ما من اعتبار فوق "يهودية إسرائيل"

على هامش المشهد

(*) لعل الأمر الجديد الذي ينطوي عليه التحقيق الذي ظهر في الملحق الأسبوعي لصحيفة "هآرتس" (يوم 6 تموز 2007) حول عملية تفجير المساجد في المناطق الجنوبية من فلسطين بعد النكبة في 1948، هو كشف النقاب للمرّة الأولى عن توثيق الجيش الإسرائيلي نفسه لجزء من هذه العملية، التي يفوق زخمها ما تمّ أرشفته إسرائيليًا.

 

 

يستهل معدّ التحقيق، الصحافي ميرون رابوبورت، تقريره بالعبارات التالية:

 

"حتى تموز 1950 كانت مدينة المجدل، التي تسمى عسقلان حاليًا، مدينة مختلطة. فقد بقي يعيش فيها ثلاثة آلاف فلسطيني في غيتو مغلق ومحاط بأسلاك شائكة، إلى جانب السكان اليهود الذين وصلوا للتوّ. وكانت المجدل قبل الحرب مركزًا تجاريًا وإداريًا يقيم فيها 21 ألفًا من السكان، وكانت لها كذلك أهمية دينية كبيرة: ففي أزقتها، بين خرائب المجدل القديمة، كان مشهد النبيّ الحسين، وهو بناء عتيق أقيم في نهاية القرن الحادي عشر وقد دفن فيه، حسب التقاليد، رأس الحسين بن علي، حفيد النبي محمد، الذي شكل مقتله في معركة كربلاء في العراق إشارة الانشقاق بين الشيعة والسنّة في العالم الإسلامي. وقد دأب حجاج مسلمون، ليسوا فقط من الشيعة، على زيارة الضريح. غير أنه منذ تموز 1950 لم يبق لهم هناك ما يزورونه. فقد فجّر الجيش الإسرائيلي مشهد النبيّ الحسين.

"ولم يكن هذا هو الموقع الإسلامي المقدّس الوحيد الذي تمّ تدميره بعد حرب الاستقلال (1948). وبحسب أبحاث البروفيسور إيال بنفنستي، فإنه من بين مائة وستين مسجدًا كانت قائمة في القرى الفلسطينية التي شملها اتفاق الهدنة وبقيت تحت سيطرة إسرائيل، لم يبق اليوم سوى أقل من أربعين. غير أن الأمر الاستثنائي في حالة مشهد النبيّ الحسين هو أن هناك توثيقا لهذا التدمير، كما أنّ هناك تحملا للمسؤولية المباشرة من جانب شخص ليس سوى قائد الجبهة الجنوبية حينها، ضابط اسمه موشيه ديان. ويشير التوثيق إلى أن تفجير المكان المقدس في المجدل هو عمل مقصود، وجزء من عملية أوسع، شملت ما لا يقل عن مسجدين آخرين، واحد في يبنا والآخر في أسدود".

 

وعلاوة على هذا الكشف ثمة أهمية للدلالة التي انطوت عليها تلك العملية، والتي تتلخص في طمس عروبة فلسطين، تطبيقًا لرغبة دافيد بن غوريون في "محو كل ما كان قائمًا"، وأساسًا "محو الماضي الإسلامي".

 

ليست هذه هي المرة الأولى، التي تتيح لنا فيها وثائق إسرائيلية أن ندعم عملية محو عروبة فلسطين، من قبل الحركة الصهيونية، بالمعطيات الدقيقة.

 

وسأتوقف عند نموذجين:

 

(*) قبل فترة وجيزة عرضنا للبحث الذي يعكف على إعداده باحث إسرائيلي، اسمه غيش عميت، لنيل شهادة الدكتوراة في قسم الأدب العبري في جامعة بن غوريون في بئر السبع، ويتمحور حول عملية النهب المبرمجة لكتب الفلسطينيين ومكتباتهم العامرة في العام 1948 وما تلاه، وحول مداليل "تأثيث" بعض أجنحة "المكتبة القومية الصهيونية" بـ"غنائم" عملية النهب هذه.

 

ومما كتبه عميت بشأن بحثه هذا أنه في السنوات القليلة الفائتة كتبت في إسرائيل أبحاث غير قليلة عن النتائج الهدّامة، على الأقل بالنسبة لـ"المهزومين"، المترتبة على حرب العام 1948. وقد قدّمت أعمال عالم الاجتماع (المرحوم) باروخ كيمرلينغ والمؤرخين آفي شلايم وإيلان بابه وبيني موريس وغيرهم إسهامًا هامًا في هذا الشأن، وذلك من خلال نظرهم إلى الماضي بعيون محدقة في قلب الظلام، وهو الظلام نفسه الذي سعى الوعي الصهيوني، على مجموعة وكلائه في الصحافة والأدب والمؤسسة الأكاديمية، إلى إسدال الستار عليه. وهكذا بتنا نعرف، الآن، المزيد عن اللاجئين (الفلسطينيين) وعن الكيفية التي منعت إسرائيل بواسطتها، عمدًا وبمنهجية بالغة، عودتهم إلى بيوتهم. كما بتنا نعرف أن الصيغة الشعبية- الأخلاقية- البطولية لحرب الاستقلال (الاسم الرسمي لنكبة 1948 في القاموس الإسرائيلي)، حسبما غدت ثابتة في عمق الروح الصهيونية، هي صيغة مزيفة ومحرّفة على أقل تعديل. بل ونعرف بعض الأشياء عن نطاق ملكية اللاجئين وعن نهب الأملاك والأراضي والمصانع، وعن مصادرتها وبيعها، بدايةً للجيش الإسرائيلي ومن ثمّ لكل من يدفع أكثر. مع ذلك فقد بقينا أميين تقريبًا تمامًا بالنسبة للكارثة التي ألحقتها تلك الحرب بالثقافة الفلسطينية.

 

(*) قبل ذلك بكثير وفي إطار دراسته "نكتبك أيها الوطن" (أو "اللسان المقطوع")، التي تناولت المسكوت عنه في النص الأدبيّ الإسرائيلي، حلل الأديب والباحث الإسرائيلي يتسحاق لاؤور، بكفاءة عالية، عملية تهويد فلسطين بعد نكبة 1948 في تطبيقاتها الجغرافية والأركيولوجية على وجه الخصوص، وذلك من خلال التعرّض لمختلف المجالات التي أكد أنه لا يحدّها، من طرف "الوعي الجمعي" الإسرائيلي، أكثر من الثرثرة والطقوس المقتضبة، من جهة ويحدّها الكثير من الصمت، من جهة أخرى.

 

وهذا الصمت المبرمج أصبح، فيما بعد، أدبًا موجهًا (إسرائيليًا) وأصبح غابات لـ"الكيرن كاييمت" (الصندوق القومي لإسرائيل) ولافتات لذكرى متبرعين ومستوطنات لمهاجرين. كذلك تم تظهير أو تقدير مستوطنات يهودية قديمة من أيام الهيكل الثاني.

 

[يجدر في هذا الخصوص استعراض الكتب الإسرائيلية الخاصة بالرحلات أو الجولات، فهي تشتمل على "معين لا ينضب" من المستوطنات المقدّرة- الافتراضية- بل والمختلقة من أيام الهيكل الثاني وحتى من أيام الهيكل الأول، ويغيب عنها أي ذكر أو حتى أية إشارة إلى قرية فلسطينية سابقة. والقرى القائمة في هذه الكتب منوط ذكرها فقط بوجود كنيس قديم فيها وفي أحيان نادرة جدًا بوجود كنيسة أو دير].

 

أما لافتات الطرق فإنها تذكر خرائب القرى الفلسطينية وأطلالها فقط إذا شهد المكان معركة كبرى، مثل معركة القسطل. وفي حالة ذكر قرى فلسطينية فإن النعوت الملازمة لها هي "قرى مشاغبين" أو "مراكز عصابات" (معروف أنه فقط في قسم ضئيل من هذه القرى اندلعت معارك. أما القسم الأكبر منها فقد تم هدمه دون علاقة مع المعارك بتاتًا). المساجد اختفت تقريبًا من جميع الأماكن أو صارت أشبه بإشارات إلى لغة محظورة. بيد أن الأوامر الصهيونية تعاملت، بصورة أفضل قليلاً، مع الكنائس وبالأساس بسبب وجود ظهر قويّ لها في الخارج.

و"الثقوب السوداء" سدّتها ليس فقط الغابات الصمّاء، وإنما أيضًا مسابقات منهجية حول التوراة ومعرفة البلاد و"الميراث القتالي" للجيش الإسرائيلي والرحلات السنوية ورحلات مجالس العمال التي تقتفي "آثار المقاتلين". وبسرعة فائقة انصرفت أجهزة أيديولوجية مثل "شركة المحافظة على الطبيعة" أو المجلات المتخصصة في "تاريخ أرض إسرائيل" ومعاهد أبحاث "تاريخ أرض إسرائيل" - سوية مع قائمة طويلة من المؤسسات الأيديولوجية والطقوس القومية - نحو بناء المركبات الأكثر أهمية للإنسان الإسرائيلي "القديم" و"فوق التاريخي" و"الأبدي".

 

وأشار لاؤور إلى أنه يثور، بين الفينة والأخرى، غضب من جانب بعض المؤرخين وعلماء الآثار في ميادين علم "تاريخ أرض إسرائيل" على وزارة الأديان الإسرائيلية التي تختلق أماكن ومزارات لا تمت بأية صلة، قريبة أو بعيدة، إلى المقدسات اليهودية. غير أنه أكّد أنّ هذا الاستئناف الأركيولوجي/ العلمي على وزارة الأديان، باعتبارها أداة سياسية و"غير علمية"، لا ينبغي به أن يضلل أحدًا، ذلك أن جميع هؤلاء المستأنفين هم، في التحصيل الأخير، شركاء في مشروع أوسع بكثير أنيطت به مهمة إنتاج "الإسرائيلي"، باعتباره صاحب البلاد في وعيه التام. ومن خلال مهمة أشد وأدهى: إنتاج "الإسرائيلي" باعتباره صاحب البلاد، في وعي من بقي في وطنه ولم يطرد، أو في وعي من أفلح في العودة أو حاول العودة من الفلسطينيين.

 

وبينما حافظ الأميركيون، وفقما يؤكد لاؤور، على الأسماء الهندية لبعض الأقاليم والأماكن في الولايات المتحدة فإن اليهود خافوا حتى من الأسماء العربية. وعمل "المعبرنون" في هذا الحقل مثل البولدوزرات. والأمر الأكيد أن تهويدًا عنيفًا كهذا لفلسطين ما كان من الممكن تنفيذه لولا تجند النخبة اليهودية المثقفة، وليس وزارة الأديان وحدها، من أجل تنفيذه.

 

وتتراكم العديد من الوثائق الإسرائيلية التي تتحدث عن هذا الموضوع بصريح العبارة، ويماط عنها اللثام عامًا بعد آخر، بما بات بالإمكان اعتباره "دليلاً علميًا إلى عملية محو عروبة فلسطين".

 

من نافل القول إنّ غاية هذا المحو هي، في الوقت ذاته، توفير المصل الواقي للرواية الصهيونية. وقد أصاب أحد الباحثين الذي رأى أن الإطلاع على وقائع هذه العملية الرهيبة جعله أكثر شيء شاهدًا على لحظة تجسّد، بالملموس، الشكل الذي تنبثق فيه ثقافة ما من رماد ثقافة أخرى بعد أن تبيدها عن بكرة أبيها. فإن لحظة تخريب الثقافة الفلسطينية هي لحظة ميلاد وعي إسرائيلي جديد، مؤسّس ليس فقط على محو وجود العرب وإنما أيضًا على تدمير ثقافتهم. وبعد تخريب الثقافة يمكن إنتاج الإدعاء الذي بموجبه لم تكن هذه الثقافة قائمة البتة، و"الاطمئنان" إلى أنّه ليس في وسع أي شيء أن يناقض هذا المفهوم الملفّق أو يفنّده!.