإسرائيلي بدعوته الى قتل ياسر عرفات، قال وزير الخارجية الاميركي كولن باول ان من شأن هذا الأمر ان يؤدي الى تفجر الغضب في المنطقة.
وكانت الحكومة الإسرائيلية اعلنت في بيان اثر اجتماعها الأسبوعي في اعقاب قرار "إزاحة" عرفات الذي اتخذته الحكومة المصغرة، ان عرفات يشكل "عقبة في وجه اي عملية مصالحة" بين إسرائيل والفلسطينيين. وتابع البيان ان "إسرائيل لن تتعاون مع (مسؤولين فلسطينيين) يتصرفون بأمر من عرفات، واي حكومة فلسطينية عليها ان تنأى بنفسها عن الإرهاب وتعيد تجميع أجهزة الامن تحت قيادة موحدة ليست بيد عرفات، وتبرهن على استقلاليتها عن عرفات". وقالت الحكومة انه "تقرر كذلك انه من غير الممكن تحقيق تقدم في عملية السلام من دون ان تتصدى الحكومة الفلسطينية جديا للإرهاب، وحيث لن تفعل، ستواصل إسرائيل القيام بذلك". وتابعت انه "مع ذلك، تعتبر إسرائيل نفسها ملتزمة بالرؤية التي عبر عنها الرئيس (الاميركي) جورج بوش والتدابير المترتبة عليها في (خريطة الطريق)".
وأعلنت وزارة الدفاع الإسرائيلية ان وزير الدفاع شاؤول موفاز عدل عن التوجه الى الولايات المتحدة هذا الأسبوع كما كان مقررا، وذلك بسبب "خطورة الوضع على الصعيد الامني".
في غضون ذلك، قال أولمرت ان قتل عرفات خيار مطروح في تهديد إسرائيل "إزاحة" عرفات بصفته يمثل عقبة أمام إحلال السلام. واعلن لإذاعة إسرائيل ان "قتله أحد الخيارات المطروحة. اننا نحاول القضاء على كل رؤوس الإرهاب، وعرفات احد رؤوس الإرهاب".
من جهة أخرى، قال محللون ومسؤولون ان الحكومة الإسرائيلية قد تقدم على تنفيذ قرارها بالتخلص من عرفات ما لم يتخذ إجراءات جدية ضد المقاومين. وابدى محللون تخوفهم من إقدام إسرائيل على اتخاذ خطوة مصيرية ضد عرفات في حال وقوع عملية تفجيرية داخل إسرائيل في الفترة المقبلة.
ويرى المحلل الإسرائيلي لصحيفة "هارتس" عكيفا الدار ان مصير عرفات اصبح محكوما بثلاثة عوامل اولها الرأي العام الإسرائيلي وثانيها ارضاء اليمين الإسرائيلي المسيطر على مقاليد الحكم وآخرها وتيرة العمليات الانتحارية داخل إسرائيل. وأضاف "الآن اي عملية لحماس ستكون هدية للحكومة الإسرائيلية تعزز ضرورة التخلص من عرفات". واضاف الدار ان "جميع الاحتمالات واردة" ولا شيء مستبعدا مع حكومة يتزعمها شارون.
وقالت وسائل الاعلام الإسرائيلية انها تخشى ان يعزز المنفى صلابة وشعبية عرفات وان يواصل عمله السياسي من الخارج وبذلك تكون إسرائيل قد عززت سيطرته على القادة الفلسطينيين.