المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
مقر الانتخابات في بيت شيمش . (فلاش 90)

جرت، يوم 27 شباط الماضي، انتخابات المجالس البلدية والقروية في إسرائيل (انتخابات السلطات المحلية)، وذلك في ظل الحرب المستمرة على قطاع غزة. هذه أول انتخابات إسرائيلية تجري في ظل الحرب، بعد أن تم تأجيل موعدها مرتين، إذ كان من المفروض إجراؤها يوم 30 تشرين الأول العام الماضي، وتم تأجيلها إلى نهاية كانون الثاني الماضي، ثم إلى نهايات شباط، والانعكاس الأكبر للحرب هو انخفاض أشد في نسبة التصويت، أكثر من ذي قبل، إذ إن هذه انتخابات معروفة عامة بنسبة تصويت منخفضة في الشارع الإسرائيلي، وبارتفاعها في المجتمع العربي.

إلا أن ما أفرزته هذه الانتخابات من النتائج، ليس ذا مدلولات جدية على المستوى السياسي العام، لأن الأحزاب الكبرى بدأت تنسحب تدريجيا منها منذ نهاية سنوات التسعين، وتترك الأمر لاعتبارات محلية، كي لا تتضرر في الانتخابات البرلمانية، وهذا ما تأكد مجددا، في سلسلة التحليلات الإسرائيلية للنتائج، التي سنأتي على بعضها هنا.

وبحسب التقارير فإن نسبة التصويت العامة بلغت 49%، وساهم في رفعها، ولو بقليل، نسبة التصويت العالية جدا في الغالبية العظمى من البلدات العربية، التي تراوحت بين 70% إلى 90% وأكثر، كما ارتفاع نسبة التصويت بين المتدينين المتزمتين الحريديم، واليمين الاستيطاني، في حين أن نسب التصويت المنخفضة جداً كانت في المدن الكبرى ذات الطابع العلماني، مثل تل أبيب وجوارها، وحيفا وغيرها.

خلفية تاريخية

حتى منتصف سنوات التسعين، كانت انتخابات الحكم المحلي الإسرائيلية حلبة منافسة ساخنة جدا بين الحزبين الأكبر حتى ذلك الحين، العمل والليكود. وكانت النتائج، وبالذات في أعداد رؤساء البلديات والمجالس القروية، ذات دلالة للوضع السياسي الحزبي العام، وتمهد للانتخابات البرلمانية التي تليها في أي وقت، إذ كانت هناك مكانة سياسية قوية لكل رئيس سلطة محلية تخدم حزبه. إلا أنه مع تقلبات الخارطة السياسية، وتراجع تمثيل الأحزاب الكبيرة في الكنيست، بفعل عدة عوامل استعرضناها على مر السنوات الماضية، وقبل أن يتلاشى حزب العمل، قرر الحزبان الأكبران الانسحاب تدريجيا من انتخابات الحكم المحلي، وترك الأمر للتوازنات المحلية، وبتنا نرى قوائم انتخابية جامعة لعدة أحزاب، وحتى في حالات عديدة تجمع القائمة الواحدة أحزابا متناحرة على الصعيد العام، وبينها تناقضات سياسية ومجتمعية.

وترك الأحزاب لهذه الانتخابات جعلها ليس فقط رهنا للحسابات المحلية، بل أيضا حلبة سخية لأصحاب رأس المال ومقاولي مشاريع البنى التحتية، وبموازاتهم عصابات الإجرام الكبرى. وشيئا فشيئا، بدأت تظهر تقارير عن دخول عالم الإجرام، "العالم السفلي"، إلى هذه الحلبة والتأثير على إدارات العديد من المجالس البلدية وغيرها، ومعهم أيضاً أصحاب أموال لهم مصالح اقتصادية مباشرة، وهذه الحال انعكس في العقود الثلاثة الأخيرة، على تعمق الفساد السلطوي، وتورط عشرات من رؤساء المجالس البلدية والقروية، ونواب لهم، وأصحاب وظائف رفيعة في المجالس البلدية، في قضايا فساد، أودعت العديد منهم في السجون، ولاحقا امتدت هذه الظاهرة إلى المجتمع العربي، وهذا ظهر في تقرير لجهاز المخابرات العامة، "الشاباك"، كُشف عنه قبل الانتخابات بيوم واحد، إذ أوصى "الشاباك" بتأجيل الانتخابات في 7 مجالس بلدية وقروية عربية بسبب احتمال سطوة عصابات اجرام عليها، إلا أن وزير الداخلية رفض التأجيل.

لكن إذ كانت الأحزاب الكبيرة انسحبت من هذه الانتخابات، أو لم تعد تلقي بوزنها الكبير فيها، فإن الأحزاب الإسرائيلية الأخرى، وخاصة الدينية، وبالذات أحزاب اليهود الحريديم، تستغل انخفاض نسبة التصويت، وعدم منافسة الأحزاب الكبيرة، لتعزز مكانتها المحلية، وبحجم يفوق حجمها بين السكان، وبرز هذا بشكل خاص في مدينة القدس التي احتلت فيها أحزاب الحريديم أغلبية مقاعد مجلس بلدية المدينة، كما أنه لأول مرّة بات رئيس بلدية صفد من الحريديم.

وعلى الرغم من أن تقارير صحافية تحدثت عن أن الحصيلة العامة لحزب "قوة يهودية" ("عوتسما يهوديت")، بزعامة الوزير إيتمار بن غفير، جاءت ضعيفة، وأقل مما توقعه، فإن اليمين الاستيطاني المتطرف، خاصة من التيار الديني الصهيوني، أحرز تقدما ولو كان أقل من الحريديم.

لكن كل هذا، وكما سبق ذكره، ليس ذا طابع سياسي برلماني، وفي الوقت نفسه فإن ارتفاع التمثيل الديني في المدن الكبرى والوسطى يقلق أوساط العلمانيين، التي جمهورها يقل أكثر فأكثر في مشاركته في هذه الانتخابات.

 

القلق من زيادة تمثيل الحريديم والمتطرفين

يرى المحلل في صحيفة "ذي ماركر" الاقتصادية، ناتي طوكر، أن "الاتجاهات الديمغرافية لعبت دورها في الانتخابات المحلية في العام 2024. فقد سجلت الجماهير التي يكون فيها النمو السكاني أسرع، إنجازات سياسية أكثر أهمية. فجماعات الحريديم والدينية الأخرى، تتكاثر بشكل أسرع، ويبدو أن حافزها للتصويت والتأثير أعلى أيضاً"، من باقي قطاعات الجمهور.

ويضيف: "في المشهد الأوسع، يبدو أن مجتمع الحريديم حافظ على مكانته في المدن الكبرى، وفي بعض الحالات تعززت مكانته أيضاً. وسيكون لصفد رئيس بلدية من الحريديم للمرة الأولى منذ عقود؛ وفي القدس، ستكون القوائم غير الحريدية والعلمانية أقلية.

"إن تعزيز تمثيل أحزاب الحريديم في المدن ذات الحضور الكبير للحريديم هو وصفة أكيدة للحفاظ على وجه مجتمع الحريديم المتطرف. وإن القوة السياسية القوية تجعل من الممكن إحباط محاولات إحداث تغييرات وتطوير نحو الاندماج في المجتمع الإسرائيلي بسهولة أكبر".

وتابع طوكر: "إن الانشغال اليومي بالسلطة السياسية للمؤسسة الحريدية المتطرفة، يركز على الأموال الكبيرة، المليارات التي تتدفق على مؤسسات التوراة وشبكات التعليم الحريدية الخاصة. لكن الساحة المحلية ليس لها تأثير أقل على تأخير عمليات اندماج شباب الحريديم المتطرف في الحياة العامة، وسوق العمل، وقبل هذا الخدمة العسكرية. وبذلك عكست الانتخابات المحلية للعام 2024 تعزيز القوى المعنية بعدم دمج السكان اليهود المتشددين في إسرائيل"، في سوق العمل والحياة العامة.

وتقول سيفان حيلائي، في مقال لها في صحيفة "يديعوت أحرونوت": "إن السياسة العامة تغلغلت بشكل جيد في الانتخابات المحلية، التي كانت "قذرة" تماما هذه المرة بسبب الصفقات بين المرشحين والقوائم". وتابعت: لقد طرح حزب "قوة يهودية" بزعامة إيتمار بن غفير، وحزب "نوعام" (الأشد تطرفا بين المتطرفين)، مرشحيهما لأول مرة في الانتخابات البلدية، وتوقعا أن يحققا مكتسبات في انتخابات الحكم المحلي، استعدادا للانتخابات البرلمانية المقبلة، على افتراض أنه ستكون انتخابات كهذه في المستقبل غير البعيد. ومع ذلك، فقد أدرك حزب "قوة يهودية" أنه لن يحصد النجاح إلا إذا انضم إلى أحزاب أخرى. على سبيل المثال، في صفد، دعم بن غفير مرشح شاس، الأمر الذي ساعده على الفوز، وأصبح أول حريدي متشدد يشغل منصب رئيس بلدية المدينة. وفي تل أبيب، معقل العلمانيين الليبراليين، انضم حزب قوة يهودية إلى الليكود برسائل مثل: "هل نسيت ما هي اليهودية؟" و"الترحيل الآن"، وهذا لم يساعد الحزب في ضم عضو واحد إلى المجلس البلدي.

وتقول المحللة في صحيفة "هآرتس" رافيت هيخت إن "أجواء اليأس حلّقت فوق المعسكر الليبرالي بعد ظهور نتائج انتخابات السلطات المحلية. ومن جهة أخرى أظهر مصوتو أحزاب الائتلاف الثقة المتجددة بتعزيز قوة أحزاب تعد رمزا مثل شاس، ونجاح مرشحين مؤيدين من الكهانيين في بعض المدن".

وأضافت: "ليست الحرب وحدها هي التي تسلب كل القوى وتترك القضايا المحلية في قائمة غير المهم. فالجمهور الليبرالي بشكل خاص، لا يعتبر هذه الانتخابات معركة مهمة في المعركة على طابع إسرائيل، خلافا لمعارك انتخابية أخرى، مثل الانتخابات لنقابة المحامين، التي شملت أهمية فعلية بخصوص مصير الانقلاب القضائي والنضال ضده". وتابعت: "هذه أحاسيس يأس يجب أخذها بضمان محدود. فالمعسكر الليبرالي سجل نجاحات كثيرة، مثل نجاح مرشحه في "عقد جديد"، وهي الحركة المؤيدة للاحتجاجات الشعبية، ونجاح حزب "يوجد مستقبل"، باستثناء الخسارة في مدينة عراد (جنوبا)، التي بدأت تميل إلى الحريدية، وتل أبيب مع رئيس بلدية متماه أكثر مع الاحتجاجات. إن ميل مدن ومستوطنات، مثل صفد ومتسبيه رامون، إلى أن تصبح حريدية أو حريدية قومية هو قصة قديمة جدا، والنتائج هناك تعكس ببساطة تركيبة السكان. أيضا مأساة القدس معروفة منذ سنوات، والجمهور العلماني والليبرالي يهرب منها بشكل جماعي منذ بضعة عقود.

"في المقابل، تل أبيب التي عاش فيها في السابق جمهور متدين بحجم أكبر، فازت فيها القوائم العلمانية والليبرالية بأغلبية ساحقة. وهذا كان كافياً من أجل تشكيل ائتلاف من دون المتدينين أو اليمينيين".

وكتبت هيخت: "لكن الحقيقة هي أنه أكثر من أي شيء آخر، واجهت هذه الانتخابات لامبالاة كبيرة في أوساط الجمهور، ليس فقط في أوساط الجمهور الليبرالي، بل أيضا في القدس، التي بدأت تصبح أكثر حريدية والتي يعتبرها الليبراليون مقدمة لتسويق مخيف لعملية الإضعاف والوهن المتوقعة لإسرائيل، حيث وصلت نسبة التصويت إلى أكثر بقليل من 31% (مع الأخذ في الحسبان مقاطعة أصوات العرب في شرقي القدس، ما زالت هذه نسبة منخفضة في أوساط اليهود)".

وقالت صحيفة "هآرتس"، في مقال افتتاحي لهيئة التحرير في اليوم التالي للانتخابات، إن "انتخابات الحكم المحلي هي بمثابة ضوء تحذير للمجتمع الإسرائيلي. فالقوى المناهضة للديمقراطية: أحزاب الحريديم، والأحزاب التوراتية، وأحزاب اليمين المتطرف العنصرية، نجحت في تنظيم نفسها في بضع بلدات، وحققت إنجازات لا تعكس الحجم الحقيقي للقطاعات التي تمثلها. وفي المقابل، فإن المعسكر الديمقراطي، الذي في كل أسبوع على مدى العام الماضي خاض مظاهرات كبرى في عشرات المدن، لم ينجح في معظم الحالات في ترجمة الغضب تجاه الحكومة الأكثر فشلا وفسادا في تاريخ الدولة، إلى تحقيق إنجازات في الحكم المحلي".

وتابعت: "في القدس أثبت الحريديم مرة أخرى بأن قدرتهم على التنظيم والتجند تترجم إلى قوة سياسية. الحريديم هم 25% من أصحاب حق الاقتراع في المدينة، لكنهم سيتمتعون بنحو 50% من أعضاء مجلس البلدية" (يشار إلى أن 37% من ذوي حق الانتخاب في سجل الناخبين، هم الفلسطينيون في القدس الشرقية المحتلة، ولا يشاركون في الانتخابات، ومن دونهم فإن نسبة الحريديم في سجل الناخبين تشكّل أكثر من 37%).

وقالت الصحيفة إن "استنتاجا آخر من الانتخابات هو الفوارق التي تطمس بين الحزب الحاكم، الليكود، وبين حزب اليمين المتطرف "قوة يهودية"؛ والأخير حزب كان في كل دولة غربية سيجد نفسه خارج القانون. في تل أبيب ارتبط الحزبان معا في خطوة لم يكن ممكنا تخيلها في حزب الليكود ما قبل بنيامين نتنياهو. هكذا أيضا في روش هعاين ويروحام ونتيفوت. ثمة في ذلك ما يفيد بأن الليكود يغيّر وجهه: مئير كهانا انتصر على زئيف جابوتنسكي، والتفوق اليهودي والترانسفير حلا محل الحرية- حيروت" (حيروت هو اسم الحزب المؤسس لليكود في العام 1973).

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات