المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تشكل استقالة وزير الصحة الإسرائيلي يعقوب ليتسمان، من كتلة "يهدوت هتوراة" للمتدينين المتزمتين الحريديم من اليهود الأشكناز، نقطة هامة، على صعيد العلاقة بين جمهور الحريديم الأكثر تشددا دينيا، والمؤسسة الحاكمة. فـ"التنازلات" التي ظهرت في العامين الأخيرين، في شكل الانخراط في الحكومة، تم التراجع عنها بسرعة، ما أعاد الوضع إلى العام 1952، بسبب قوانين الإكراه الديني. ويحاول رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو شراء التوافق مع الحريديم عبر قيود أشد على قوانين السبت، وسائر القوانين الدينية، ما سيضعه في نقطة صدام حتمية مع الجمهور الواسع، وبالأساس العلمانيين، وأيضا جهاز القضاء.

 

خلفية القضية: الحريديم والصهيونية

ظهرت حركة الحريديم في بدايات القرن التاسع عشر، بشكل أوضح من نهاية القرن الثامن عشر، إذ أن هذه الحركة التي قادها حاخامون متشددون، ترتكز على اغلاق المجتمعات الدينية اليهودية في وجه مظاهر العصرنة، التي جرفت أبناء الديانة اليهودية كسائر أبناء شعوبهم في أوطانهم الأوروبية والأميركية. وجاء مصطلح حريديم من كلمة "حريد" أي خائف، والقصد "الخائفون على كلمة الله". وهم يتمسكون بالتفسير الأكثر تشددا للشريعة اليهودية.

ورفضت تيارات الحريديم، بغالبيتها الساحقة، الحركة الصهيونية، منذ أن ظهرت في نهايات القرن التاسع عشر، واعتبروها حركة علمانية تسعى إلى انشاء حكم يهودي، رفضوه منذ البداية. ويتمسك الحريديم بتعريف الحركة الصهيونية كحركة "كافرة"، وبأن مملكة إسرائيل يقيمها المسيح حينما يأتي لأول مرّة إلى العالم.

وكانت مجموعات من الحريديم تعيش في فلسطين، وفي الأساس في منطقة القدس، وقد اصطدمت مع الحركة الصهيونية، بعد أن وضعت أقدامها في فلسطين، كمقدمة لإقامة كيان خاص باليهود. وقبيل وعند الإعلان عن قيام إسرائيل، في أوج نكبة الشعب الفلسطيني، رفضت الغالبية الساحقة من الحريديم في العالم الاعتراف بهذا الكيان. وفي حين أن الغالبية من الحريديم في العالم خارج فلسطين تمسكت بموقفها، فإن غالبية الحريديم في فلسطين قررت التعاطي مع الكيان المعلن عنه والناشئ، ككيان عابر بالإمكان التعامل معه كمرحلة مؤقتة، إلى أن يتم ما جاء في التوراة.

واستغلت الحركة الصهيونية هذا الشرخ، ونجح أول رئيس وزراء إسرائيلي دافيد بن غوريون، في اقناع طوائف من الحريديم الأشكناز بتشكيل أحزاب وخوض الانتخابات البرلمانية، وحتى المشاركة في الحكومة. وهذا ما تم بالفعل، في السنوات الأربع الأولى بعد الإعلان عن اقامة الكيان الإسرائيلي. إلا أنه مع تقدم عمل الحكومات الإسرائيلية، وجد الحريديم أنفسهم أمام مطب المصادقة على قرارات تخالف الشريعة اليهودية.

فقد توصل الحريديم إلى تفاهمات مع بن غوريون حول "قدسية السبت"، مثل منع الحركة التجارية، ومنع حركة المواصلات العامة، والأخيرة مفروضة منذ ما يقارب سبعة عقود، كتفاهمات شفهية، ولا يوجد قانون يمنع هذه الحركة. كذلك من ضمن التفاهمات التي كانت تصدر ضمن قرارات لرئيس أركان الجيش، عدم فرض الخدمة العسكرية الالزامية على شبان الحريديم.

لكن لاحقا اتخذت الحكومة قرارات وبادرت لقوانين يرفضها الحريديم، وكان القرار الذي أدى إلى خروج الحريديم من الحكومة في العام 1952، فتح ابواب ما يسمى بـ "الخدمة الوطنية" الموازية للخدمة العسكرية، أمام الشابات. ومنذ ذلك الحين امتنع الحريديم عن تولي حقائب وزارية ومسؤوليات حكومية، وكانوا يكتفون بدعم الائتلاف مقابل ضمانات وميزانيات وغيرها. ولاحقا قبل الحريديم بتولي منصب نائب وزير، بصلاحيات وزير، واستمر هذا الحال لسنوات طويلة.

نذكر هنا أن الحريديم الشرقيين السفاراديم كانوا من ناحية حزبية ينخرطون في أحزاب الأشكناز، رغم أن طوائفهم مستقلة على المستوى الديني، ولديهم "حاخام أكبر" رسمي خاص بهم. واستمر الحال إلى العام 1984، حينما أسس الحاخام الأكبر في سنوات السبعين ومطلع سنوات الثمانين عوفاديا يوسف حركة شاس، وهذه الحركة أقل تشددا في تعاطيها مع "الدولة" وانخرطت في الحكومات مع مناصب وزارية.

وكان يعقوب ليتسمان يتولى في حكومة بنيامين نتنياهو الحالية منصب نائب وزير الصحة، بصلاحيات وزير كاملة، وهو شكل انخراط كتلة "يهدوت هتوراة" التي تضم حزبين لعدة طوائف من الحريديم الأشكناز، في الائتلاف الحكومي، منذ ما بعد العام 1952 وحتى يوم 2/9/2015. وكان ليتسمان قد تولى المنصب ذاته، مع الصلاحيات ذاتها في حكومة نتنياهو الثانية، 2009- 2013.

لكن مع بدء عمل الحكومة الجديدة برئاسة بنيامين نتنياهو، توجه رئيس حزب "يوجد مستقبل" يائير لبيد، إلى المحكمة العليا، ضد تولي بنيامين نتنياهو عدة حقائب وزارية، فإضافة إلى رئاسة الوزراء هو وزير للخارجية، وأيضا رسميا هو وزير الصحة، إذ حسب الأنظمة فإن كل حقيبة وزارية لا يتولاها شخص، تسند بشكل مؤقت إلى رئيس الوزراء، كما اعترض لبيد على منح نائب وزير صلاحيات وزير كاملة، وقد قبلت المحكمة العليا بالتماسه، ما ألزم نتنياهو بطرح حل. وعلى ضوء قرار المحكمة العليا، قرر ما يسمى "مجلس كبار حكماء التوراة" لمجموع أحزاب وطوائف الحريديم الأشكناز، أن يتولى ليتسمان حقيبة وزير، وكان هذا قرار يُعد تاريخيا، إذا أنهى الحظر القائم على تولي منصب وزير منذ 63 عاما.

قرار المحكمة العليا وما بعده

وكان تولي ليتسمان حقيبة وزارية مؤشرا اضافيا لتحولات عدة في مجتمع الحريديم، ما يمكن وصفه بأنه مرحلة جديدة في العلاقة بين المتدينين الأكثر تزمتا والصهيونية، وجاء هذا بعد سنوات بات ينخرط فيها نواب الحريديم وقيادتهم الدينية والسياسية في القضايا السياسية المختلفة، وعلى رأسها قضية الصراع والقضية الفلسطينية، التي اختاروا حتى نهاية سنوات التسعين الحفاظ على بعد منها، وأن يكون الحكم في الموقف من كل ما يتعلق بهذه القضية وفق المصالح المباشرة لأحزاب وجمهور الحريديم.

ففي حين كان الحريديم من المصوتين الداعمين، أو الممتنعين دعما، لاتفاقيات أوسلو في الكنيست، فقد باتوا في سنوات الألفين في الجناح الأكثر تشددا، في الوقت الذي تتزايد فيه نسبة الحريديم من بين المستوطنين في الضفة، وقد يكونون النسبة الأكبر في غضون سنوات قليلة جدا، وحتى الأغلبية في المستقبل المنظور.

لكن كان لهذا التقارب مع المؤسسة الحاكمة الصهيونية ثمن كبير، يجبيه الحريديم بقوة من الحكومة على وجه خاص. ففي هذه الحكومة تم شطب القانون الذي أقرته حكومة نتنياهو السابقة، والذي يفرض الخدمة العسكرية على شبان الحريديم بشكل تدريجي. غير أن الحكومة تواصل عرض مغريات على شبان الحريديم لجرهم إلى الخدمة العسكرية. وهذا الأمر يثير غضب الجناح الأكثر تشددا والرافض كليا للصهيونية والانخراط في حكمها، ما يدفعه للنزول إلى الشارع بمظاهرات ومواجهات صدامية عنيفة مع عناصر الأجهزة الأمنية.

كما أن المحكمة العليا الإسرائيلية قضت في شهر أيلول الماضي ببطلان اعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية، والزمت الحكومة بسن قانون جديد، حتى عام واحد من صدور القرار، ما يعني أن المحكمة زرعت لغما "شديد الانفجار" في طريق هذه الحكومة، وكل حكومة أخرى ستقوم لاحقا، على ضوء استمرار رفض الحريديم للتجنيد.

والأمر الآخر، أن كتلتي الحريديم، شاس و"يهدوت هتوراة"، تسعيان إلى تشديد قوانين السبت اليهودي، بمنع العمل كليا، وبحظر فتح المحال التجارية. إلا أن المحكمة العليا أصدرت في شهر تشرين الاول الماضي قرارا يقضي بشرعية القانون البلدي، الذي أقره المجلس البلدي في تل أبيب قبل نحو سبع سنوات، ويسمح بفتح بعض المجال التجارية والغذائية منها في أيام السبت، على الرغم من رفض وزير الداخلية الحالي آرييه درعي، وسبقه في الرفض وزير الداخلية الأسبق عن حزب الليكود، غدعون ساعر.

وفي ظل هذه الحكومة، وقعت سلسلة من المواجهات بين الحريديم والحكومة، ومؤسسات بنى تحتية اضطرت للقيام بأعمال صيانة في أيام السبت، وبالذات شركة شبكة القطارات وشركة الكهرباء. وبعد سلسلة من الصدامات، على ضوء كثرة مشاريع البنى التحتية وأعمال الصيانة الجارية ايام السبت، قرر الوزير ليتسمان الاستقالة من الحكومة، كي لا يكون شريكا في المسؤولية المباشرة عما يسمى "تدنيس قدسية السبت"، وعلى ذات الخلفية قرر ممثلو الحريديم الأشكناز في العام 1952 التوقف عن تولي حقائب وزارية في حكومات إسرائيل، إلى ما قبل عامين بموجب قرار من المحكمة العليا.

احتضان الحريديم والصدام مع الشارع

أثبتت تجارب السنين أن كتلتي الحريديم هما مفتاح أي حكومة إسرائيلية، فالحكومة التي لا يتمثل فيها الحريديم، كما في العام 2003، برئاسة اريئيل شارون، وفي 2013 برئاسة بنيامين نتنياهو، هي حكومات إما غير مستقرة، أو أنها قصيرة الأمد، مثل حكومة نتنياهو السابقة، كما أن خروج كتلة للحريديم من الحكومة يعني اقتراب نهايتها، مثل حكومة إيهود باراك، 1999 والتي استمرت 20 شهرا.

ويفهم نتنياهو أن الحريديم هم الركيزة الاقوى لحكومته، وباقي الأحزاب إما هي منافسة لليكود ميدانيا، مثل "البيت اليهودي"، أو أنها ليست قوية وعابرة على الساحة السياسية، مثل حزب "كلنا". ولذا يسعى نتنياهو إلى اقناع الحريديم بجدوى بقائهم في الحكومة، من خلال دفع تشريعات يطالبون بها، وخاصة قوانين السبت.

ونستعرض هنا نقاط الالتقاء والصدام المقبلة، في الحكومة الحالية حتى الانتخابات.

أعلن نتنياهو أنه سيدفع بمشاريع قوانين تشدد من قيود "السبت اليهودي"، ومن بينها مشروع قانون يلغي حق المجالس البلدية في سن قوانين بلدية لفتح محال تجارية أيام السبت، إلا بموافقة وزير الداخلية، وعمليا منح الوزير الصلاحية المطلقة. وهذا سيقود إلى حالة صدام مع الشارع العلماني، كما أن قانونا كهذا قد تشطبه المحكمة العليا، لأنه سيكون قانونا يميز بين بلديات باتت لديها قوانين بلدية، وبلديات ستكون محرومة من سن قوانين كهذه.

كذلك فإن نتنياهو وحزب الليكود يعدان بتشديد القيود على المواصلات الجزئية أيام السبت، فقبل بضعة اسابيع أعلن وزير المواصلات أنه سيبادر لمشروع قانون يمنع جهات خاصة من تسيير مواصلات منتظمة أيام السبت، في اطار مناهضة قوانين الاكراه الديني. وعلى الرغم من مرور عدة أسابيع على إعلان الوزير، إلا أن شيئا من هذا لم يحصل. ولكن في حال تم سن قانون كهذا، فإنه سيثير غضب الجمهور العلماني، والشرائح الفقيرة، التي ليست لديها سيارات خاصة لتتنقل في أيام السبت، وهو يوم العطلة الاسبوعية.

يشار هنا، إلى أن حزب "إسرائيل بيتنا" بزعامة أفيغدور ليبرمان، قد اعلن معارضته لسن قوانين تزيد من قيود السبت، وحسب اتفاقيات الائتلاف، فإن القوانين التي تطرحها الحكومة، يجب أن تحظى بموافقة كل الكتل المشاركة في الائتلاف الحاكم.

إلى جانب هذا، ستكون نقاط صدامية أخرى بين نتنياهو وكتلتي الحريديم. وأولها الجدل القائم حول "قانون القومية"، أو ما يسمى "إسرائيل دولة الشعب اليهودي"، فهذا القانون يتحفظ منه الحريديم من حيث الجوهر، لأنهم يعارضون من حيث المبدأ كل القوانين "الأساس"، أي القوانين الدستورية، كونها قوانين يكون من الصعب اجراء تعديل عليها مستقبلا. ولكن الأهم هو أن مقولة "إسرائيل دولة الشعب اليهودي"، تضرب عقيدة الحريديم في الصميم، كونهم يؤمنون أن مملكة إسرائيل يقيمها المسيح حينما يأتي إلى العالم لأول مرّة. لكن الحريديم لا يطرحون هذا السبب، بل لديهم العديد من الاسباب التي تجعلهم يعارضون القانون، ومنها مثلا أن مكانة الشريعة كمرجعية في كتاب القوانين الإسرائيلي، ليست بالقدر الذي يريدونه، كما أنهم يعارضون مبدأ المساواة، لأن المساواة ستسري على شرائح يرفض الحريديم منحهم أي حقوق، وخاصة مثليي الجنس، وأيضا فيما يتعلق بالمرأة ومكانتها في المجتمع. غير أن نتنياهو وضع هدفا له، بأن يتم سن القانون كليا في الولاية البرلمانية الحالية، وحتى أنه كان يطمح إلى إنهاء تشريع القانون مع نهاية الدورة الشتوية الحالية، إلا أن رئيس الائتلاف الحاكم دافيد بيطان قال لقادة الائتلاف إن تمرير قانون القومية في الدورة الشتوية سيكون صعبا.

الأمر الآخر هو أنه حتى تسعة أشهر من الآن سيكون على الحكومة سن قانون جديد يفرض الخدمة العسكرية على شبان الحريديم، وهو ما يرفضه قادة الحريديم كليا. والاحتمال الوارد هو أن تطلب الحكومة مستقبلا من المحكمة العليا تمديدا للفترة تحت ذرائع معينة، بهدف المماطلة، ولكن هذا أيضا سيقود إلى صدام مع القوى العلمانية.

نموذج لما هو أكبر

حالة الصدام بين الحريديم والحكومة، واستحقاقات إدارة حياة عصرية لدولة تعتبر نفسها واحدة من الدول المتطورة في العالم، ستشهد تصعيدا مع تقدم السنين، خاصة مع تنامي أعداد الحريديم وارتفاع نسبتهم بين السكان، وبالتالي زيادة وزنهم السياسي في البرلمان.

ويعي نتنياهو والمؤسسة الحاكمة ككل أن لا حواجز أمام متطلبات الحريديم، وأن من يشتري هدوء الحريديم لا بد وأن يدفع ثمنا باهظا لدى القوى العلمانية بما فيها اليمينية أيضا.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات