اكتسب الكاتب أ. ب. يهوشوع مكانة رفيعة في إسرائيل، ليس بوصفه كاتبًا من الصفوف الأولى فقط، بل لكونه ما يشبه أحد الزعماء الروحيين لما يسمى "معسكر السلام". وفي الواقع الإسرائيلي، من يدّعي النزوع نحو السلام (في حدود المصلحة الصهيونية) يعيش داخل "معسكر" أيضًا، وليس دعاة الاحتلال والحرب فحسب.
في آخر شهور عام 2016 أثار يهوشوع جدلا واسعًا بعد مجموعة تصريحات أراد لها أن تشكّل تصوّرًا عن "حل الصراع"، أعلن فيها نوعًا من الانفصال عن "حل الدولتين". موقفه هذا لم يدفعه نحو حل آخر أكثر تطورًا وتقدمًا وتقدميّة، حل عادل مشترك للشعبين، مثل دولة واحدة ديمقراطية متساوية مدنيًا وقوميًا، بل دفعه مباشرة إلى أحضان زعماء الاستيطان الإسرائيلي.


يجب أن أقول بصراحة، مسبقًا، إنني لم أهضم بالمرة في حياتي المنصب الرفيع المُعطى لهذا الكاتب كمرجعية روحية واعتبارية للسلام وإلى آخره. وذلك لأن صوته لا يخرج، وفقًا لأذني السياسية، من حنجرة داعية تسوية/ سلام حقيقي متحرر من الاستعلاء الايديولوجي والقومجي على "الشرق"، لا بل على العكس تمامًا: فهو من النوع الإسرائيلي الذي "يحب السلام" كي يتخلص من العرب. أي أشبه بمعظم المستوطنين في "معسكر السلام" الإسرائيلي الشهير الذين يناقشون بعضهم ويخاطبون شعبهم بلغة سلام عجيبة، بين دُررها مثلا: ألا تريدون دولتين؟ هل تريدون إذًا العيش في دولة واحدة مع العرب؟ هل تريدون العيش مع أغلبية عربية؟ والحقيقة لا أدري أيّ معجم هذا الذي يعتمده مَن ينسبون أصحاب هكذا مقولات، إلى جناح "اليسار". لأن الطرح الذي يتحدث من منطلق وبهدف تحقيق الطهارات القومية، هو عماد أي يمين ظهر وما زال يظهر في العصر الحديث، بمختلف درجات محافظته ورجعيته. لا يشمل هذا طبعًا من يقولون إن الواقعية السياسية والتعقيدات تفرض تسوية الدولتين مع أنها لا تمثل العدالة. فشتّان ما بين المجموعتين.


تحدث يهوشوع في "معهد القدس لأبحاث السياسات"، بعد لقاء جمعه مع رئيس دولة إسرائيل رؤوفين ريفلين، كما أخبر الجمهور.


وقد قال لمستمعيه بمفاخرة: "إن الرئيس يؤيد ما سأقوله لكم هنا" (موقع "معاريف" 10.12.2016)، وهو قصد التالي: "منذ العام 1967 وانا أؤمن بتقسيم إسرائيل إلى دولتين وبتقسيم القدس إلى عاصمتين. واستغرق الفلسطينيين والإسرائيليين الكثير من الوقت إلى أن اتفقوا على الدولتين. في عام 1988 شاهد (الرئيس الفلسطيني ياسر) عرفات موجات الهجرة الكبيرة من روسيا، ولذلك اعترف بإسرائيل، لأنه خاف من أنه لن يبقى بعد قليل شيء للفلسطينيين".


الكاتب تابع تحليله الشخصي والطريف هذا للتاريخ القريب بالقول: "حزب العمل تعوّد رويدًا رويدًا على الفكرة. اتفاقيات أوسلو أعطت شرعية لحل الدولتين. وأعتقد أن اليمين أيضًا يباركه. المهم ألا نتواجد ونتجول في أزقة نابلس، رام الله وجنين. من جهة أخرى، يتواصل الصراع منذ 140 عامًا. جميع وسطاء العالم كانوا هنا، ولم يُعثر على أي حل. لا يمكننا الاعتماد لا على الولايات المتحدة الأميركية ولا على أوروبا بأن يفرضوا علينا تسوية. لن يفرض أحد شيئًا".


وما هو الاستنتاج الخلاّق الذي يخرج به يهوشوع استنادًا إلى تحليلاته السالفة (غير العلمية، يجب القول)؟، "لقد زال إيماني بحل الدولتين"، قال، "هذا الحل بات غير ممكن. لقد كافحتُ من أجله في السنوات الخمسين المنصرمة، ولكن يجب أن ننظر إلى الواقع. إننا نوهم أنفسنا. لا يمكن اقتلاع 450 ألف مستوطن من المنطقة C. وهل يمكن تقسيم القدس؟ هل يمكن لأحد وضع حدّ دولي داخل المدينة؟ إن الواقع ثنائي القومية يصبح أمرًا واقعًا. حل الدولتين هو حل مسيحاني، ولذلك فمن واجب المثقف واليساري أن يفكر بحل آخر".


من الصعب الاقتناع بأن مصطلح الـ "حل" ينطبق على ما اقترحه الكاتب بناء على ما سبق. فبحسب طرحه: "الفلسطينيون يريدون دولة واحدة. هم لن يقولوا هذا بصراحة، ولذلك يجرجرون الموضوع. إنهم يريدون كل فلسطين وليس 22 بالمئة منها فقط. الفلسطينيون لن يذهبوا إلى أي مكان آخر. إنهم سكان البلاد الأصليون. يجب أن نفكر تفكيرًا صعبًا، معقدًا. يجب أن نبدأه من القدس. يجب أن يتحول سكان شرق القدس الفلسطينيين إلى مواطني الدولة. ويجب في المرحلة الثانية منح مواطنة لمئة ألف فلسطيني ممن يعيشون في المناطق C، مع تأمين وطني، أجور الحد الأدنى ومساواة أمام المحكمة. هذه مسائل صعبة على شخص مثلي سار دومًا مع رؤية أخرى، لكن الواقع يتطلب إجابة. الاحتلال يسمم المجتمع الإسرائيلي، ويجب إزالته، يجب الخروج منه".

فرحة استيطانية عارمة..

أول المحتفلين بهذه الأفكار كان زعيم حزب المستوطنين رقم (1)، الوزير نفتالي بينيت. فقد سارع للكتابة على صفحته بموقع "تويتر": "إن يهوشوع يتبنى عمليًا خطة السيادة التي عرضتها عام 2010، وبموجبها نفرض القانون الإسرائيلي على مناطق C إلى جانب أوتونوميا فلسطينية في منطقتي A وB".
منظمة "بتسيلم" كانت قدّمت التحليل التالي الذي يكشف ما يرمي اليه الوزير اليميني في "برنامجه السياسي" هذا: "يتطرّق هذه المخطط إلى مناطق C وكأنها منطقة مُستقلة، منفصلة عن سائر مناطق الضفة. إلا أنّ تقسيم الضفة إلى مناطق A وB وC لا يعكس واقعًا جغرافيًّا مُعطًى، بل هو تقسيم إداريّ تمّ كجزء من الاتفاق المرحلي ضمن اتفاقيات أوسلو. وكان من المفترض أن يكون هذا التقسيم مؤقتًا وأن يسمح بنقل الصلاحيات بشكل تدريجيّ إلى السلطة الفلسطينية، حيث لم يكن مُعدًّا لاستيفاء متطلبات واحتياجات النمو الطبيعي الديمغرافيّ على المدى البعيد، إلا أنّ هذا الترتيب "المؤقت" يسري على أرض الواقع منذ قرابة 20 عامًا".
موقع اليمين، "القناة السابعة"، احتفل هو الآخر بتجديدات يهوشوع، واصفًا بكثير من السعادة ما أثاره كلامه من غضب في صفوف اليسار الإسرائيلي. وكتب: "عبّر الكاتب عن خشيته من أن اليسار لم يعد ذا صلة بالواقع" (ملاحظة: هذا هو الوصف الذي كان استخدمه وسوّقه أريئيل شارون في حينه ضد الرئيس الفلسطيني عرفات). واقتبس الموقع غضب رئيسة حزب "ميرتس" زهافا غالئون التي ردّت على الكاتب الإسرائيلي وهاجمت ما وصفته بـ "هذا الإسراع إلى اليأس من حل الدولتين" الذي هو برأيها "الحل الوحيد".

الصحافي اليميني المخضرم يعكوف أحيمئير (خلال مقال في "هآرتس") اختار لأقوال يهوشوع وصفًا دراماتيكيًا: "انقلاب!" وعلامة التعجّب في الأصل. وشرح: "حين تقوم شخصية يسارية مركزية مثله بتهشيم مبدأ الدولتين، بل توضح أنها يئست منه، فيبدو أن أقوال يهوشوع تعكس مزاجًا آخذًا بالاتساع في صفوف معسكره – مزاج اليأس أو على الأقل الجمود التفكيري، مثلما عرّفه هو نفسه". من الصعب عدم ملاحظة سهام السخرية الحادة والاستخفاف المتشفّي، ليس بين السطور، بل في كل حرف فيها.

ليس هناك شيء جدّي يمكن توقّعه من جهة "اليسار" الصهيوني و"يسار- الوسط" ردًا على إعلان إحدى مرجعياتهما عمليًا بأن برنامج اليمين انتصر، ويجب الذهاب في ثّلم الضمّ والتوسّع والاستيطان خلف أحد أكثر زعمائه تطرفًا، نفتالي بينيت. فزعماء حزب "العمل" (بصيغته الراهنة "المعسكر الصهيوني") لم يتوقفوا أبدًا عن محاولة العثور على منافذ للدخول إلى حكومة بنيامين نتنياهو وبينيت الحالية. أما مفاهيم تكريس الاحتلال المتمثلة بـ"القدس الموحدة" و"الحفاظ على الكتل الاستيطانية" و"إبقاء الأغوار كحدّ أمني شرقي تحت سيطرة إسرائيل"، فهي مفاهيم تشكل أركانًا أساسية في طروحات هذا الحزب السياسية. ومن يريد أن ينظر للواقع بعين الحقائق والمعطيات وليس من خلف زجاج أية أفكار رغبوية وتمنيات ورديّة، سيتوجّب عليه الاعتراف أن تلك المفاهيم تهشّم تمامًا "حل الدولتين". قبل إبداعات يهوشوع كان حل الدولتين قد أفرغ من المضمون. وما يفعله بينيت من خلال خطته ضمّ مناطق C يمكن اعتباره اشتقاقًا موسعًا من البرنامج "التاريخي" لحركة "العمل".

أحجية إنهاء الاحتلال بتكريسه..

الأسئلة المترتبة على نص يهوشوع الإفتتاحي، هذا المونولوغ الذي لا تشوّشه الحقائق، كثيرة ومحيّرة.
مثلا، ما معنى القول: "منذ العام 1967 وانا أؤمن بتقسيم إسرائيل إلى دولتين"؟. تقسيم إسرائيل؟ أي أن الحق مسبقًا هو كاملٌ لإسرائيل وكل ما تفعله أنها "تعطي" الفلسطيني شيئًا مما لديها؟ ثم كيف يتفق هذا الطرح مع مجاهرة الكاتب الصريحة بأن "الفلسطينيين لن يذهبوا إلى أي مكان آخر. إنهم سكان البلاد الأصليون". فإذا كان الفلسطينيون هم السكان الأصلانيون، ما هو تعريف الحركة الصهيونية التي أقامت دولة "لديهم" على أرض بلا شعب؟ لا أعتقد أن يهوشوع سيقبل بالمصطلح الأكثر ملاءمة إن لم يكن الوحيد: استعمار.


كذلك، هل فعلاً ما دفع عرفات للدخول في المسار السياسي – مؤتمر مدريد قبل أوسلو – كان الهجرة الروسية؟ بناء على ماذا يخرج مثقف بهذا الوزن ليقرر بضربة سيف ياباني واحدة ان هذا ما حصل في واحد من أهم مفاصل تاريخ القضية قيد البحث؟ أين الجدية في هذا التسرّع وهذا الكلام الذي يفتقر لأية مرجعية معتمدة؟ ألم يكن في الفترة التي يتحدث عنها يهوشوع "شيء" هام بل هائل زعزع الواقع الإسرائيلي كله واسمه: الانتفاضة الأولى؛ هل يلائم هذا الاختزال التاريخي من يعرّف عن نفسه مثقفًا، ويساريًا أيضًا، التي فرضت على الجميع إعادة التفكير وأجبرت الاستعلاء الإسرائيلي على الخروج من حالة الثمل الدائم بقوّة الذراع؟
وسؤال آخر: هل كان الفلسطينيون هم من "جرجروا" الأمور لمنع تطبيق حل الدولتين؟ من اغتال رئيس حكومة إسرائيل الذي وقّع الاتفاق مع الفلسطينيين، ولأنه فعل هذا؟ أليس إسرائيليًا؟ ومن الذي انتخب بعد الاغتيال حكومة معادية للتسوية السياسية؟ أليس الإسرائيليين؟ ومن الذي أراد التفاوض بمنطق الإملاءات الاستعلائية الوقحة في "كامب ديفيد" عام 2000؟ أليس زعيم "معسكر اليسار" إيهود باراك؟ إن المثقف الذي يتجاهل كل هذه الحقائق كي يتّهم الفلسطينيين بابتذال مقزّز، هو مثقف يفتقر إلى أية استقامة، وينسجم سواء أقصد أم لا في ماكينة الدعاية الرسمية الإسرائيلية المخادعة.

ثمّ كيف بحقّ السماء والأرض وما بينهما يمكن هضم الأحجية التالية: يجب إنهاء الاحتلال وإزالته، يقول حضرة الكاتب. ولكن كيف؟ بواسطة توسيعه وجعله يبتلع القدس الشرقية والمنطقة (ج)، أي 60% من الضفة الغربية. هذا ما يقوله حرفيًا.

من المستحيل تخيّل ما الذي دار برأس الكاتب أ. ب. يهوشوع حين قال بكل جديّة إن السبيل لإنهاء الاحتلال هو تكريسه وتأبيده. هل هي لحظة من اختلاط الأمور المؤسف عليه، أم لحظة بل أكثر من الاستخفاف المُهين بالعقول؟ في الحالتين، سواء أكان المثقف لا يعي ما يقول أو يعي جيدًا ما يتلاعب به من كلام، فإنه في موقع شديد الحرَج.

سوف أختتم بما كتبه مرة المثقف اليساري، حقًا، يتسحاق لاؤور عن الكاتب يهوشوع ("هآرتس"، خريف 2001). جاء ذلك ضمن قراءة نقدية تشمل السياسية لنماذج من كتاباته الأدبية: "في الفصل الثالث من كتاب "السيد ماني" يتحدث ماني إلى العرب، بعد احتلال البريطانيين للبلاد: وهكذا كان يقول: "من أنتم؟ استيقظوا قبل فوات الأوان وانقلاب العالم، خذوا هوية بسرعة! ويُخرج من جيبه وعد اللورد بلفور، الذي ترجمه إلى العربية، ويقرأ على مسامعهم (...). حقا، إن المستعمر يحثّ مواطنيه ليهتموا بأنفسهم".

الكاتب يهوشوع يطرح على الفلسطينيين في المنطقة C ما سبق أن وضعه على لسان بطله الأدبي: اهتموا بأنفسكم، إنفصلوا عن قضية شعبكم، عن قضيتكم. وللمنطقتين A و B يقترح أوتونوميات أو سيادات محلية (مقابلة مع "إذاعة الشمس").

هذا لا يفعله يساري. هذا ما يفعله فقط من لا ينظر إلى الفلسطيني كمتساوٍ ومتكافئ، بل كهمّ يجب مناورته وتفكيكه والتحايُل عليه، او ما يسميه الجنرالات والسياسيون: "إدارة الصراع" وليس التسوية السياسية بين طرفين متكافئين، سواء أفي دولة واحدة أو دولتين!