• منوعات
  • 4507
  • هشام نفاع

تندلع من حين الى آخر موجات عاصفة من الجدل الإسرائيلي، حين يتجرأ كاتب أو فنانة أو محاضر جامعي أو إعلامية على التعبير عن حقائق يتكتّم عليها كثيرون. فلا يتطرقون إليها ألا في المحادثات الخاصة (سمعت مثلها شخصيًا مرارًا)، رغم يقينهم بأنها ليست سرًا تقتصر معرفته عليهم وحدهم. آخر العواصف جاءت إثر مقال للكاتب الصحافي يوسي كلاين في جريدة "هآرتس" (نيسان 2017) عبّر فيه عن صورة قاتمة مترتبة على اشتداد قرون التيار القومي الصهيوني الديني الاسرائيلي، المتماهي أكثر شيء، مع مشروع الاستيطان الكولونيالي في الضفة الغربية المحتلة.

 

يكتب كلاين أن المتدينين القوميين أخطر من الجهات التي تسوّقها المؤسسة الحاكمة على أنها "خطر وجودي". هؤلاء المغالون الإسرائيليون بنظره "أخطر من حزب الله، ومن سائقين ينفذون الدهس وفتيات يحملن مقصات. العرب بالإمكان تحييدهم (قتلهم)، وهؤلاء (المتدينون القوميون) ليس بالإمكان تحييدهم. إنهم يريدون السيطرة على الدولة وتنظيفها من العرب. وإذا سألتموهم، فسوف ينفون. وهم يعلمون أنه ما زال من السابق لأوانه أن يكونوا مكشوفين. فلا تصدقوا نفيهم". وهو يحذّر من أن "نزعتهم الدينية القومية متطرفة، مغلفة بورع تقي يتغلغل إلى وزارة التربية والتعليم، وتزداد قوة في الجيش وتؤثر على المحكمة العليا. وقد باتوا في طريقهم إلينا، وبعد هنيهة سيقتحمون علينا الباب"..

إستخدم كلاين لاحقًا استعارة "الفيل المتواجد في الغرفة ويغضّ الجميع النظر عنه" لوصف أكثر ما يبلور الواقع الاسرائيلي، وهو الاحتلال والمستوطنات. "عن هذا الفيل لا يتحدثون"، يقول الكاتب مضيفًا: "يصعب العيش مع فيل كهذا داخل الغرفة، ولكننا نعتاد ذلك والحمد لله، 50 سنة تعتبر وقتا كافيًا للتعوّد، 50 سنة بدون حاضر ولا مستقبل، لا يمكن بلعها ولا تقيؤها، نحن نعرف إن هذا ليس طبيعيا، لكننا لا نملك القوة على التغيير، لا نضم ولا نقسم، نحن يشلنا الخوف، نعزي بعضنا بأنه في كل الاحوال لا يوجد من نتحدث معه، ونعترف بيننا وبين أنفسنا بأنه لدينا أيضا لا يوجد من نتحدث معه ولا ما نتحدث عنه".

يسخر الكاتب من نزعة الإنكار المتمثلة بالإنشغال الإسرائيلي بكل شيء سوى بقضية القضايا، ويقول: "تعالوا نتحدث عن الربيع وعن الأزهار الرائعة، تعالوا نتحدث عن كيفية الكتابة في الصحيفة من دون أي تعميم أو اتهام". ويفسر هذا الرفض للخوض في الجوهر بالخوف الذي يفرضه تيار المتدينين القوميين: "الخوف من الصهيونية الدينية، التي يُمنع اغضابها، إنها قوية، إنها متعجرفة، إنها الشريك المضمون فى كل حكومة، ومن شريك كهذا لا يأخذون الدمية، حتى إن كان فيلًا يمرمر حياة كل سكان البيت".

هذا النقد المحذّر المباشر لظاهرة سبق أن تطرق لها كثيرون بلغة دبلوماسية ناعمة على الأغلب، تحوّل بلمح البصر إلى معول يستخدمه زعماء اليمين القومجي المنحدر للفاشية، للتحريض ولمراكمة الكسب السياسي. أولهم، ويا للّامفاجأة، هو بنيامين نتنياهو الذي بنى "مجده" أصلا على التحريض. منذ أن همس في أذن أحد الحاخامين أن "اليسار نسي ما معنى ان تكون يهوديًا"، في أول معاركه الانتخابية، وحتى آخر انتخابات بتهويله من أن "العرب يجتاحون صناديق الاقتراع في باصات تقلّهم بها جمعيات اليسار". فقد سارع نتنياهو لوضع نفسه في "كفة الضحايا" وتباكى على أن "كاتب المقال أساء إلى شريحة كبيرة من الإسرائيليين، معروفة بولائها وعطائها لإسرائيل".

وكرّت السُّبحة: وزير الدفاع وزعيم حزب "يسرائيل بيتينو" أفيغدور ليبرمان ناشد جميع مواطني إسرائيل التوقف عن شراء صحيفة هآرتس فورًا متهمًا إياها بالتحريض! نعم، هذا اتهام يوجهه صاحب سجلّ التحريض الدموي العريض على العرب، كل إثنين وخميس. نذكر له التصريح المأخوذ من معجم زملائه في داعش: "مَن هم ضدنا من العرب يجب رفع الفأس وقطع رؤوسهم". كذلك، زعيم حزب المستوطنين الأبرز "البيت اليهودي" ووزير التربية والتعليم، نفتالي بينيت تباكى بأنه لا يستحق أي قطاع مثل هذا المقال المسيء، وذكر العرب أيضًا!، لكنه سرعان ما استدار مُطلقًا التالي: "لحظة قبل أن يكلّف هذا دماءً، صحيفة هآرتس، توقفوا"! صوت الأزيز واضح..

وكما في كل مرة، لم يستثنِ مارش النفاق مَن يوصَفون خطأ بـ"المعارضة". فقد أعلن زعيم حزب "يش عتيد" يائير لبيد، أن "ما نُشر في هآرتس ضد الصهيونية الدينية هو نص معاد للسامية". هكذا! ونافسه في منافسة اليمين المتطرف وتملّقه معًا، زعيم "المعسكر الصهيوني" إسحاق هيرتسوغ، بالقول إن "مقال يوسي كلاين يستحق الاستنكار الشديد".

اشتداد قبضة التيار القومي الديني

إن اشتداد قبضة التيار القومي الديني، الأشدّ تطرفًا بالفعل وليس بالقول، بالاستيطان وليس بالكلام، عكسته حوادث داخل الجيش الاسرائيلي. ففي العدوان الوحشي على قطاع غزة، تموز 2014، كتب الكولونيل عوفر وينتر قائد لواء المشاة "غفعاتي" في الرسالة الموجهة لقواته "لقد اختارنا التاريخ لنقود الحرب على العدو الغزاوي الإرهابي الذي يلعن ويذم ويكره رب إسرائيل". وأنهى الرسالة بنص توراتي يبشر محاربي إسرائيل في ساحات القتال بالحماية الإلهية.

تلك الرسالة تحمل رمزا لتحوّل شديد داخل المجتمع الإسرائيلي: "تزايدت قوة وسطوة المتدينين القوميين. وفتح هذا التحول الباب أمام معركة على الشكل الذي ينبغي أن تكون عليه إسرائيل.. معركة بين الليبراليين ومعسكر المتدينين القوميين"، كما قال تقرير لوكالة رويترز (نيسان، 2016). وتابع: إزداد وجود هذه المجموعات في كل من الحكومة والأجهزة العامة. وحدث - ولأول مرة على الإطلاق- أن كان رؤساء أجهزة الشرطة والمخابرات (الموساد) والأمن الداخلي (الشاباك) جميعهم من الصهاينة المتدينين. إلا أن التحول كان أبرز ما يكون داخل الجيش. وتظهر دراسات أكاديمية أنه خلال العشرين عاما الأخيرة شهد عدد الضباط من الصهاينة المتدينين زيادة قوية. وأيضا تزايد نفوذ الحاخامين الذين أدخلوا أمور العقيدة والسياسة إلى أرض المعركة.

أحد الحوادث الذي يؤشر الى عمق الصدام هو الصراع على ما يسمى "الوحدة المكلفة بنشر الوعي اليهودي". وهي وحدة تقدم للجنود جولات ومحاضرات عن اليهودية ودروسا تمزج بين التعاليم الدينية والقيم العسكرية مثل روح القيادة والتضحية. رئيس أركان الجيش الإسرائيلي غادي أيزنكوت أعلن أنه سيبعد هذه الوحدة من حاخامية الجيش لدفعها بأجندة أيديولوجية دينية يمينية، والخشية من أن تدفع المبالغة في الترويج للأفكار الدينية داخل الجيش الجنود للتساؤل عمن ينبغي عليهم أن يطيعوه: قائدهم أم الرب. وتعهد يومها سياسيون من الصهاينة المتدينين وحاخامين بالتصدي للتغيير ومحاربته (التقرير نفسه).

كما أن زيادة نفوذ ذلك التيار عكسته دراسة مفصلة أجرتها مجلة "معراخوت" التي تصدرها وزارة الدفاع وتظهر أنه في سنة 2008 زادت نسبة المتدينين القوميين بين طلبة سلاح المشاة لعشرة أمثالها لتصل إلى 26 في المئة بعدما كانت 5ر2 في المئة في 1990. ويظهر بحث أحدث أجراه متخصصون من أمثال رؤوفين غال رئيس الاتحاد الإسرائيلي للدراسات المدنية- العسكرية أن ذلك الاتجاه في تزايد إذ يمثل الصهاينة المتدينون اليوم ما بين ثلث ونصف الطلبة العسكريين.

مغزى هذه الأرقام لخصه ضابط في وحدة خاصة كان ممن تخرجوا من كلية الإعداد العسكري "بني دافيد" المقامة في الضفة الغربية المحتلة. وقال: "من الضروري أن يؤدي المتدينون القوميون دورهم من أجل إسرائيل. المسألة ليست مسألة وطنية وحسب بل هي جزء من شيء أكثر روحانية بكثير.. التجهيز للمستقبل"!

يبدو هذا "التطور" طبيعيًا.. فقد عاشت اسرائيل الرسمية على حرابها دومًا. منذ أن نفذ مؤسسوها حربهم التطهيرية الأولى عام 1948، وحتى ثملت مؤسستهم بقوّتها الاحتلالية بعد 1967. وعنها قال الراحل المفكر اليهودي الكبير يشعياهو ليبوفيتش مرة: "في اليوم السابع، اللاحق لسادس أيام تلك الحرب، ستبدأ نهاية إسرائيل إذا لم تستيقظ".

وها هي حتى اليوم، بعد مرور آلاف الأيام، لم تستيقظ بعد، بل تواصل ابتلاع جرعات سمّ وهم القوّة.. وهذه المرة ممزوجة بظلامية دينية غيبيّة متعصبة.