المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

من عبء سياسي إلى كنز إستراتيجي

في يوم الاثنين، الخامس من حزيران 1967، أقلعت 185 طائرة حربية إسرائيلية من قواعدها، ودمرت في غضون ساعة واحدة جميع قواعد سلاح الجو المصري، فيما سُمي "عملية موكيد"، وبذلك بدأت "حرب الأيام الستة"، التي حُسِمَت من ناحية عملية في يوم واحد، وفيها ألحقت إسرائيل الهزيمة بالجيوش العربية التي سَعَت إلى إبادتها وهي لم تزل في حدودها الضيقة والخانقة في ذلك الوقت داخل ما يسمى بـ"الخط الأخضر".

بعد أيام قلائل، تَحِلُ ذكرى مرور خمسين عاما على ذلك الحدث الكبير، والذي لم تنقذ فيه إسرائيل نفسها وحسب، وإنما أيضاً دخلت إلى مناطق وأماكن كانت بمنزلة أُمْنيَة راودت الشعب اليهودي طوال "ألفي عام".

كانت "حرب الأيام الستة" هي الثالثة في حروب إسرائيل (بعد حربي 1948 و1956)، التي لم تكن تخطت في ذلك الوقت عامها التاسع عشر. وعلى مداخل المدن والبلدات والمستوطنات والبيوت في المناطق التي دخل إليها الجيش الإسرائيلي، كانت الرايات البيضاء ترفرف في استقبال الجنود الإسرائيليين الذين تغلغلوا في صحراء سيناء والضفة الغربية وهضبة الجولان في الأيام الخمسة التالية (ليوم الخامس من حزيران)، بعد الضربة التي وجهها سلاح الجو الإسرائيلي للعدو في أول أيام الحرب.

كان "عرب المناطق" (فلسطينيو الضفة الغربية وقطاع غزة) مستعدين للاستسلام، ربما لأنهم كانوا يتوقعون المصير المُرّ الذي كان يساور مخيلتهم على الأقل، وهم الذين أدركوا وقتئذٍ تماما ما الذي كانوا سيفعلونه بالعدو اليهودي، فيما لو كان هو الذي سَيُهزم ويستسلم ويقع تحت الاحتلال.

لقد شكلت "حرب الأيام الستة" أكبر إنجازٍ عسكري في تاريخ الشعب اليهودي منذ عهد "يهودا المكابي". وهذا الإنجاز العسكري الهائل الذي أدهش العالم بأسره، أذهل العالم العربي وفاجأ مليونين ومئتي ألف إسرائيلي (تعداد سكان إسرائيل في العام 1967) الذين أداروا حياتهم في ظل تهديدات بإبادة دولتهم منذ قيامها. لقد اخترق الجيش الإسرائيلي "حدود أوشفيتس"، حسب تعبير وزير الخارجية الإسرائيلي في ذلك الوقت أبا إيبان، وأدخل دولة إسرائيل الصغيرة ومواطنيها إلى حيزات وبِقَاعٍ جديدة.

وهكذا فقد حَلَّت بهجة ممزوجة بكبرياءٍ قومي مكان أجواء الكآبة واليأس التي كانت جاثمة فوق نفوس الإسرائيليين طوال الفترة السابقة لذاك النصر الكاسح. كذلك فقد ألهبت نتائج الحرب خيال يهود الشتات وأثارت الحماسة لديهم، بل وتغلغلت إلى ما وراء "الستار الحديدي". وللمرّة الأولى أبصر ملايين "يهود الصمت" الذين أقاموا وقتئذٍ في الإتحاد السوفييتي والدول الدائرة في فلكه في أوروبا الشرقية الشيوعية، ضوءا في آخر النفق المظلم، وراودهم أملٌ كبير في "العودة إلى صهيون"، كما شعر ملايين اليهود في الشتات بأن ذلك النصر أعاد الإعتبار إلى كبريائهم القومي. ولقد تحولت دولة إسرائيل الفتية في غضون فترة قصيرة من عبء سياسي إلى كنزٍ إستراتيجي، وتبدد بصورة تدريجية الشعور بوطأة الغيتو والعزلة السياسية.

"الوحدة الوطنيـة"!

في فترة "الانتظار" التي سبقت حرب حزيران 1967، كان الإسرائيليون جميعا مدركين لحقيقة أنه ليست هناك أية قيمة، في ساعة الاختبار، لكل التصريحات والضمانات والاتفاقيات والمعاهدات التي وُقِعت منذ قيام الدولة، أو التي أُعِطِيت أو أُبرِمَت منذ الإنسحاب العسكري الإسرائيلي من صحراء سيناء وقطاع غزة قبل عشر سنوات من اندلاع "حرب الأيام الستة" (1956)، حيث ساد وقتئذٍ الشعور بأن "أصدقاء" إسرائيل تخلوا عنها.

في تلك الفترة، ترأس الحكومة الإسرائيلية ليفي أشكول "الرجل الضعيف" الذي كان خصومه داخل صفوف حزبه، وأولئك الذين تخلوا عنه، وعن سلفه في المنصب دافيد بن غوريون، ينغصون عليه حياته. وقد توسل أشكول الحصول على الثقة والدعم، إلا أن طلبه قوبل بالرفض. لكنه وخلافا لسلفه دافيد بن غوريون، باشر جهودا ومساعي لرأب الصدع وإحلال المصالحة مع الحركة التي تم نبذها منذ قيام الدولة، بل وقبل عقود من قيامها. وقد ساهم انفتاح أشكول على ما يجول في أذهان الرأي العام، وإصغاؤه لمختلف الأصوات، في تحقيق الوحدة الوطنية للمرة الأولى في تاريخ الحركة الصهيونية.

وتحقق ذلك بعد أن دعا أشكول زعيم المعارضة "الأبدي" ورئيس كتلة "جاحل" (كتلة حيروت - الأحرار) مناحيم بيغن، لتولي منصب وزير بلا حقيبة في حكومة "الوحدة الوطنية"، بالإضافة إلى زميل بيغن في الحزب عضو الكنيست يوسف سابير. وقد جرى بضغط من بيغن ضم الجنرال (احتياط) موشيه دايان إلى حكومة الوحدة الوطنية كوزير للدفاع، مما مكن إسرائيل من الخروج إلى تلك المعركة المصيرية.

لقد بينت فترة الخمسين عاما المنقضية منذ تلك الحرب، أن العرب لم يستفيدوا من عبر ودروس تلك الهزيمة المريرة التي منوا بها، وهي فترة خمسة عقود خاض فيها الإسرائيليون غمار نحو عشر حروب، برهنت خلالها سياسة "الجدار الحديدي"، التي اتبعها الجيش الإسرائيلي، على صحتها، وعلى أن كل ما جرى، من إرهاب مستمر وآلاف الضحايا ومعاهدتي سلام (مع مصر والأردن)، وانسحابات وانقلابات سياسية، ومساعي وساطة وجهود دبلوماسية ومؤتمرات وضغوط لا حصر لها، لم يجدِ نفعا. فقد نجحت إسرائيل، في خضم كل ذلك، في توطيد أركانها عسكريا واقتصاديا واستوعبت ملايين المهاجرين، وتضاعف عدد سكانها ثلاث مرات، بل وتحولت إلى قوة عالمية في مجال الصناعات التكنولوجية المتطورة (الهايتك)، غير أنها أصبحت أيضا دولة ملذات يعيش قسم من مواطنيها في وهم مؤداه أن القيام بانسحاب جديد، وتقديم تنازل آخر، من شأنه في نهاية المطاف أن يرضي العرب.

اليوم وبعد خمسة عقود انقضت منذ ذلك الوقت، نجد أن الخطر الرئيس الماثل أمامنا يتأتى بالذات من داخل البيت، من بين صفوف تلك الأوساط الواسعة التي لا تثق بمستقبل الدولة، والتي تلاشى لديها الإيمان بعدالة الطريق وأضحت تبحث لنفسها عن جواز السفر الثاني الـ "المضمون"، تلك الأوساط التي تُلقي باللائمة على نفسها وتبرر المطالب العربية والفلسطينية. خمسة عقود مضت دون أن نُطبق فيها القانون الإسرائيلي سوى على مدينة القدس الموحدة وهضبة الجولان، مكتفين بالاستيطان في مناطق "يهودا والسامرة" (الضفة الغربية) التي يقطنها الآن قرابة نصف مليون إسرائيلي (ومن ضمن ذلك الأحياء اليهودية في القدس الشرقية) تاركين مسألة "المناطق" كمسألة خلافية مفتوحة للمفاوضات وللصراعات العنيفة.

إلى ذلك فقد أخذت الجهود الرامية إلى إعادة إسرائيل لخطوط العام 1967، التي انطلق العرب منها لشن حرب إبادتهم ضدنا، تزداد وتتصاعد في السنوات الأخيرة، مصحوبة بإرهاب الصواريخ من جانب الفصائل والمنظمات الإرهابية. ويسعى العرب إلى خداعنا بالقول: "عودوا إلى الخط الأخضر وسيحل السلام"، وهي "خدعة" سبق أن فشلت مرارا أمام الاختبار، فقد انسحبنا إلى خطوط العام 1967 من منطقتي صحراء سيناء وقطاع غزة؛ انسحبنا من سيناء في نطاق معاهدة السلام التي أبرمتها إسرائيل مع مصر كبرى الدول العربية في العام 1979، وانسحبنا من قطاع غزة في نطاق الانسحاب الأُحادي الجانب في العام 2005، والذي أُقتلعت معه مستوطنات غوش قطيف المزدهرة. ونحن لا نتلقى منذ ذلك الوقت من قطاع غزة سوى الصواريخ والتهديدات، بل واضطررنا إلى العمل داخل القطاع في ثلاث عمليات عسكرية ألحقت بنا الشتائم والعار والفضائح لدى المجتمع الدولي، الذي يزعم أن إسرائيل ما زالت هي المسؤولة عما يجري في المنطقة الخاضعة لسيطرة حركة "حماس".

وكما حصل في قطاع غزة فإن أية منطقة ستنسحب منها إسرائيل في المستقبل - إذا ما تكرر هذا الخطأ الشنيع في أماكن أُخرى- سوف تتحول فورا إلى خشبة قفز إلى الحرب القادمة، وإلى محاولة لتدمير إسرائيل وإبادتها، وهو حلم ما زال يراود العرب حتى الآن، حتى بعد أكثر من عشر هزائم أنزلتها بهم إسرائيل خلال الخمسين عاما المنصرمة منذ العام 1967.

السلام مع الفلسطينيين- مجرّد "أحلام يقظة"!

لقد جرت في منتصف الطريق، أي قبل حوالي 25 عاما، وبعد حوالي 25 عاما من "حرب الأيام الستة"، جهود ومساعٍ جادة لتحريك عجلة المفاوضات بهدف التوصل إلى حل للنزاع الإسرائيلي – العربي، وقد وجدت هذه الجهود تعبيرا لها في مؤتمر مدريد للسلام (1991)، والتي علمتنا كما يبدو أن السلام مع الفلسطينيين هو مجرد "أحلام يقظة"! وقد شكل هذا المؤتمر واحدا من بين عشرات العلامات الدبلوماسية في نطاق الجهود المضنية لتسوية مسألة السيادة في "يهودا والسامرة"، وباقي المناطق التي جرى تحريرها (في حرب 1967)، والتي جرت أيضا من أجل توسيع دائرة السلام مع الدول العربية.

وقد أُتيح انعقاد مؤتمر مدريد ليس فقط في أعقاب حرب الخليج الأولى، والتي أطلق خلالها العراق عشرات الصواريخ الباليستية باتجاه إسرائيل، وإنما أيضا وبالأساس، في أعقاب معاهدة السلام الأولى الموقعة مع مصر، وحرب "يوم الغفران" المفزعة (حرب تشرين الأول/ أكتوبر1973). ومن دون التطرق إلى الثمن الباهظ الذي دفعته إسرائيل بآلاف الضحايا ومساحات شاسعة من الأراضي التي انسحبت منها، فإن معاهدة السلام مع مصر- أقوى وأهم دولة عربية - أُحرِزَت فقط عبر المفاوضات المباشرة، في محادثات جرت بين رئيس الحكومة الإسرائيلية مناحيم بيغن وبين الرئيس المصري أنور السادات. وفي موازاة توقيع اتفاقية السلام مع مصر تقريبا، والتي تخلت فيها إسرائيل (في عهد حكم اليمين!) عن كامل المنطقة الضخمة والإستراتيجية المتمثلة في شبه جزيرة سيناء – جرى تطبيق القانون الإسرائيلي (عملية الضم) على هضبة الجولان والقدس الكاملة، التي جرى توحيدها تحت سيادة الشعب اليهودي.

كذلك فقد جاء مؤتمر مدريد قبل التوصل إلى معاهدة السلام الثانية، بين إسرائيل والمملكة الأردنية، والتي وُقِعَتْ بين رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين وبين عاهل الأردن (الراحل) الملك حسين. هذه الاتفاقية أو المعاهدة وُقِعت دون أن تدفع إسرائيل في المقابل أي ثمن إقليمي (أي دون التنازل عن أراضٍ)، لكنها أجَّجَت المشكلة الفلسطينية.

وقد ترأس الوفد الإسرائيلي إلى مؤتمر مدريد رئيس الوزراء "المنسي" إسحاق شامير، والذي أحسن استغلال الفرصة التي حظي بها في رحاب القصر الملكي الإسباني، من أجل طرح مواقف ومطالب دولة إسرائيل، وفق رؤيته لها، إذ نال خطابه صدى واسعا وآذانا صاغية لدى زعماء القوى الخمس العظمى والدول العربية، والذي كَرَسه بأكمله لعرض المبادئ الأساس التي تُصر عليها إسرائيل كشرط للتقدم في المفاوضات.

صحيح أن اللقاء الذي عُقِدَ وقتئذٍ في مدريد وصِفَ بـ"المؤتمر الدولي"، غير أن هذا اللقاء كان عمليا مجرد لقاء احتفالي فقط.

وقد حدد إسحاق شامير، بالتنسيق مع الرئيس الأميركي في حينه جورج بوش الأب، لهذه الافتتاحية الاحتفالية هدفا وهو أن تشكل بمثابة بداية تنطلق منها مفاوضات مباشرة بين إسرائيل وبين جاراتها العربيات، وهذا ما حصل بالفعل. فقد جرى تصميم المؤتمر بصورة كاملة وفق المطلب الإسرائيلي العنيد الرافض جملة وتفصيلا لأي مفاوضات في إطار محفل دولي يملي حلا للنزاع بين إسرائيل وجيرانها.

دوافع رفض فكرة المؤتمر الدولي

لقد شَكَّلَ رفض فكرة المؤتمر الدولي مبدأ أساسيا في رؤية إسحاق شامير السياسية، إذ أوضح شامير في حينه قائلا إن المؤتمر الدولي هو أشبه بهيئة قضائية، أو محكمة دولية، يمثل أمامها متهم واحد، بمعنى أن طرفا واحدا سوف يُدانُ فيها وسيجبر على دفع كامل الثمن، في حين أن الطرف الثاني المدعوم من قبل هيئة القضاة، سيكون هو الرابح والمستفيد الوحيد فقط، مقابل حَملِهِ على التوقيع على مجرد "ورقة" عنوانها: اتفاقية سلام.!

في موضوع المؤتمر الدولي كان شامير على خلافٍ شديدٍ مع حزب "المعراخ- التجمع"، وزعيمه شمعون بيريس، أي مع شركائه في حكومة "الوحدة الوطنية"– حكومة المناوبة – وذلك طوال فترة ولاية هذه الحكومة.

فمن وجهة نظر شامير، فإن أية مفاوضات جادة وحقيقية يجب أن تجري بصورة مباشرة، دون وسَطاء معادين للمصالح الإسرائيلية، بين طرفي النزاع الجالسين حول مائدة واحدة، وجها لوجه، ودون وضع شروط مُسبَقة. فبهذه الطريقة فقط سيتضح منذ البداية، حسب رؤية شامير، إذا ما كانت ثمة رغبة لدى الطرفين في التوصل إلى سلام حقيقي بينهما. كذلك ستتضح في المفاوضات المباشرة جميع مطالب الطرفين، وربما ينجحان في التوصل إلى تسوية وتفاهم واتفاق، وإلى الإقرار في المقام الأول بأنه يتعين على كل طرف تقديم تنازلات – وليس فقط تنازلات إقليمية – وأن يكون كلا الطرفان مهيئين مسبقا للتوصل إلى تسوية أو حلٍ وسط.

وكما هو معلوم، فقد رفض شامير بصورة قاطعة صيغة "الأرض مقابل السلام"، وطرح عوضا عنها صيغة "سلام مقابل سلام"، بمعنى التباحث أولا حول مبدأ السلام في حد ذاته، ومن ثم حول شروط مثل هذا السلام. لقد أدرك شامير في قرارة نفسه أن الدخول في مفاوضات من أجل التوصل إلى اتفاق سلام، يتطلب من الجانب الإسرائيلي أيضا تقديم تنازلات. ومن ضمن هذه التنازلات، على سبيل المثال، منح حكم ذاتي موسع لـ"عرب يهودا والسامرة وغزة"، الخاضعين لسلطة إسرائيل منذ العام 1967.

لقد كان شامير فخورا حتى يومه الأخير بأن إسرائيل لم تتنازل في عهد حكومته، ولو عن سنتمتر واحد من "أجزاء الوطن".
ما زالت فكرة المؤتمر الدولي لتسوية النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني تطرح حتى الآن من حين إلى آخر على الأجندة الدولية، وثمة من يسعى إلى إحيائها، كما عبر ذلك عن نفسه في المبادرة الفرنسية المثيرة للسخرية، التي طُرحت في الفترة الأخيرة، والتي دُعي بموجبها العشرات من رؤساء الدول ووزراء الخارجية للاجتماع في باريس لبحث – بل لفرض إن شئتم – إقامة دولة فلسطينية وانسحاب إسرائيل من كامل أراضي العام 1967.

كذلك فإن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو- الذي قاد الدعاية الإسرائيلية خلال انعقاد مؤتمر مدريد في العام 1991 – يعي جيدا مغزى فكرة المؤتمر الدولي، وهو من هذه الناحية، يعتبر مكملا لطريق رئيس الوزراء (الليكودي) الراحل إسحاق شامير، إذ يصر نتنياهو على مبدأ المفاوضات المباشرة، رافضا بذلك إملاءات المجتمع الدولي. فهو يدرك جيدا أن أية مبادرة من هذا القبيل – سواء في إطار مؤتمر خاص أو في إطار الجمعية العامة للأُمم المتحدة أو مجلس الأمن الدولي – لن يكون هدفها تحقيق السلام، وإنما إرغام إسرائيل على الانسحاب إلى خطوط الرابع من حزيران 1967، دون أن تُبحَثَ أو تُقبَلَ أيٌ من مطالبها، وفي مُقَدمها الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي.

إسرائيل قدمت التنازلات المطلوبة منها للفلسطينيين ولن تقدم المزيد!

في واقع الأمر، فإن العرب الذين يُطلق عليهم "فلسطينيون"، يتمتعون حاليا بصورة فعلية، وللمرّة الأولى في تاريخهم، بإدارة ذاتية (أوتونوميا) موسعة، في أجزاء واسعة من "المناطق" (المحتلة)، إذ أن السلطة الفلسطينية تعمل كدولة بكل معنى الكلمة تقريبا، فلديها نظام حكم وعلم ورموز ومراسم وسُفراء وشرطة و... منظمات إرهابية! والمقصود إدارة ذاتية لم يتمتعوا- بل ولم يطالبوا- بها طوال 400 عام من حكم الإمبراطورية العثمانية، وطوال ثلاثين عاما من فترة الانتداب البريطاني، وطوال تسعة عشر عاما كانت فيها "المناطق" (الضفة الغربية وقطاع غزة) جزءًا من الأردن ومصر.

على الرغم من ذلك، فقد أخفقت إسرائيل طوال خمسين عاما من سيطرتها على "المناطق"، في طرح مسألة الحق التاريخي للشعب اليهودي في هذه البلاد بصورة حازمة على بِساطِ البحث، وهو الحق الذي يجب أن يتغلب ويتفوق على أي حق آخر للسكان الأصليين غير اليهود في بقاع هذا البلد. فقد ركز المتحدثون بلسانها (أي إسرائيل)، على المصلحة الأمنية، والتي تُعتَبر مصلحة مهمة في حد ذاتها، وذلك خلافا للفلسطينيين الذين لا يألون جهدا من أجل تحريف الرواية التاريخية، بطرحهم لـ" حقوقهم التاريخية"، بزعم أنهم من "سلالة الكنعانيين"، وغيرها من الأكاذيب السخيفة التي تصل أحيانا أيضا إلى حد اللاسامية. صحيح أن المجتمع الدولي يتفهم المطالب الأمنية لإسرائيل، غير أنه يربطها بالانسحاب إلى خطوط العام 1967، وإقامة دولة فلسطينية.
إن على إسرائيل التطرق في جهودها الدعائية إلى تجربتها المريرة "الثلاثية":

- في العام 1948: "حرب الاستقلال"، التي اندلعت في أعقاب رفض العرب، ومن ضمنهم "عرب أرض إسرائيل"، قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة في 2 تشرين الثاني 1947، وعدم تسليمهم بقيام الدولة اليهودية في 14 أيار 1948؛
- في العام 1967: "حرب الأيام الستة"، التي اندلعت عقب محاولة الحكام العرب تدمير إسرائيل الصغيرة والضيقة.
- في العام 2005: عندما انسحبت إسرائيل، في نطاق تنفيذ "خطة الانفصال"، بصورة أُحادية الجانب من قطاع غزة، متخلية عنه لصالح سلطة منظمة إرهابية (حركة حماس).

إن هذه المحاولات الثلاث تُبين أن السلام لا يتحقق عبر تقديم تنازلات إقليمية، وإنما، في المقام الأول، عبر التمسك بموقف حازم من جانب الحكومة الإسرائيلية ضد أي انسحاب أو مقامرة على أمن إسرائيل، عن طريق إخلاء مناطق واقتلاع مستوطنات.

فضلا عن ذلك يتعين على إسرائيل تعزيز وتوطيد سيطرتها ومكانتها في "يهودا والسامرة"، ليس من الناحية العسكرية فقط، وإنما من الناحية الاستيطانية أيضا.

ينبغي لإسرائيل التمسك بمواقفها وأن تقول للعالم بأنها قدمت التنازلات المطلوبة منها، ولن تقدم المزيد. فإسرائيل لم تعد تسيطر على 98% من "عرب يهودا والسامرة"، الذين يتمتعون بحكم ذاتي كامل في مناطق أ و ب، والذي يعني أن الفلسطينيين لن يكونوا مواطنين إسرائيليين، وأنه يمكن لهم، إذا ما أرادوا، أن يجسدوا تطلعاتهم الوطنية كجزء من المملكة الأردنية.

في المقابل فإن إسرائيل تجسد حقها في الاستيطان في بقاع وطنها التاريخي، والتي لا تختلف من حيث الحق في العيش والبناء عليها عن النقب والجليل ومنطقة "هشارون" والساحل، كما أنها تجسد أيضا سيطرتها الأمنية في كل الحيز الواقع بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن.

لقد عشنا أياما مجيدة في أعقاب الانتصار الكبير في "حرب الأيام الستة " قبل 50 عاما.. أعدنا توحيد مدينة القدس، وأشرعنا أبواب أجزاء الوطن بأكمله أمام أبناء الشعب اليهودي.


هيا بنا نعود إلى تلك الروح المنتشية التي نبضت داخل نفوسنا في ذلك الوقت.. هيا بنا نتشبث بمنجزات ذلك النصر العظيم وبحقنا غير القابل للجدل في القدس الكاملة، في يهودا والسامرة، في بيت إيل وشيلو، في "حفرون" (الخليل) و"معرات همخبلاه" (الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل)، وفي هضبة الجولان بطبيعة الحال. بتمسكنا بكل هذه الأماكن، وبإصرارنا على مواقفنا- بقوة الحق التاريخي- نستطيع فقط ضمان مستقبل دولة إسرائيل وأمنها إلى الأبد.

 "هؤماه" الفصلية الصادرة عن "محفل جابوتنسكي". هذا المقال هو افتتاحية العدد 205 من المجلة الصادر أخيرًا والمخصّص لذكرى مرور نصف قرن على حرب حزيران 1967. ترجمة خاصة:

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات