المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
قطاع البناء في إسرائيل أبرز الخاسرين من غياب العمال الفلسطينيين. (صحف)

خلّف قرار إسرائيل بإيقاف دخول أكثر من مئة ألف عامل فلسطيني من الضفة الغربية وقطاع غزة للعمل في إسرائيل بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي معضلة كبيرة إسرائيلياً وفلسطينياً. من ناحية إسرائيل المحكومة بمقاربة أمنية بحتة في نظرتها للفلسطينيين، تُشير التقديرات إلى أن استمرار إيقاف دخول العمال من شأنه زيادة "الضغط" وحالة "عدم الاستقرار الأمني" في الضفة الغربية، وسط معضلة إسرائيلية بين ما تريده وما هو ممكن في المدى المنظور. من الناحية الفلسطينية، أدّى هذا الإيقاف إلى مزيد من التدهور في الوضع الاقتصادي في الضفة غير المستقرّ من الأساس، عدا عن تحوّل جزء كبير منهم إلى عاطلين عن العمل بعد أن كان العمل في إسرائيل مصدر اعتماد ودخل مئات الآلاف من الفلسطينيين منذ سنوات طويلة.

في هذه المساهمة نستعرض أبرز ما جاء في تقرير صادر عن معهد أبحاث الأمن القومي في جامعة تل أبيب، أعدّه كل من يوحنان تسوريف وستيفان كلور، يُسلّط الضوء على الإشكاليات المترتبة على استمرار إيقاف إدخال العمال الفلسطينيين من الضفة الغربية للعمل في إسرائيل. جدير بالذكر أن الأفكار والمعطيات الواردة أدناه مصدرها التقرير وليس مُعدّ المساهمة.

يستعرض التقرير الخطوات الإسرائيلية المتخذة في أعقاب هجوم طوفان الأقصى: إعلان حالة الحرب، مهاجمة قطاع غزة، الإجراءات الإسرائيلية في الضفة الغربية بما في ذلك إيقاف إدخال أكثر من 140 ألف عامل فلسطيني للعمل في إسرائيل. وعلى الرغم من مرور 5 أشهر على الحرب في غزة وأيضاً مع حزب الله على الجبهة الشمالية، وحالة الاستعداد والتأهب في الضفة الغربية، فإن الحياة في إسرائيل تعود إلى مسارها الطبيعي باستثناء المناطق التي تم إجلاء سكّانها (بعض مستوطنات غلاف غزة والمستوطنات في الشمال)، وكذلك بسبب حالة التعبئة (تجنيد الاحتياط).

يُشير التقرير إلى أن الساحة الفلسطينية بعيدة كل البعد عن العودة إلى "المسار الطبيعي"- الذي كان قائماً قبل الحرب- وما زال قطاع غزة في عين العاصفة بسبب الدمار والخراب الذي لا ينسبه التقرير لإسرائيل، وكذلك فإن النشاط الاقتصادي في الضفة الغربية في حالة انخفاض ملحوظ ويعود ذلك (جزئياً بحسب التقرير) للخطوات التي اتخذتها إسرائيل وتحديداً في مسألتي اقتطاع أموال المقاصة التي تجبيها للسلطة، وقرار إيقاف دخول العمال إلى إسرائيل.

إن العمل في إسرائيل له أهمية كبيرة بالنسبة للفلسطينيين كما يؤكد التقرير، وهذا الأمر تم تنظيمه في أقسام اتفاقية أوسلو (بروتوكول باريس الاقتصادي) بهدف مساعدة الاقتصاد الفلسطيني على النمو؛ إلّا أن هذا الأمر أنشأ اتصالاً واعتماداً "متبادلاً" بين الاقتصاد الفلسطيني والاقتصاد الإسرائيلي، وبمرور الوقت، نشأت علاقة بين الاعتماد المتبادل والتنسيق الأمني بين أجهزة الأمن الإسرائيلية والأجهزة الأمنية التابعة للسلطة، وفي كل المراحل التي أثبت فيها التنسيق فعاليته وأنتج "استقراراً أمنياً" على الأرض، كانت تبدي إسرائيل مرونة وانفتاحاً في إدخال العمال الفلسطينيين للعمل في بعض القطاعات الاقتصادية.

عشية الحرب، كان عدد العمال من الضفة الغربية 165 ألفاً (130 ألفاً من حملة التصاريح، وعشرات الآلاف بدون تصاريح والتقديرات أن العدد يتجاوز 35 ألفاً). منذ بداية الحرب، فقد قرابة 150 ألفاً من هؤلاء مصدر دخلهم الوحيد، بينما أبقى "قائد المنطقة العسكرية الوسطى في الجيش" على قرابة 15 ألف عامل يعملون في المستوطنات المقامة على الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية. بالنسبة للعمال، فما زالوا يُعلّقون آمالاً كبيرة على إعادتهم للعمل على غرار كل العمليات العسكرية الإسرائيلية السابقة بين إسرائيل وحماس، على الرغم من التشدّد الإسرائيلي هذه المرة، وأن هذه الحرب ليست كسابقاتها، وعلى الرغم من استمرار "إنكارهم" لما حدث صبيحة السابع من أكتوبر وحالة الدعم والتأييد الواسع لحركة حماس في الضفة الغربية؛ فإن آمالهم لا تتراجع لأن إسرائيل لم تقُم باستبدالهم حتى هذه اللحظة التي اعتادت على عملهم واحترافيتهم، وكذلك لأن هذا العمل هو مصدر الدخل الوحيد لهذه العائلات.

يُشير التقرير إلى أن معطيات الاقتصاد الكلي تؤكّد أن العمل في إسرائيل وفي المستوطنات كان يُشكّل حوالي 20% من الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني، وهو بمثابة داعم قوي للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي. مثلاً، أدخل العمال الفلسطينيون في إسرائيل والمستوطنات على الاقتصاد الفلسطيني في العام 2022 وحده أكثر من 4 مليارات دولار، في حين بلغ إجمالي الميزانية السنوية للسلطة في ذلك العام حوالي ستة مليارات دولار. كذلك، بلغت أجرة عامل البناء في إسرائيل عشية الحرب حوالي 300 شيكل في اليوم الواحد، أي أكثر من ضعفي متوسّط ​​أجر العمال في الضفة الغربية، البالغ حوالي 115 شيكلاً، وهذا الأمر بحسب التقرير ترك أثراً كبيراً، وكان بمثابة شوكة في خاصرة المجتمع الفلسطيني: من ناحية زاد دخل الأسرة الفلسطينية للعامل في إسرائيل، وتستفيد السلطة الفلسطينية من هذا الدخل، ومن ناحية أخرى أضرّ الحصول على التعليم العالي، وبالتالي، فإن غياب الخبرات العملية والماهرة عن سوق العمل الفلسطينية يجعل من الصعب للغاية تطوير الاقتصاد الفلسطيني ويتركه وراءه بدون محركات نمو تدفع المجتمع إلى الأعلى.

من الناحية الفلسطينية، يُشير التقرير إلى أن السلطة الفلسطينية أصبحت معرّضة لخطر الانهيار الاقتصادي؛ فالاقتصاد الفلسطيني الذي يعاني من معدل بطالة وصل منذ الحرب إلى نحو 40%، غير قادر على أن يوفر بدائل للذين لم يتمكّنوا من إيجاد بديل بمستوى الأجور نفسه الذي تقدمه لهم سوق العمل الإسرائيلية، الأمر الذي خلق حالة واسعة من الإحباط لدى العمّال الذين يجلسون في بيوتهم ويساهمون بدورهم في زيادة نسبة البطالة. من ناحية أخرى، يؤكّد التقرير أن العمل في إسرائيل يكشف للفلسطينيين عن الفجوة الكبيرة بين الاقتصادين، وعلى الرغم من أنه شكّل جذباً كبيراً للكثيرين، فإنه بالنسبة للكثيرين أصبح كابوساً. هذا الأمر ولّد حالة من الغضب بعد قرابة 5 أشهر في ظل غياب قدرة السلطة على توفير بدائل. وإلى جانب اضطرار السلطة إلى دفع جزئي للرواتب لموظفيها، ومن بينهم العاملون في الأجهزة الأمنية، وسط تحذيرات مستمرّة منها ومحاولة تحشيد رأي دولي لممارسة الضغط على إسرائيل بسبب تدهور وضعها الاقتصادي. هذه الأسباب أنشأت وضعاً أصبح فيه الكثيرون من العمال يسيرون في الشوارع مكتوفي الأيدي و"يخضعون لتأثير المنتقدين والمحرضين ضد إسرائيل والسلطة" بحسب ادّعاءات التقرير.

أما من الناحية الإسرائيلية، فإن منع دخول العمال الفلسطينيين يضر أيضاً بالاقتصاد الإسرائيلي، حيث كان يعمل معظم هؤلاء العمال الفلسطينيين عشية الحرب في قطاعات اقتصادية كالبناء والزراعة والمطاعم. إن الأضرار التي لحقت بقطاع البناء كبيرة بشكل خاص (يوظف هذا القطاع قرابة 100 ألف عامل فلسطيني، أي حوالي ثلث جميع العاملين في هذا القطاع في إسرائيل، وحوالي 80% من العاملين في أعمال القصارة، البلاط، التكحيل)، ولكون العمال الفلسطينيين قد اكتسبوا مهارات وسمعة في هذا المجال، يخلق غيابهم مشكلة خطيرة لهذا القطاع.

يؤكّد التقرير أنه ومنذ السابع من أكتوبر، هناك تباطؤ ملحوظ، حيث لا يتم إطلاق أعمال بناء جديدة تقريباً، كما أن العديد من المشاريع توقّفت أو تباطأت وتيرة تقدّمها بشكلٍ كبير. كذلك، لم يتوقّف قطاع المقاولات والإنشاءات في إسرائيل من أسابيع طويلة عن التحذير من التهديد الذي يحوم حول هذا القطاع، خصوصاً وأنه قد تبين أن البحث عن عمال من دول أخرى بديلاً للعمال الفلسطينيين كما في حالات مماثلة حصلت في الماضي، أصبح أمراً صعباً، وكذلك غير مجد نظراً لمهارة العمال الفلسطينيين ومهنيتهم، وأيضاً ​بسبب شروط التوظيف التفضيلية التي لا تلزمهم بالمبيت في إسرائيل. وما يزيد تعقيد المشكلة أن الإسرائيليين لا يعملون في مثل هذه القطاعات، كما أن جلب العمال من البلدان التي تعاني من بطالة (دول شرق آسيا مثلاً) هو عملية تنطوي على تعقيدات (استيعاب وتدريب طويل الأمد)، وهذا كله يحدث مع استمرار ارتفاع الطلب على الشُقق، بالتالي فإن تجميد البناء الحالي سيؤدي إلى زيادات حادة في الأسعار في السنوات المقبلة بسبب النقص المحتمل في الشقق الجديدة.

يؤكّد التقرير في استنتاجاته أن مشاعر الغضب بسبب هجوم طوفان الأقصى صبيحة السابع من أكتوبر ما زالت تؤثر بشكل كبير على عملية صنع القرار في إسرائيل. في المقابل، فإن الوضع الاقتصادي في الضفة الغربية آخذ في التدهور، حيث تدفع السلطة الفلسطينية، التي لم تدن هجوم حماس، الثمن، وكذلك العمال يدفعون ثمن "تماثلهم مع حماس"، والسلطة غير قادرة على إيجاد مصادر مالية بديلة لتلك التي تستقطعها إسرائيل. إن الانهيار الذي تتحدث عنه السلطة، يزعج المؤسسة الأمنية بشكلٍ كبير وكذلك البعض في الحكومة الإسرائيلية. لذلك، يقول التقرير إن إسرائيل بإمكانها اتباع سياسة انتقائية ورقابية لمنح التصاريح للعمال الذين لا يُشكّل دخولهم أي خطر (مثل كبار السن، والمتزوجين الذين لديهم عائلات وأطفال يُثقلون أعباء كسب الرزق)، وهذا الأمر ليس غريباً، طالما أن هناك قرابة 10 آلاف عامل فلسطيني يعملون في المناطق الصناعية في المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية خلال الحرب. إن هذا الأمر من شأنه إحباط اتساع المواجهة، والحدّ من "الأجواء العنيفة" في الضفة الغربية كما يُشير التقرير خلال شهر رمضان، فالإعلان عن "عودة تدريجية" للعمال- حتى وإن بدأ تنفيذ ذلك في نهاية شهر رمضان- من شأنه بعث الأمل بالنسبة للعمال وعائلاتهم الذين يعتمدون بشكل كلّي على العمل في إسرائيل كمصدر دخل وحيد.

ختاماً، يأتي هذا التقرير بالتزامن مع تقديرات إسرائيلية وخشية المؤسسة الأمنية من اشتعال الأوضاع في الضفة الغربية خلال شهر رمضان، واستمراراً للمقاربة الإسرائيلية الرسمية التي تُعالج كل المسائل المرتبطة بالفلسطينيين من "منظور أمني" بحت بعيداً عن أي مقاربة سياسية، حيث ما زالت إسرائيل تحتكم لهذه المقاربة. كذلك، يُخفي التقرير الذي يحاول استعراض أسباب "الانفجار" الذي تحذّر منه إسرائيل كل الأسباب السياسية والوطنية: الحرب وعمليات التدمير والإبادة الجماعية في قطاع غزة، حالة الحرب منخفضة الوتيرة في الضفة الغربية وما تشهده من استباحة وحصار بما في ذلك القدس، ويحاول أن يموضع الضائقة الاقتصادية بوصفها أولوية بالنسبة للفلسطينيين، وعامل حاسم في "الاستقرار" وكذلك في "الانفجار" الذي يتم التحذير منه وليس أية عوامل أخرى ناجمة عن الجرائم والسياسات الإسرائيلية.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات