تحت غطاء "مكافحة الإرهاب"، مشاريع قوانين حكومية تحاول إضفاء طابع مؤسسي على الملاحقة السياسية!

تقارير، وثائق، تغطيات خاصة

شكلت أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر لحظة فارقة في خطاب "اليسار" أو ما يطلق عليه اسم "معسكر السلام" في إسرائيل، حيث ظهرت بوادر مراجعات ذاتية لدى اليسار الإسرائيلي فيها نوع من جلد الذات، ليس فقط نابعة من الأحداث، وهي ذات أثر كبير عليه بسبب تأطيرها بأنها "هجمات ضد اليهود لأنهم يهود"، بل أيضاً ناجمة عن تعرّض أجزاء من هذه الشريحة نفسها إلى تلك الهجمات في "غلاف غزة". في هذا الصدد اختلطت الصدمة السياسية والأيديولوجية مع الصدمة والألم الشخصي لدى شرائح اجتماعية في هذا المعسكر.

تهدف هذه الورقة إلى إجراء مراجعة وقراءة أولية لخطاب اليسار أو "معسكر السلام" في إسرائيل بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023، ولن تفي هذه الورقة الموضوع حقه، ولكنها بداية لدراسة بهذا الشأن.

وتعتمد هذه المراجعة الأولية على مقالات نشرت في صحيفة "هآرتس" (باعتبارها معبّرة عن هذا اليسار) في باب مقالات الرأي وفي ملحقها الثقافي. ونستعرض عينة منها للتدليل على المقولات الموجودة في أغلبها، التي لا يسع المجال لعرضها جميعاً.

وتنطلق هذه الورقة من مجموعة من المقولات سندلل عليها بعد مراجعة عينة من نصوص مثقفي اليسار:

المقولة الأولى تنطلق من أن اليسار اتخذ في البداية وبسبب الصدمة منحى جلد الذات على أحداث السابع من أكتوبر بدل جلد اليمين فكرياً، معتبراً أن ما حدث يُعبر عن إخفاق فكري وسياسي لمعتقداته، في حين أن النقد الموجه إلى الحكومة التي مثلت اليمين تمحور في الجانب الإجرائي مثل عدم أهلية الوزراء، وإضعاف الجهاز البيروقراطي، ومهاجمة السلطة العسكرية وعدم التحضير والجهوزية لحالة الطوارئ. ومع إطالة الحرب على غزة بدأت أصوات يسارية تظهر تجلد اليمين على سياساته في الضفة الغربية. تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أنه مؤخراً بدأت تظهر مقالات تستأنف على جلد الذات، وتؤكد أن فشل اليسار ليس في أفكاره التي يحاول مراجعتها بعد أحداث السابع من أكتوبر، بل في عدم تنفيذها، بل وتعتقد أن الحل هو سلام مع الشعب الفلسطيني وحالاً[1].

المقولة الثانية تتعلق بصدمة اليسار في إسرائيل من موقف اليسار في العالم من الأحداث سواء ما حدث في السابع من أكتوبر أو ما يحدث في قطاع غزة، وهو موقف يحظى بإجماع اليسار تقريباً والذي يعبر عن خيبة الأمل وحتى اعتبار موقف اليسار العالمي من الأحداث خيانة لليسار في إسرائيل وخيانة لقيمه، حيث تبنى اليسار في إسرائيل بشكل نظري وعملي موقف اليمين من الحركات اليسارية العالمية وحركة التضامن مع فلسطين، معتبراً إياها إما أنها معادية للسامية في الحالة السيئة، أو أنها متشوهة أخلاقياً وفكريا في الحالة الجيدة.

أما المقولة الثالثة فتتعلق برفض اليسار في إسرائيل فكرة السياق، أي ربط الأحداث في السابع من أكتوبر بأي سياق سياسي أو اجتماعي أو تاريخي يتعلق بالصراع، وهو بذلك يتبنى مقولات اليمين، وخاصة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو حول صراع الخير والشر.

اليسار العالمي

شكلت مواقف حركات اليسار في العالم، أو حركات التضامن مع فلسطين على أنماطها المختلفة، الصدمة الأكبر لليسار الإسرائيلي، الذي كان يعتبر نفسه جزءاً منها، معلناً حالة الانفصال عن هذه الحركات، معتبرا إما أن هذه الحركات تعاملت مع هجمات السابع من أكتوبر كجزء من الصراع ضد الكولونيالية، أو أنها عبرت عن تضامنها مع الضحايا الفلسطينيين أكثر من الضحايا الإسرائيليين، أو لأنها حاولت فهم الهجمات ضمن سياق الصراع الوطني بين الحركة الوطنية الفلسطينية وإسرائيل.

لم يقبل اليسار في إسرائيل أيّاً من هذه المقولات السياسية والفكرية لليسار العالمي فيما يتعلق بالحرب على غزة. ففي مقال لها بعنوان "لم يعد معسكري"، أعلنت المثقفة اليسارية اليهودية إيفا إيلوز عن تبرئها من معسكر اليسار في العالم، وكتبت تقول: "في الماضي اعتقدت أنني أنتمي إلى معسكر اليسار، ذلك الذي ستنتفض حساسيته السياسية ضد الكوارث... معسكري لم يعد كذلك. جزء كبير من اليسار العالمي، المعسكر الذي دافع عن المساواة، الحرية والكرامة في القرنين الماضيين، احتفل بأخبار المذبحة ("انتفاضة ضد الكولونياليين") أو رفضها من خلال استراتيجيات فكرية سخيفة"[2].

خرجت إيلوز ضد مقولة اليسار في العالم، خاصة الحركات الطلابية واليسارية في أوروبا ومحاضرين في الجامعات الأميركية، أن إسرائيل هي المتهمة والمسؤولة عن الأحداث، المتهمة الوحيدة والحقيقية، أو أنهم يتضامنون مع الضحايا الفلسطينيين ويتجاهلون الضحايا الإسرائيليين، أو يذكرونهم بصورة هامشية أو يساوونهم مع الفلسطينيين.

وفي مقال بعنوان "ببساطة اخرسوا"، يهاجم الكاتب نيسان شور المظاهرات التي نظمها اليسار في أوروبا والولايات المتحدة ضد إسرائيل، قائلا "أنا غاضب على من كنت اعتقد أنهم يشاركونني قيما مشتركة. اليسار، النزعة الإنسانية، حقوق الإنسان، حقوق النساء، حقوق المثليين. يبدو أنني أخطأت، كلنا أخطأنا"[3]. ويعتقد شور بأن موقف اليسار العالمي في هذه القضية هو انهيار للأساس الإنساني الذي اتكأ عليه اليسار بعد الحرب العالمية الثانية، وبرأيه، فإن موقفه كشف عن وجود مركب من اللاسامية في حركة التضامن مع فلسطين ونقد إسرائيل، ويقول "ترعرعت [على مقولة والده] على الشعار "كلهم معادون للسامية"، والآن ماذا تبقي لي؟ أن اعترف أن والدي كان صادقا؟ يا ويلاه، فقط ليس هذا"[4].

وقد وصف الكاتب والصحافي أوري مسغاف اليسار الغربي بالنفاق، وعملياً تبنى في مقالة كتبها توجه اليمين بعدم التفرقة بين حماس وسكان غزة، "حسب اليسار الغربي، دم الإسرائيليين قرمزي أقل من الآخرين. ممنوع على إسرائيل الرد بقوة على الغزو لحدودها السيادية، ولا على ذبح 1300 من سكانها في منطقة ليس عليها خلاف سياسي، وخطف 200 آخرين لقطاع غزة، والذي انسحبت إسرائيل منه منذ 17 عاما، وإذا مسموح لها الرد، أو أن تفكر بالرد، فعليها أن تكون "معقولة"، وأن تركز فقط على القتلة من حماس والجهاد الذين يختبئون في الأنفاق ومستمرون في إطلاق القذائف على مواطني إسرائيل، وكأن الحديث ليس عن حركة سلطة وذات شعبية، وتتمتع بتأييد وتماه واسعين، وفي كل الأحوال تتحمل مسؤولية شاملة عن مصير مليوني فلسطيني في منطقة سلطتها"[5].

وتحاول الباحثة زيفا شتيرنهيل أن تقدّم تفسيراً لموقف اليسار العالمي من هجمات السابع من أكتوبر، معتبرة أن الحرب كشفت عن لغة مشتركة بين النزعة البيبية (نسبة إلى بيبي نتنياهو)، التي تمثل النزعة الشعبوية، والاستهتار بقيم الأخلاق العالمية من خلال تقديس الكذب والعنف الكلامي، وبين اليسار المتطرف في العالم، وتعتبر أن كليهما ينطلقان من أرضية فكرية واحدة ولغة واحدة، وتلخصها في اعتبار أن الأخلاق لديهما هو مبدأ فردي فضفاض، ومعرفة تعمل بداخلها القوة والسيطرة، واعتبار الهوية الثقافية هي الأساس، ولها حصانة (أي الهُوية) حتى لو أدت إلى إنتاج أصولية دينية عنيفة[6].

السياق

ليس هنا المقام لنقاش نظري حول مفهوم السياق في فهم الأحداث السياسية والاجتماعية، وهو الإطار الأهم في العلوم الاجتماعية. وترتبط فكرة السياق بمسألة اليسار التي ذكرناها سابقاً. وإن جزءاً من الغضب على اليسار العالمي هو طرحه فكرة السياق حيال الأحداث. ويرفض اليسار في إسرائيل تحليل ما حدث في السابع من أكتوبر ضمن سياق، فالسياق غير موجود وغير قائم، معتبرا أن الحديث عن أي سياق للحدث هو منح مصداقية له، حتى لو كان الغرض تحليله وفهمه وليس تفهمه. وهذا هو الذي أثار غضب إسرائيل من تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، الذي قال إن هجمات حماس لم تحدث من فراغ، حيث طالب مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة جلعاد إردان غوتيريش بالاستقالة.

وقد انتقدت إيلوز في مقالها الذي جئنا على ذكره في السابق، إدراج سياق الاحتلال أو القمع لفهم أحداث السابع من أكتوبر، حتى أنها وجهت نقداً للأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش الذي قال إن الأحداث لم تأت من فراغ. لذلك ترفض إيلوز ذكر السياق في اتخاذ الموقف أو فهم ما حدث في السابع من أكتوبر معتبرة ذلك نوعاً من الغباء، والكسل الفكري، وحتى أنها ترفض المقارنة أو وضع الأصولية الدينية لدى الطرفين في نفس الخانة. كما أنها ترفض السياق لأن لا حدود له، مع خروجها ضد سردية الكولونيالية وربط كل الأحداث بالسياق الكولونيالي[7].

في مقال آخر يناقش ألكسندر يعكوبسون فكرة السياق الكولونيالي وربطه مع ما حدث في السابع من أكتوبر، وفي نفس الوقت ينتقد بشدة اليسار العالمي، كما يسميه، لتفهمه هجمات حماس في سياق نزع الاستعمار، والتي تعتمد على مقولات فرانس فانون الذي برأيه أعطى المصداقية لقتل الكولونياليين بدون إقامة حدود بين النظام الكولونيالي والمستوطنين الكولونياليين، معتبرا أن صدمة اليسار الإسرائيلي من اليسار العالمي ليس فيها منطق لأن أفكاره كانت دائما هكذا، معتبرا أن الرئيس الأميركي جو بايدن هو رجل اليسار الريادي في العالم. واعتبر يعكوبسون أن النزعة الإنسانية المتمثلة بعدم المسّ بالأبرياء، يجب أن تكون جزءاً من نزع الاستعمار، وهو بتصوره سقوط أخلاقي لليسار العالمي بسبب تأييده قتل الأبرياء، على حدّ قوله[8].

وكتبت ليلخ فولاخ مقالا بعنوان "كل ما يثيرني القول عن اليسار الدولي هو فاك- يو"، وتعتبر فيه أن محاولة تأطير اليسار لأحداث السابع من أكتوبر في سياق هو انهيار لليسار الدولي، وذلك باعتباره أن هجمات حماس هي جزء من الثورة الفلسطينية المشروعة. وتستنتج أن الزعم بأن موقفنا هو موقف اليسار العالمي انهار، وبناء عليه فاليسار الإسرائيلي ليس جزءاً من اليسار العالمي[9].

وأشار الأديب الإسرائيلي يانيف إتسكوفيتش، في مقال له بعنوان "7 من أكتوبر غيرني، غيرنا"، أنه لا يزال يعتقد بعدم أخلاقية الاحتلال والمستوطنات، ولكنه تجنّد للجيش في هذه الحرب ضمن قوات الاحتياط، لأن ما حدث في السابع من أكتوبر ليس له علاقة لا بالاحتلال ولا بالصراع على الأرض، بل بقرار منظمة إرهابية قررت إرسال مقاتليها لتعذيب وقتل أبرياء، وإذا لم يتم إيقافها فلن تتوقف في غلاف غزة[10].

إجمال

يرفض اليسار الإسرائيلي أو ما يسمى "حركة السلام" في إسرائيل، في معظمه، مقولات اليسار العالمي حول أحداث السابع من أكتوبر، والتي تتعلق بفكرة السياق، السياق لفهم ما حدث. وإن التوجه العام لدى هذا اليسار هو جلد الذات، وليس جلد أفكار اليمين، مع التأكيد على أن هنالك نصوصاً تؤكد صدقية مقولات اليسار تجاه الصراع ولكنها لا تزال قليلة، وتكتب كملاحظة هامشية، والحدث الأكبر هو ما حصل في غلاف غزة. لا يقبل اليسار في إسرائيل أي حديث عن السياق، ولا تأطير الأحداث والحرب في سياق الواقع الكولونيالي أو سياق الصراع على الأرض، ومنهم من بدأ يتهم حركة اليسار العالمية المتضامنة مع معاناة سكان قطاع غزة إما بمعاداة السامية، أو النفاق، أو الجهل الفكري، أو الكذب، كما يرفض أي مساواة بين المعاناتين أو بين الألمين.

 

[1] ميني ماوتنر، سلام مع الشعب الفلسطيني الآن، هآرتس، 26/10/2023، ص: 11.

[2] إيفا ايلوز، لم يعد معسكري، هآرتس، 3/11/2023، ص: 16.

[3] نيسان شور، ببساطة اخرسوا، غاليريا- ملحق هآرتس الثقافي، 27/10/2023، ص: 7.

[4] المصدر السابق.

[5] أوري مسغاف، اليسار الغربي ليس منافقاً [فقط]، بل مجنون، هآرتس، 19/10/2023، ص: 2.

[6] زيفا شتيرنهيل، في هذه الحرب، لليسار المتطرف ولأصحاب النزعة البيبية لغة مشتركة، ملحق هآرتس الأسبوعي، 3/11/2023، ص: 35.

[7] إيفا ايلوز، لم يعد معسكري، مصدر سبق ذكره.

[8] ألكسندر يعكوبسون، نزع الكولونيالية في غلاف غزة، هآرتس، 30/10/2023، ص: 11.

[9] ليلخ فولاخ، كل ما يثيرني القول عن اليسار الدولي فاك- يو، غاليريا- ملحق هآرتس الثقافي، 23/10/2023، ص: 5.

[10] يانيف إتسكوفيتش، السابع من أكتوبر غيرني، غيرنا، هآرتس، 3/11/2023، ص: 16.