المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
نتنياهو والحريديم: تحالف عميق وراسخ. (فلاش 90)

تثبت أحزاب اليهود الحريديم (المتزمتين دينياً) في هذه المرحلة، وبشكل خاص في كل سنوات الألفين، أنها القوّة الأصلب، والأشد إخلاصا لمعسكر حزب الليكود واليمين الاستيطاني، ويخلصون بالذات لشخص بنيامين نتنياهو، الذي خلافا لسلفه أريئيل شارون في قيادة الليكود، عرف كيف يضمن التصاقهم به، وذلك بضمان كافة مطالبهم، وتشجيع تدفقهم على المستوطنات لزيادة أعداد المستوطنين، حتى باتت من أولى مصالحهم ضمان زيادة امتيازات المستوطنات والمستوطنين، وهم باتوا جزءا أساسيا من اليمين الاستيطاني. ولم نسمع منهم في أي يوم، أي تهديد للانسحاب من الحكومة الحالية، خلافا للشركاء من التيار الديني الصهيوني. إضافة إلى هذا، وخلافا لما يظهر في استطلاعات الرأي، فإن قوتهم البرلمانية ليس فقط ثابتة، وإنما في اتجاه الزيادة، لأن ارتكازهم الأساس هو على جمهورهم المتنامي عدديا بوتيرة سريعة، بفعل معدلات الولادة العالية.

فالأحاديث عن اقتراب الانتخابات البرلمانية المبكرة تتزايد، وليس من المخاطرة القول إن هذه الأحاديث تتكاثر في الصالونات الإعلامية الإسرائيلية، من قنوات تلفزة وإذاعات وصحف، وهو موضوع يملأ وقتا ويزيد لفت انتباه المتابعين، في حين أن قرار حل الحكومة والكنيست هو بيد الأغلبية المطلقة لـ 120 عضو كنيست، وهذا ليس قائما حاليا، ولا يلوح في الأفق للمستقبل القريب.

ورغم هذا، فإننا نسمع من حين إلى آخر تهديدات بالخروج من الحكومة، من كتلتي التيار الديني الصهيوني، وبالذات من حزب "قوة يهودية" بزعامة إيتمار بن غفير، الذي تتوقع له استطلاعات الرأي القفز بقوته البرلمانية من 6 نواب إلى ما بين 8 وحتى 10 نواب، في الانتخابات المقبلة، لكن في قراءة متكاملة لهذه الاستطلاعات التي هي مجرد مؤشر، وليست القول الفصل لأي انتخابات مقبلة، فإن قوة بن غفير الفعلية حاليا، هي أضعاف قوته البرلمانية المتوقعة مستقبلا، في حال خسر الائتلاف الحالي الحكم، بفعل ما يظهر من تراجع حاد في قوة الليكود، وهذا ما يعرفه بن غفير، وأيضا زميله بتسلئيل سموتريتش، زعيم حزب "الصهيونية الدينية"، الذي تمنحه استطلاعات الرأي ما بين 4 إلى 5 مقاعد، بدلا من 6 مقاعد اليوم.

أما كتلتا الحريديم، شاس وتحالف يهدوت هتوراة، فلم تطلق أي منهما، منذ تشكيل الحكومة الحالية، أي تهديد كهذا، وخاصة في الأشهر الأربعة الأخيرة، وهما ملتزمتان كليا بما يطرحه رئيس الحكومة نتنياهو، وحزبه الليكود، على الحكومة. خاصة أن جميع مصالح الكتلتين المالية ضمنتها هذه الحكومة، وحتى أن ميزانياتهما الموعودة لم تطاولها التقليصات، بذات قدر التقليصات التي تشهدها ميزانية العام الجاري 2024.

وليس صدفة أن نتنياهو عارض تقليصا حادا في ما تسمى "ميزانيات الائتلاف"، وهي ميزانيات تطلبها وتحصل عليها أحزاب الائتلاف في غالبيتها الساحقة لخدمة جمهور مصوتيها المباشر، ولربما أن الحصة الأكبر حصلت عليها كتلتا الحريديم، وهذا ما نراه في تقارير الصحافة الاقتصادية، عن حجم الميزانيات المضخمة التي تحصل عليها مؤسسات الحريديم الدينية والتعليمية، بما في ذلك مخصصات طلاب المعاهد الدينية.   

اليمين الاستيطاني الملجأ الآمن للحريديم

في العقد الأول من سنوات الألفين، استكمل اليمين الاستيطاني تحالفا غير معلن مع الحريديم، بتلبية مصالح الطرفين السياسية والاقتصادية الاجتماعية، في الوقت الذي بدأ الحريديم يسجلون قوة برلمانية متعاظمة، مرتكزة على تنامي جمهورهم بوتيرة عالية، بفعل التكاثر الطبيعي، وفي الوقت الذي باتوا فيه بحاجة إلى سلسلة من المطالب لضمان استمرارية مجتمعهم، وانغلاقه، وحمايته من الانصهار في المجتمع المفتوح، وبالذات العلماني.

وعلى أساس هذا هم يعارضون انخراط غالبية شبانهم في الخدمة العسكرية، رغم مواقفهم اليمينية المتشددة، وللسبب نفسه، يقللون من انخراط رجالهم في سوق العمل، إذ إن آخر التقارير تتحدث عن أن ما بين 50% إلى 54% من الرجال في جيل العمل الفعلي (25 إلى 64 عاما) ينخرطون في سوق العمل، في حين أن نسبة انخراط اليهود من غير الحريديم من هذه الشريحة العمرية تتجاوز 85%، دون احتساب العاملين في الجيش النظامي.

ولاحظ قادة الحريديم ضغوط جهات ما يسمى بـ "اليسار الصهيوني" و"الوسط السياسي" (المركز)، لحث الحريديم على الخدمة العسكرية والانخراط في سوق العمل، ورصدت حكومات تلك القوى، برامج ضغط ومحفزات مالية لجذب الحريديم إلى الجيش وسوق العمل، وبموازاة ذلك سعت تلك القوى في حكوماتها، لتقليص ميزانيات المعاهد الدينية ومخصصات طلبة تلك المعاهد، وحينما نقول طلبة، فإن القصد أيضا رجال متقدمون في السن، وليس فقط من هم في جيل التعليم ما بعد المدرسة. وبشكل استثنائي، كان هذا نهج حكومتي أريئيل شارون (أوائل 2001 ونهاية 2005)، حينما كان بزعامة الليكود.

في المقابل فإن أحزاب وحكومات اليمين الاستيطاني بقيادة بنيامين نتنياهو، فهمت أنه من أجل ضمان الحريديم قوة سياسية ضامنة لحكوماتها يجب التخلي عن برامج كهذه، وهذا يتضح في هذه الأيام، مع عودة مشروع قانون التجنيد للشبان الحريديم إلى السطح؛ ففي حين تسعى الحكومة الحالية لتمديد الوضع القائم، الذي فيه إعفاء شبه كامل للحريديم، فإن أحزابا وقوى مجتمعية تتوجه للقضاء لإلزام الحكومة والكنيست بسن قانون ملزم لتجنيد الحريديم، رغم أنه في الماضي صدر أكثر من قرار ملزم من المحكمة العليا، لكنه لم يتم تطبيقه.   

مع مرور الزمن، وكما أشرنا إلى هذا في سلسلة مقالات وتقارير سابقة، ومع قرار قادة الحريديم في نهاية سنوات التسعينيات، بالقبول بالاستيطان في مستوطنات خاصة بهم، حتى باتوا اليوم يشكلون أكثر من 40% من المستوطنين في الضفة الغربية من دون القدس، فإن مصالح المستوطنين والمستوطنات، بالامتيازات المالية، باتت جزءا أساسيا من مصالح الحريديم، إلى جانب باقي مصالحهم الخاصة.

وهذا ما وثّق أكثر ارتباطهم بحكومات الليكود، وبالذات بشخص بنيامين نتنياهو، وكل أحاديث تظهر من حين إلى آخر في الصحافة الإسرائيلية حول احتمالات انخراط أحزاب الحريديم بحكومات ليست بقيادة الليكود، هي مجرد أحاديث يمكن التقدير بانها لا تستند إلى الواقع بكل تفاصيله.

إحصائيات الحريديم مختلف عليها

اللافت على مر السنين أن كل الاحصائيات المتعلقة بمجتمع الحريديم، ليس عليها توافق كلي، بدءا من أعدادهم، ونسب تكاثرهم، مرورا بأعداد من يتجندون للجيش، رغم قلتهم، ومن يتوجهون للتعليم العالمي، وصولا إلى سوق العمل، وغالبا يكون في خلفية الاختلافات في عرض الإحصائيات، دوافع سياسية.

لكن حسب معدل التقديرات فإن عدد الحريديم يتراوح حاليا بين 1.35 مليون و 1.4 مليون نسمة، وهم يشكلون نسبة 14.7% من إجمالي السكان، بحسب إحصائيات نهاية العام الماضي 2023، من دون أهالي القدس المحتلة والجولان السوري المحتل، الذين يتم ضمهم إلى سجل السكان بفعل قانون الضم الاحتلالي.

هذا يعني أن نسبة الحريديم تتجاوز 18.3% من إجمالي اليهود المعترف بيهوديتهم، ومعهم من يعرّفون أنفسهم كيهود دون اعتراف المؤسسة الدينية بهم. وهذه نسب في ارتفاع مستمر، بسبب نسبة تكاثر الحريديم الطبيعي، التي تتراوح بين 3.9% إلى 4.1% سنويا، مقابل تكاثر بنسبة 1.7% بين اليهود من غير الحريديم، و1.4% بين اليهود العلمانيين من دون التيار الديني الصهيوني والمحافظين. وفي هذا المجال نذكر أن نسبة تكاثر السكان الفلسطينيين العرب باتت في محيط 2.4%.

وفي الأيام الأخيرة، وردت إحصائية تقول إن نسبة انخراط الحريديم في سوق العمل، في جيل العمل الفعلي (25- 64 عاما) بلغت في العام الماضي 2023، حوالى 55.5%، إلا أن هذه النسبة هناك من شكك بها، ورأى أنها أقل. ليظهر تقرير آخر ويشير إلى أن غالبية رجال الحريديم العاملين، يعملون في قطاعات ذات مداخيل شهرية منخفضة. وفي هذا السياق نشير إلى أن نسبة نساء الحريديم العاملات أعلى، وتقفز عن 65%.

كذلك بالنسبة للتجنيد في الجيش، ففي حين ادعت تقارير أن هناك ارتفاعاً في أعداد المجندين، ذكر تقرير لصحيفة "كالكاليست"، أن هذه معطيات ليست واقعية، لأن 70% ممن تم تعريفهم حريديم يخدمون في الجيش، تركوا مجتمع الحريديم، ولم يعودوا كذلك، فإما باتوا علمانيين أو محافظين ومتدينين، ولكن ليس حريديم.

في ظل كل هذا تضج الصحافة الاقتصادية، على وجه الخصوص، بحجم ميزانيات المعاهد الدينية والتعليمية الخاصة بالحريديم، والمخصصات التي يتقاضاها طلبة المعاهد الدينية، التي تقريبا تضاعفت في ظل الحكومة الحالية، دون أن يطاولها التقليص الذي أصاب غالبية جوانب الميزانية العامة، في العام الجاري، بهدف تغطية مصاريف العدوان المستمر على قطاع غزة.

الاستطلاعات: لا حكومة ثابتة من دون الحريديم

ثبت بشكل خاص في سنوات الألفين كلها أن لا استقرار لأي حكومة إسرائيلية لا تشمل الحريديم، مهما كانت قاعدتها الائتلافية كبيرة، وهذا برز في حكومتي أريئيل شارون، الذي قرر استثناء الحريديم منها، ولاحقا رأينا هذا في حكومة إيهود أولمرت (2206- 2008)، وفي حكومة بينيت- لبيد (2021- 2022).

وحاليا فإن قوة حزب شاس للحريديم الشرقيين 11 مقعدا، وتحالف الحريديم الأشكناز (الغربيين) يهدوت هتوراة 7 مقاعد. وحسب تقديرات، منها بحثية، فإن حوالى مقعدين، ولربما أكثر بقليل من قوة شاس تأتي من اليهود الشرقيين من الشرائح الفقيرة، فيما يحصل تحالف يهدوت هتوراة على بضعة آلاف الأصوات من خارج مجتمع الحريديم. ما يعني أن قوة الحريديم الانتخابية الفعلية، من دون الأصوات الداعمة من خارج الحريديم، في حدود 12%، رغم أن قوتهم في سجل الناخبين في الانتخابات الأخيرة، في محيط 10.5%، لكن ما يرفع قوتهم في الحصيلة النهائية، هي نسبة التصويت لديهم التي تتراوح بين 88% إلى 92%، مقابل 71% بين اليهود من غير الحريديم، بحسب التقديرات.

إلا أن استطلاعات الرأي تُنقص باستمرار قوة الحريديم، إلى قوة مجتمعة للكتلتين، بما بين 13 إلى 14 مقعدا، وهذه نتيجة ليست واقعية، فقوة قائمتي الحريديم الانتخابية، تتراوح بين الثبات أو الازدياد، فكل يوم يمر ترتفع فيه قوة الحريديم في سجل الناخبين. ما يعني أن الفارق بين واقع الحريديم وما يظهر في استطلاعات الرأي يتراوح ما بين 4 إلى 5 مقاعد، وهذا يغير الكثير من مشهد استطلاعات الرأي، وعلى الأغلب هذا ما سنراه في كل انتخابات مستقبلية.

وهذا المشهد السياسي الاجتماعي من شأنه بطبيعة الحال أن يعزز استفحال التطرف السياسي في الجمهور الإسرائيلي في المستقبل المنظور.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات