سجل القوانين الإسرائيلي لا يتضمن تشريعاً يحظر ارتكاب جرائم حرب ويعاقب عليها باعتبارها كذلك

ابحاث ودراسات

تعقيبًا على المقابلة مع أبراهام بورغ في مجلة "قضايا إسرائيلية"

لم تعد إسرائيل هي نفسها التي كانت في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، بالنسبة إلى مواطنيها اليهود، فلقد انتهى الحلم الإسرائيلي بالنسبة إلى هؤلاء، وظهرت إسرائيل الواقعية بإشكالياتها وتناقضاتها.

 

 مثلاً، عندما قامت إسرائيل روّجت لنفسها باعتبارها الملاذ الآمن لليهود في العالم، فإذا بها أقل أمناً لهم من أي مكان آخر، فوق أنها أضحت عبئاً عليهم. وبينما نشأت هذه الدولة لإيجاد حلّ قومي لـ "الشعب" اليهودي، إذا بها تطرح مشكلة أخرى تتمثّل بوجود "شعب" إسرائيلي. وفي حين اُعتُبِرت إسرائيل "واحة" للحداثة، والديمقراطية الوحيدة، في المنطقة، إذا بها تبدو بمثابة دولة دينية شرق أوسطية أخرى، وتُعرّف كدولة عنصرية، تميّز على أساس الدين.

وفي غضون كل ذلك فإن إسرائيل لم تعد الدولة النموذج، المعنية بتأمين أعلى مستوى رفاهية لليهود فيها، لجذب المهاجرين إليها، بخاصّة بعد أن أخذتها رياح النيو- ليبرالية المتوحّشة، فخصخصت قطاعاتها العامة، وهمّشت مؤسساتها الكبرى (الهستدروت والكيبوتسات والموشاف)، وقلّصت التقديمات الاجتماعية.

لقد ساهمت عوامل عديدة في إحداث هذه المتغيرات من ضمنها:

1- التغيّر الديمغرافي، ويتمثّل في هجرة حوالي مليون يهودي من روسيا جاؤوا إليها، في عقد التسعينيات، لأغراض استعمارية، نفعية، بحتة. هذا يفسّر أن هؤلاء، وجلّهم من النخبة، باتوا من عتاة المتطرّفين في إسرائيل ومن المحسوبين على الاتجاه القومي ـ اليميني، والمتمسكين بسياسة التوسّع والاستيطان، ولهم حزب (إسرائيل بيتنا) يتزعمه أفيغدور ليبرمان (وزير الخارجية).

2- تصاعد نفوذ التيارات الدينية وازدياد قدرتها على ابتزاز الأحزاب الكبيرة والتحكم بتشكيل الحكومة. هذا الوضع جعل رجال الدين يتحكمون بالتشريعات القانونية وبمناهج التعليم والسلوكيات في المجتمع؛ وضمن ذلك الحط من مكانة المرأة وتقييد حريات الصحافة وأنشطة منظمات المجتمع المدني. ومعلوم أن هذا الوضع بات يضغط على الاتجاهات العلمانية التي تبدي تبرّمها وتحذّر من تحوّل إسرائيل دولة دينية في المنطقة، حتى أن ثمة من بات يتحدث عن وجود شعبين وثقافتين، أي العلمانيين من جهة والمتدينين من الجهة الأخرى. ومعلوم أن ذلك ينبع من التناقض الذي نشأ مع قيام إسرائيل التي برّرت نفسها بالأسطورة اليهودية ("أرض الميعاد" و"شعب الله المختار") رغم ادعائها أنها دولة علمانية، وكذا في اعتبار اليهودية بمثابة قومية.

3- ثمة عامل ينبغي الانتباه له (وهو ما كشف عنه أبراهام بورغ) وهو ناتج عن العلاقة الخاصّة التي تربط إسرائيل بالولايات المتحدة الأميركية. وعند بورغ فإن هذه العلاقة أثّرت سلباً على محمولات إسرائيل العلمانية، باعتبار أن الولايات المتحدة هي دولة دينية بمعنى ما، ولا سيما أن المسيحية الانغليكانية (المنتشرة في أميركا) تعلن دعمها المطلق للرواية الإسرائيلية، في حين أن "أوروبا أكثر علمانية وأكثر واقعية"؛ بحسب بورغ. والقصد هنا أن إسرائيل التي باتت أقل أوروبية وأكثر أميركية، باتت أيضاً أقل علمانية وأكثر دينية من ذي قبل. هذا كله يفسّر ملاحظة سبق أن ذكرتها بشأن أن إسرائيل باتت تتكشف عن كونها ظاهرة رجعية تسير عكس عجلة التاريخ، أي استعمارية وعنصرية ودينية، في حين أن المنطقة العربية، وعلى وقع رياح الثورات العربية، تحاول حثّ الخطى في اتجاه العودة إلى التاريخ، بقيام دولة المواطنين الديمقراطية ـ المدنية.
ويجدر لفت الانتباه هنا إلى أن هذه القراءة لإسرائيل باتت تجد سندا لها عند الإسرائيليين أنفسهم، الذين يرون أن دولتهم لم تعد ذاتها، وأنها تتحوّل في اتجاهات سلبية، قد تمهّد لتفكّكها وأفولها. هذا ما يؤكّده شخص بحجم أبراهام بورغ، وهو احد زعماء حزب العمل السابقين، ورئيس كنيست سابق، في مقابلة معه، أجراها أنطوان شلحت وبلال ضاهر لمصلحة مجلة "قضايا إسرائيلية" (الصادرة عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار، عدد شتاء 2012) لمناسبة ترجمة كتابه "لننتصر على هتلر".

ففي هذه المقابلة المهمة جدًا يرى بورغ أن إسرائيل "أصبحت أقل استقلالية مما كانت عليه إبّان قيامها"، وأنها "تحوّلت متحدثة باسم الموتى... باسم كل أولئك غير الموجودين، أكثر مما تتحدّث باسم كل أولئك الموجودين". وعنده فإن "الدولة التي تحيا على سيفها، والتي تسجد للموتى، مآلها أن تحيا في حالة طوارئ دائمة". وبالنسبة إلى تعريف إسرائيل لذاتها "دولة يهودية"، فبرأيه "يستحيل أن يتعايش تحت سقف واحد مع تعريفها بأنها ديمقراطية" والبديل عنده يكمن في "تحويلها دولة جميع يهودها وجميع مواطنيها".

وينعي بورغ "الحلم" الإسرائيلي بقوله: "في صبانا كانت إسرائيل مختلفة. كانت علمانية واشتراكية. تحولت إسرائيل من حيث بنيتها فأصبحت دولة رأسمالية ودينية... الدولة في 2011 ليست الدولة نفسها التي كانت في 1948".

كما ينعي تيار اليسار الذي يحمله مسؤولية تأسيس إسرائيل على أساطير من نوع: "شعب بلا أرض لأرض بلا شعب" الخاطئة "لأنها تتجاهل العرب". كما يحمله مسؤولية قيام المشروع الاستيطاني، ومسؤولية تقويض اتفاق أوسلو في كامب ديفيد (2000) بدعوى أنه لم يعد ثمة شريك للتسوية.

وفي ما يخصّ الفلسطينيين فإن بورغ يؤكد على "أنَّ اليهود الذين كثيرًا ما كان يتم في السابق تشريدهم، يشكِّلون هم بالذات سبب تشريد الفلسطينيين". وأنه إذا كان "يتعين على الإسرائيليين ألاَّ ينسوا المحرقة... ينبغي لهم أن يتعلموا... ضرورة عدم تكرار ما حدث" عليهم وعلى غيرهم.

أما بالنسبة إلى عملية التسوية فإن بورغ يعتقد بأن "معادلة دولتين لشعبين لفظت أنفاسها". والبديل عنده يكمن في "طرح نموذج لا يبدأ من حل القضايا القومية وإنما من الالتزام بالقضايا الاجتماعية، حيث لا فرق بين اليهود والعرب، أي بمساواة كاملة. وهذا يستلزم ألا تكون إسرائيل دولة يهودية ديمقراطية وإنما دولة ديمقراطية، توجد فيها غالبية يهودية تقوم بتقاليدها في إطار نوع من الحكم الذاتي الثقافي، والأقلية غير اليهودية تقوم بتقاليدها باحترام في إطار اجتماعي في دولة جميع مجتمعاتها. وجميع المواطنين متساوون أمام الديمقراطية". هكذا "يكون لكل إنسان يعيش... بين نهر الأردن والبحر المتوسط الحق نفسه والمساواة نفسها... إذا كنت يهوديا أو عربيا، رجلا أو امرأة، حريدياً أو علمانياً. لكل إنسان الحق نفسه، أن يَنتخب ويُنتخب، الحق في الحياة... في التنظيم... في التعبير عن الرأي وما إلى ذلك... في دولة جميع مواطنيها... الخلاص هو في الاندماج في الشرق الأوسط... إلى حد العلاقات التامة بين الأفراد والأبناء..."، بحيث "يصبح الشعب اليهودي ودولته جزءا عضويًا من الأسرة البشرية في العالم أجمع، لا مخلوقا وجوديا، مستقلا، مميزا ومنفصلا لا ينتمي إلى التاريخ".

يقول بورغ: "أنا شخصيا أريد الاندماج... أريد أن تكون هناك دولة واحدة مدنية ومساواة في الحقوق لكل إنسان بين النهر والبحر. أريد أن يكون الحكم في البلاد اشتراكياً أكثر وعلى غرار الدول الإسكندنافية، وأن تهتم الدولة بأمور أكثر من اليوم. أريد توزيعا مختلفا للثراء في المجتمع. أريد توزيعا مختلفا لتحمل الأعباء والمسؤولية الاجتماعية المدنية والقومية".

إن كلام بورغ هذا قد لا يكون له شعبية كبيرة في إسرائيل، لكنه مترسّخ في خطابات النخبة الثقافية فيها، وهو مؤشّر مهم يكشف التناقضات التي تعتور إسرائيل، فضلا عن أنه يدلّ على تفوّق النخب في إسرائيل علينا حتى في إنتاج نقدها لأوضاعها.

والمشكلة أن الطبقة السياسية السائدة عندنا ما زالت تتعامل مع إسرائيل باعتبارها كتلة صماء، ووفق مفاهيم أكل الدهر عليها وشرب!

_________________

(*) باحث وكاتب سياسي فلسطيني- دمشق.