تقرير جدير لمركز "كيشف": تفاقم التهديدات لحرية الصحافة في إسرائيل خلال العام الأخير

وثائق وتقارير

معطيات إحصائية رسمية تقرّر التوقف عن نشرها على الملأ

*"مؤتمر القضاء" الذي عقدته نقابة المحامين في لواء تل أبيب يخصص جلسة لهذا الموضوع الذي يثير جدلا حادا وواسعا بين الأوساط القضائية والحقوقية*

 

 بقلم: سليم سلامة

 لم يكن من قبيل الصدفة أن المنظمين والقيمين على "مؤتمر القضاء" الذي عقد في أواخر شهر آب الأخير في مدينة تل أبيب أقدموا على تخصيص إحدى جلسات المؤتمر للبحث في موضوع "القانون الجنائي والجمهور في إسرائيل - مُعدّلات الإدانة"، ذلك أن من بين أبرز الحقائق التي تخص القضاء الإسرائيلي واحدة ينبغي أن تدب الرعب، دونما أية مبالغة، ليس في قلوب المتهمين الذين يمثلون أمام القضاء الجنائي في إسرائيل فقط، بل في قلوب أي مواطن إسرائيلي يمكن أن يتم تقديمه يوما، ولو بالاحتمال، إلى محاكمة جنائية. وهي الحقيقة التي تتمثل في الأرقام حول معدل الإدانات (قرارات الحكم التجريمية) في المحاكم الجنائية الإسرائيلية! وهو المعدل الأعلى، على الإطلاق، وفق الإحصائيات الرسمية، بين كل الدول "الغربية" التي تعلن إسرائيل انتماءها إلى حظيرتها!

وهذه الحقيقة، بالرغم عن فظاعتها، وإن يكُن صخبها الإعلامي قد ارتفع في الآونة الأخيرة بوجه خاص على خلفية تقديم لوائح اتهام جنائية بحق عدد كبير من القادة السياسيين والجماهيريين في إسرائيل، لا تزال غائبة عن وعي الغالبية الساحقة من الجمهور الإسرائيلي الذي يعيش تحت وطأتها ويعاني من تداعياتها، لكنها تقض – في المقابل – مضاجع المهنيين المشتغلين في مجالات القانون والقضاء والحقوق وتثير جدلا واسعا وحادا بينهم، منذ زمن غير قصير.

 

الإحصائيات التي

لا تُعجبكَ... أُشطبها!

 

وللتدليل على مدى فظاعة هذه المسألة، وما تعنيه بالنسبة لعموم المواطنين في إسرائيل، تنبغي الإشارة إلى أن هذه الأرقام - جميعها، وإن بدت خيالية لا يمكن أن يتقبلها عقل - مأخوذة من المعطيات الرسمية التي درج على نشرها مكتب الإحصاء المركزي الرسمي (وهو ذراع حكومية) في تلخيصاته السنوية للمداولات القضائية الجنائية التي تجري في المحاكم الجنائية في إسرائيل:

· في العام 2004 – 8ر99% من لوائح الاتهام الجنائية التي تم تقديمها إلى المحاكم في إسرائيل انتهت بإدانة المتهم وتجريمه. ومعنى هذا، أنه من بين كل 1000 متهم تم تقديم لوائح اتهام جنائية بحقهم، لم تبرئ المحاكم سوى شخصين اثنين فقط، بينما انتهت إلى إدانة الـ 998 الآخرين، جميعا!

· في العامين 2005 و 2006 - ارتفعت نسبة الإدانات إلى 9ر99%! ما يعني أنه من بين 1000 لائحة اتهام جنائية تم تقديمها خلال العامين المذكورين، انتهت 999 منها بإدانة المتهم، بينما لم يفز بالبراءة سوى متهم واحد فقط من بينهم!!

· في العام 2007 - طرأ "تحسن نسبي" بانخفاض نسبة الإدانات إلى 6ر98% من بين لوائح الاتهام الجنائية التي تم تقديمها إلى المحاكم في إسرائيل. ومعنى هذا، أنه من بين كل 1000 متهم تم تقديم لوائح اتهام جنائية بحقهم، لم تبرئ المحاكم سوى 14 شخصا فقط، بينما انتهت إلى إدانة الـ 986 الآخرين!

· في العام 2008 – عادت نسبة الإدانات إلى الارتفاع فبلغت 7ر99%، أي تمت إدانة 997 متهما من بين كل 1000 تم تقديم لوائح اتهام بحقهم، مقابل تبرئة 3 متهمين فقط!!

وعند هذا الحدّ، توقف مكتب الإحصاء المركزي الرسمي في إسرائيل عن نشر أية معطيات حول هذا الموضوع، وذلك استجابة لطلب صريح وجهته إليه "النيابة العامة" بدعوى أن "هذه الأرقام مغلوطة ومُضلِّلة"! ولا عجب في ذلك، قط! فقد حاولت النيابة العامة (وهي الجهة المخولة، قانونيا، صلاحية تقديم لوائح اتهام جنائية) تبرئة ذمتها والدفاع عن سياستها وأدائها بالادعاء بأن "غالبية الملفات الجنائية التي توضع على طاولة النيابة لاتخاذ قرارات بشأنها يتم إغلاقها لأسباب شتى. فالنيابة تحكّم اعتبارات مهنية قضائية وتبرّئ – في مرحلة اتخاذ القرار بشأن الملف قيد البحث – نحو النصف من المتهمين. وإذا ما أخذنا هذه الحقيقة في الحسبان، فعندئذ تكون نسبة الإدانات الجنائية في الحاكم أقل من 50%"!

وخلال المؤتمر المذكور، الذي نظمته نقابة المحامين في لواء تل أبيب (يوم 28 آب الأخير) عُرضت نتائج بحث خاص حول الإدانات الجنائية في إسرائيل أجراه قسم المعلومات والأبحاث التابع للمحكمة العليا الإسرائيلية بالتعاون مع جامعة حيفا، في شهر أيار الأخير، والتي أظهرت معدلات إدانة أقل من تلك التي توصل إليها مكتب الإحصاء المركزي، بكثير، إذ بلغت وفقا لهذا البحث نحو 65% "فقط"! وقد هبّت مديرة قسم المعلومات والأبحاث هذا، كيرن فينشل، لنجدة النيابة العامة فقالت: "ثمة كلمة طيبة يمكن قولها عن معطيات الإدانة الصادرة عن مكتب الإحصاء المركزي: إنهم توقفوا عن نشرها"!!

 

"أيام ستالين"...

 

وخلال المؤتمر المذكور، شارك النائب العام للدولة، موشي لادور، الذي لم يكتف بوصف الإحصائيات (الرسمية) بأنها "كاذبة ومضللة"، بل ذهب إلى شرح "آليات العمل" التي تعتمدها النيابة العامة في شأن تقديم لوائح اتهام جنائية، فقال: "نحن نقرر تقديم لائحة اتهام حينما نرى أن الأدلة المتوفرة تضمن احتمالا معقولا لإدانة المتهم.... احتمال معقول، وليس مؤكدا، بشأن النتيجة التي يمكن أن تتوصل إليها المحكمة. نحن لا نريد العيش في دولة تقتصر النتائج المضمونة والمؤكدة فيها على الملفات التي نقدم لوائح اتهام بشأنها فقط".

وقال المحامي تسيون أمير (الذي كان أحد محامي الدفاع عن رئيس الدولة السابق، موشي قصاب، الذي أدين بالاغتصاب) خلال الجلسة نفسها: "نعم، قد تكون الإحصائيات كاذبة. وليس الآن فقط، بل على طول الطريق. لكن المسألة الأهم لا تكمن في الأرقام، بل في الإحساس الباطني وفي مدى ثقة الجمهور الإسرائيلي بالقضاء الإسرائيلي وأذرعه المختلفة". وأضاف: "إن السؤال في نهاية المطاف هو التالي: حين يدخل إنسان ما إلى قاعة المحكمة، فهل يدخل بشعور من الرعب والهلع، أم بشعور من الثقة التامة بأن المحكمة ستصدر قرارا صائبا وعادلا؟ .... إن الجهاز القضائي، في رأيي، هو الذراع الأكثر أهمية في النظام الديمقراطي، لكن النهج السائد قد يفضي إلى انعدام ثقة الجمهور بهذا الجهاز"!

وهنا حاول لادور الاستدراك وتبرير "النهج" المشار إليه بـ "الخطأ" (الإنساني!) فقال: "أتفق معك تماما... جميعنا قد يخطئ. فقد تتم إدانة شخص كان يستحق التبرئة، أحيانا، وقد تتم تبرئة آخر كان يستحق الإدانة، أحيانا أخرى"!

وكانت من بين المشاركات في تلك الجلسة، أيضا، القاضية في المحكمة المركزية في تل أبيب نوريت أحيطوف، التي قالت إن "نسبة الإدانات التي تصل إلى 99% لم تسجل إلا في عهد الدكتاتور السوفياتي ستالين، لكن إسرائيل بعيدة عن ذلك"! فعلّق المحامي تسيون أمير قائلا: "نحن لسنا بعيدين عن أيام ستالين"!

 

صفقات الادعاء – أداة النيابة

العامة لابتزاز المتهمين!

 

ثمة من يدعي، في معرض تفنيد المعطيات الرسمية (تلك التي كان يصدرها مكتب الإحصاء المركزي وتوقف عن نشرها، ابتداء من "الدليل الإحصائي للعام 2011")، بأن ثمة فيها التباسا مبعثه أن تلك الأرقام تشمل، أيضا، الإدانات التي تمت من خلال "صفقات الإدعاء" (اتفاقات تفاوضية بين النيابة والدفاع لتخفيف / تعديل بنود التهام وتخفيف العقوبة) وكذلك قرارات التبرئة الجزئية. لكن حجة "الالتباس" تبدو واهية بالنظر إلى الصورة العامة التي ترتسم من تلك المعطيات، على نحو ثابت سنة تلو أخرى، والتي تبقى، رغم المبعث المذكور، في غاية الوضوح والخطورة. ومع ذلك، فإن "الصورة الحقيقية هي أشدّ تعقيدا حتى من تلك التي تعكسها المعطيات"، كما يقول رئيس هيئة "الدفاع العام" في وزارة العدل، د. يوآف سبير، موضحا أن سبب ذلك يعود إلى أن "هذه المعطيات تشمل، أيضا، قرارات الإدانة في الحالات التي تتم فيها تبرئة المتهم من بنود الاتهام الرئيسة، فيما تتم إدانته ببنود ثانوية تماما، لكنها لا تشمل، من الجهة الأخرى، جميع الحالات التي يتم فيها شطب لوائح الاتهام وإلغاؤها تماما".

وتثير الإدانات الجنائية التي تقررها المحاكم عبر "صفقات الادعاء" وبواسطتها أشد الغضب وأبلغ القلق في أوساط القضائيين والحقوقيين المهتمين بحقوق المواطن والإنسان، نظرا لما أثبتته النيابة العامة، بالممارسة، من دأب ثابت على استغلال هذه الآلية (صفقات الادعاء) على النحو الذي يضمن بقاءها، ليس الوحيدة المخولة صلاحية تقديم لوائح الاتهام – كما يقتضي القانون – بل يجعلها، أيضا، صاحبة القول الفصل في الأغلبية الساحقة من الملفات الجنائية في إسرائيل.

فالنيابة هي التي تقرر بشأن بنود الاتهام (عددها وتصنيفها) التي يتم توجيهها إلى المتهم. ويذهب غير قليل من رجال القانون المعارضين لسياسة تشجيع "صفقات الادعاء" إلى حد توجيه اتهام خطير جدا للنيابة العامة، نهجها ومسؤوليها، بالقول: "أحيانا، يخيّل أن النيابة تتقصد تضمين لوائح الاتهام بنودا لا أساس لها فقط من أجل التنازل عنها في مرحلة التفاوض لعقد صفقة الادعاء"! وهذا ما يقوله، مثلا، البروفسور بوعز سنجيرو، رئيس قسم القانون الجنائي وعلوم الجريمة في المركز الأكاديمي للقانون والأعمال في رامات غان (في مقال نشره على موقع "واي نت" – 3/9/12): "جميع الملفات الجنائية، تقريبا، تنتهي بعقد صفقات ادعاء. وفي هذه الصفقات - طبقا لتعريفها – تتنازل النيابة عن جزء من بنود الاتهام (أو عن عقوبات مشددة). ومعنى هذا أن الجزء الأكبر من الحالات التي يصنفها البحث الجديد (البحث الذي أجراه قسم المعلومات والأبحاث التابع للمحكمة العليا الإسرائيلية بالتعاون مع جامعة حيفا، كما ورد آنفا – س.س.) على أنها "قرارات تبرئة" هي، في الحقيقة، ليست قرارات تبرئة قضائية صادرة عن قضاة وعن محاكم، بل هي تنازل النيابة عن بنود اتهامية معينة (ربما لم تكن تقصدها تماما منذ البداية!) في إطار صفقات الادعاء. ومن المشكوك فيه ما إذا كان من الجائز، من الناحية اللغوية، استخدام كلمة "تبرئة" لوصف قرار صادر عن النيابة، لا عن المحكمة. ولكن، من المؤكد أن الأمر لا ينسجم مع المفهوم المقبول والشائع لدى الجمهور لمصطلح "تبرئة". إنه تضخيم مصطنع للوائح الاتهام الغاية منه التوصل إلى صفقة ادعاء معينة. إنه ابتزاز ولا شيء غيره"!.

ويركز البروفسور بوعز سنجيرو، منذ بضع سنوات، جهودا كبيرة في بحث ظاهرة إدانة وتجريم الأبرياء جنائيا في القضاء الإسرائيلي، حتى أنه أطلق عليها عنوان "مبدأ الحوادث الخفيّة في القضاء الجنائي". ويفسر سنجيرو هذه التسمية بما يلي (مقابلة مع صحيفة "غلوبس" – 21/7/12): " عندما يحصل عطل في الطائرة، نعرف عنه حينما تتحطم. وكذا الأمر بالنسبة لعطل في كوابح السيارة، أو لسوء التخطيط والتنفيذ في بناء جسر، مثلا. أما في القضاء الجنائي، فحينما تتم إدانة إنسان بريء - وهو ما يمكن تشبيهه بالحادثة – أغلب الظن، وأكبر الاحتمالات، أننا لن نعرف بالأمر أبدا. فالجهاز برمّته قائم على أساس تكريس الخطأ وعدم الكشف عنها"!

ويتهم سنجيرو النيابة العامة بأنها "جسم يمتلك فائضا من القوة، بينما لا تخضع إلا لقليل من الرقابة. ورجالها يستغلون هذه القوة استغلالا سيئا. إنني ألاحظ نشوة القوة لدى أوساط في النيابة. ثمة هناك من يعتقدون بأنهم قادرون على فعل كل ما يحلو لهم ... واليد خفيفة جدا على الزناد فيما يتصل بتقديم لوائح اتهام وطلبات اعتقال".

ويؤكد سنجيرو أنه "يعرف شخصيا" أشخاصا يقبعون في السجون رغم كونهم أبرياء... "لدينا في السجون اليوم 20 ألف سجين، 10% منهم، في تقديري، أبرياء. أي، 2000 إنسان. هل يمكنني إثبات ذلك؟ - لا، بالطبع. لأن السلطات المعنية، وخاصة الشرطة والنيابة، قد أبادت جميع الأدلة والبينات، وخاصة في الملفات القديمة، بما يتعارض مع القانون".

لكن المشكلة الرئيسة والأكبر، في رأي سنجيرو، هي أنه "ليس هنالك من يرغب في إصلاح هذا الجهاز أو يسعى إلى ذلك. إن احتمال الفوز بالبراءة في محكمة جنائية في إسرائيل يكاد يكون صفرا. النيابة العامة تدفع نحو عقد صفقات ادعاء وتمارس سياسة الابتزاز ضد المتهمين لكي تنتزع الاعترافات منهم، بينما نجد أن القضاة قد نسوا ما معنى التبرئة، ويدينون كل من يمثل أمامهم، تقريبا".

وحول دور القضاة، تحديدا، في هذا الواقع المزري يقول سنجيرو إنه "من المريح لهم الاعتقاد بأن الشرطة والنيابة تقومان بمهماتهما وفقا للقانون"، بينما يقول قاضي المحكمة المركزية في تل أبيب سابقا، شيلي طيمن: "ثمة قضاة لا يعرفون كلمة براءة، أو تبرئة. ففي اللحظة التي تقع أعينهم على لائحة الاتهام، قد يبدأون على الفور بكتابة قرار الحكم وقرار العقوبة. إنني أعرف، شخصيا، قاضيا كان يستلم الملف وقبل أن يمثل المتهم أمامه كان يبدأ بنصّ تفاصيل لائحة الاتهام في قرار الحكم، ومن الواضح تماما أنه كان: الإدانة" (مقابلة مع صحيفة "هآرتس" - 14/3/2008)!