المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

ننشر هنا ترجمة لمقال جديد كتبه الصحافي أمنون لورد، أحد الناطقين بلسان اليمين الإسرائيلي والمقرّب من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ويشن فيه هجوما غير مسبوق على قادة المؤسسة الأمنية من الحاليين والسابقين على خلفية سجالهم مع سياسات الحكومة الإسرائيلية. ويدعّي لورد من ضمن أمور أخرى أنه أينما تكون ثمة أنه في هذه الأثناء، تفقد المؤسسة الأمنية ثقة الشعب وتستحكم بوصفها معارضة لحكومة اليمين:

"حكومات اليمين تفتقر إلى أية أيديولوجيا، ولذا فهي تعمل أحيانا بما يتناقض مع موقف الجيش. الجيش، وبجرأة عالية، يعرض الحقيقة أمام الحكومة، لكن الجيش لا يستطيع في نهاية الأمر تغيير السياسيين أو الشعب"- هذا ما قاله الجنرال (احتياط) نوعام تيبون يوم السبت الأخير. وكمثال على التقييم الحقيقي المذكور فهو يؤكد "من الضروري إنهاء الصراع (مع الفلسطينيين)، إنها مصلحة عليا".

يعرض تيبون هنا وجهتيّ نظر، يبدو أنهما متجذرتان في وعي جنرالات هيئة الأركان العامة:
الأولى، "نحن، الجيش، نمثل الحقيقة"، في مقابل الحكومة التي تمثل "أيديولوجيا".

الثانية، أن ثمة فهماً واحداً وموحداً في قيادة الجيش الإسرائيلي في القضايا المصيرية الحاسمة، وخصوصا في المسألة الفلسطينية.
ويمكنني القول إن ثمة أخبارا جديدة هنا. فالفهم المختلف، أو المناقض حتى، عن موقف القيادة السياسية هو وضع معقول. وحين يحصل هذا على خلفية خلاف في قضية هامة، فهو صحي أيضا. لكن تصريح الجنرال تيبون يبدو كأنه تفكير "سياسي". وذلك لأن وضع "حكومة يمين"، من هذا الطيف أو ذاك، هو واقع ممتد على مدى سنوات غير قليلة، مع وقفات منهجية في الوسط لإتاحة المجال أمام قيادة المؤسسة الأمنية للتماثل مع وجهة قيادة سياسية غير "يمينية" والتسبب، معاً، بإخفاق قومي.

عشية يوم الاستقلال، سيكون خروجا عن التقاليد تصعيب الأمر على أنفسنا والنظر، بصورة نقدية، في وضع القيادة الأمنية عامة، ووضع الجيش بصفة خاصة. فالميل الطبيعي، التلقائي، هو نحو الغرق في الحنين إلى الماضي (النوستالجيا).

وقد نُشرت الآن، تسريباً، النتائج التي توصل إليها تقرير مراقب الدولة حول "الجرف الصامد" (الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة). الجمهور يعرف كل شيء عن المعركة، كل شيء ذي صلة: أن الجنود والقادة حاربوا بروح عالية من التضحية، بل وبموهبة وقدرات رفيعة في المستوى التكتيكي المحدود. وأن القيادة العليا في الجيش تبدو عاجزة فاقدة البوصلة في بعض الأحيان وأن الهجوم لم يكن، عمليا، سوى لتحريك الخط الدفاعي ودفعه إلى الأمام، إلى داخل أراضي القطاع. وأنه كانت هنالك أنفاق وما شابه. ويعرف الجمهور، أيضا، أنه نتيجة للردع الإنساني والقضائي، تلقى كثيرون من المخربين تحذيرات مسبقة قبل نسف مخابئهم. وفي كل الأحوال، حجم الأضرار التي ألحقت بـ"حماس" وحجم الدمار أديا إلى أن "حماس" تحافظ على الهدوء النسبي في الجنوب أكثر من أي وقت مضى خلال السنوات الـ 15 الأخيرة. وهي تختار الآن الاحتفاظ بقدرات تخريبية عادية، في يهودا والسامرة (الضفة الغربية) وبالقرب من حدود القطاع.

والجمهور يعرف أن "الجرف الصامد" لم يكن بمثابة نجاح عسكري باهر وأن ثمة "شعورا بالحموضة" قد ظل قائما، وإنْ لم يكن شعورا بالثكل والضياع كما في أعقاب حرب لبنان الثانية. أي قائد وطني آخر كان من الممكن أن يتضرر ويدفع ثمنا من جراء حرب "الجرف الصامد". لكن، لسبب ما، لم تتعرض قيادة بنيامين نتنياهو للانهيار. السبب الأساس لذلك يكمن في حقيقة أن الجمهور لا يزال يحتفظ بالذكرى المؤلمة لثلاثة إخفاقات هائلة على المستوى الوطني، كانت المؤسسة الأمنية شريكة كاملة فيها. وأكثر من كونه فشلا للقيادة السياسية، اعتبر كثيرون، وبحق، أن "الجرف الصامد" هو فشل إضافي آخر للأجهزة الأمنية.

في الفترة منذ اتفاقية أوسلو في العام 1993 وحتى انتهاء ولاية إيهود أولمرت في رئاسة الحكومة في العام 2009، ذاق الجمهور الإسرائيلي، على جلده، تجربة الانفصال (عن قطاع غزة) وتجربة حرب لبنان الثانية (2006)، إضافة إلى الإرهاب الذي أعقب اتفاقية أوسلو. فقد غيّرت هذه الاتفاقية، إلى حد كبير، تركيبة الشيفرة الجينية (دي إن إيه) في الجيش الإسرائيلي. قضية مدحت يوسف وقتل الحاخام هرلينغ في جبل عيبال كانتا التعبير الأوضح والأبرز عن هذه السيرورة. وما زال الفشل المؤلم الذي انتهت إليه عملية الانفصال ـ التي كان يفترض أن تجلب الهدوء والأمن، طبقا لخبراء المؤسسة الأمنية ـ حاضرا في النشرات الإخبارية، بصورة يومية.

أما النتيجة، فهي فقدان الثقة بالمؤسسة الأمنية.

هذه الإخفاقات الثلاثة المدوية، التي شعر الجمهور بنتائجها على جلده مباشرة وتمكن من قياسها بالدم، أقنعت كثيرين بأن تقديرات قادة الجيش الكبار والمسؤولين الأمنيين الآخرين الذين قادوا الدولة كانت خاطئة.

وثمة لهذه الإخفاقات بُعدٌ أكثر خطورة يتعلق بالطريقة التي يخدم فيها جزء من المؤسسة الأمنية مصالح الولايات المتحدة في المنطقة.

في الأيام الأخيرة تم كشف النقاب عن الفشل الذي يلامس حد الوصمة على جبين قادة الأذرع الأمنية في مسألة المشروع النووي الإيراني.

ففي تقرير أعده ديفيد صموئيلس ونشر في "نيويورك تايمز" في نهاية الأسبوع الأخير، يتحدث أيضا ليئون بانيتا، رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي. آي. إيه) السابق ووزير الدفاع في إدارة أوباما، والذي كانت مهمته الأساسية منع إسرائيل من المبادرة إلى توجيه ضربة وقائية للمنشآت النووية الإيرانية. روى بانيتا للمراسل أن السؤال الذي وجهه إليه باستمرار كل من رئيس الحكومة نتنياهو ووزير الدفاع باراك، آنذاك، كان: "هل الرئيس أوباما جدّي؟" في تعهده بأن يحول دون إنتاج قنبلة نووية إيرانية، حتى ولو بوسائل عسكرية؟ من أسئلتهما، كان يمكن أن يُفهم مدى تشكيك نتنياهو وباراك بأوباما. وقد قال بانيتا آنذاك إنه بناء على ما يعرفه من الرئيس، فهو يقدّر بأن أوباما جدّي حقا. وسأله صموئيلس عما إذا كان تقديره كان سيكون مشابها لو أنه كان يعرف آنذاك ما يعرفه اليوم. "كلا، كما يبدو"، قال بانيتا. أي: أوباما خدع المحيطين به وإسرائيل فيما يتعلق بالموضوع النووي الإيراني.

في مقابلة أخرى، بُثت هذا الأسبوع ضمن برنامج "عوفدا" ("حقيقة")، أكمل بانيتا اللعبة التركيبية: الأميركيون استخدموا رئيس "الموساد"، مئير داغان، أداة لإجهاض الهجوم المخطط.

هكذا إذن، نحن بإزاء تقديرين خاطئين تماما وضعهما رؤساء المؤسسة الأمنية الذين قاوموا رئيس الحكومة في المسألة النووية: الأول حول مدى التزام الرئيس أوباما. والثاني، حول مجمل توجهاته السياسية في الشرق الأوسط. لم يتوقع أي من مسؤولي التقديرات الاستخباراتية أن يستغل أوباما الاتفاق النووي من أجل تعزيز إيران، إعادة شرعيتها الدولية ومنحها مطلق الحرية في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. إنه خطأ هائل في تقدير يذكّر أيضا بتقديرات القيادة الأمنية بشأن الحاجة إلى إعادة هضبة الجولان إلى سورية بغية التوقيع على اتفاقية سلام تُخرجها من محور الشر.

أذكُر محادثة أجريتها في صيف العام 2012 مع مسؤول كبير قال إنه لا يثق بالرئيس أوباما. كان بإمكاني فهم هذا، أيضا، من خلال تجربة المراقب الحيادي خلال السنوات الثلاث التي سبقت ذلك. لكنه قال، أيضا، إن أوباما لا يتعامل معنا، الإسرائيليين، بغير ما يتعامل مع الليبيين، مثلا. وقد بدت لي هذه مبالغة تصدر عن مسؤول متشكك. أما اليوم، وبعد الكشف في "نيويورك تايمز"، فمن الواضح تماما أن أوباما اختار التخلي عن إسرائيل بكونها حملا زائدا. القادة الأمنيون، على شاكلة غابي أشكنازي، يوفال ديسكين ومئير داغان، متكئين على دعم رسمي وأخلاقي من رئيس الدولة آنذاك، شمعون بيريس، وفروا لأوباما الدعم الذي كان يـَلزمه. من الواضح أنهم أخطأوا وضَلـَّلوا.

ليس ثمة أي عزاء في حقيقة أن القيادة السياسية صدقت في هذه الحالة، مقارنة بالقيادة الأمنية ـ العسكرية التي كانت شريكة لفعل التضليل. وهذا، تحديدا، لأن الخطأ في التقدير لم يكن بنيّة سليمة. في هذا السياق، تنبغي العودة إلى ما قالته أيالاه حَسون حين كانت لا تزال مقدمة برنامج "الأسبوع، مفكرة الأحداث" في القناة التلفزيونية الأولى مساء ذات سبت: "حتى الأميركيين، أيضا، يُسيطرون على مجموعة مختلفة من القادة السابقين في الجيش، بوسائل اقتصادية، كي يلائموا أنفسهم للمواقف الأميركية". و"صُغتُ أقوالي بحذر"، قالت ساخرة، ثم أكد أمير بار شالوم، المراسل العسكري، أقوالها هذه.

إنها حالة تسييس للمستوى القيادي الرفيع في الجيش، تتجاوز الحد المعقول والمسموح بكثير. في أية قضية تهم الأميركيين، يظهر خبراء يدعمون الموقف الأميركي، بصورة أوتوماتيكية. اتفاقيات أوسلو، الانفصال عن قطاع غزة، خارطة الطريق، الاتفاق النووي، ومؤخرا أيضا ـ غور الأردن.

حينما تواجهت إسرائيل مع جون كيري بشأن مسألة الأمن في الغور، ظهر جنرالات متقاعدون تكشف لاحقا أنهم متعاونون مع الأميركيين في صياغة خطة الدفاع الأمني في الغور.

قبل بضعة أسابيع، شاركت في حلقة نقاش تحدث فيها، أيضا، الجنرال شاؤول أريئيلي. بعد هذه السنوات كلها وبعد كل التجارب، لا يزال يتحدث بثقة عالية عن "الترتيبات الأمنية" في الغور، في عمق المنطقة، وعن الجدار الذي هو "الخط الأخضر" فعليا. من هو الذي يستطيع أخذ هذه "الترتيبات الأمنية" على محمل الجد؟ شاؤول أريئيلي يؤمن بها. المشكلة هي مع الجنرالات المتقاعدين الذين يتجندون لتسويق البضاعة المعطوبة.

المُردِد المناوب

المطروح على جدول البحث اليوم هو مذكّرة التفاهمات الأمنية التي تشمل مسألة المقتنيات العسكرية ـ الأمنية خلال العقد المقبل. ويبدو أن البيت الأبيض قد اختار الجنرال (احتياط) عاموس يدلين ليؤدي دور محطة الإرسال لشعاراته ولحربه النفسية ضد حكومة إسرائيل. فقد نشر يدلين قبل بضعة أيام وثيقة، في إطار معهد دراسات الأمن القومي الذي يترأسه، يشرح فيها حيثيات الأزمة في المفاوضات حول رزمة الأمن التي يفترض أن تعوّض إسرائيل، أيضا، عن أضرار الاتفاق النووي.

على ضوء ما شككنا فيه دائما، وحظي بالتأكيد والمصادقة في تقرير "نيويورك تايمز"، من الواضح أن إدارة أوباما معادية لإسرائيل، أو تعتبرها عبئا محتملا على الأقل. فإن انسحاب هذه الإدارة وعودتها إلى سياسة العزلة الأميركية يستوجبان، أيضا، تقليل مدى الالتزام الأميركي تجاه المنطقة عموما، وتجاه إسرائيل خصوصا. لكنها حقيقة من الصعب التصريح بها، جهراً.

لهذا الغرض، تم إنشاء معهد دراسات الأمن القومي. ولهذا الغرض هيّأ الجيش عاموس يدلين وأهّله جنرالاً كي يكون، في اللحظة المناسبة، وكيل مبيعات وتسويق للتلفيقات الأميركية. هذا ما يكتبه، ضمن أشياء أخرى: "العلاقات بين أوباما ورجاله وبين رئيس الحكومة نتنياهو تعاني من غياب الثقة... الأجواء تؤثر سلبياً على أي حوار بين إسرائيل والإدارة الأميركية وعلى قدرة الزعيمين على الالتقاء في قمة تعالج المشاكل وتحلها".

ويُطلق فم يدلين، أيضا، أصوات ما يعتمل في بطن البيت الأبيض: "الدم السيء ينتقص من رغبة الإدارة في منح نتنياهو انتصارا فيما يتعلق برزمة الأمن". ثم يُدخل يدلين إلى قائمة العقبات، أيضا، بندا يدعى "تماثل القيم": "حتى لو لم يُقل الكلام صراحة، فإن الإدارة الأميركية تشكك في ما إذا كانت الولايات المتحدة وإسرائيل تتقاسمان منظومة القيم ذاتها، وهو ما ساعد في الماضي على أن تكون رزم المعونات سخية جدا".

ليس هذا حديثا عن رزم المعونات، وإنما عن رزم روايات مغلفة بطريقة جيدة يحاول البيت الأبيض تسويقها للتغطية والتمويه على سياسة الانسحاب والتخلي من طرف الإدارة الأميركية، من جهة، وعلى دعمها لإيران من جهة أخرى. هل ثمة "تماثل قيم" بين الإدارة الأميركية ونظام الملالي في إيران؟ ربما كان كذلك، بالذات. وعلى أية حال، وبما أن يدلين يعود ويكرر هذه الرواية المفبركة المسماة "نظرية أوباما"، التي تقول، ظاهريا، بأن أميركا لم تعد تعتبر الشرق الأوسط مصلحة مركزية، فمن الواضح إذن أن تحليله هو مجرد استعادة وتكرار رسائل، أكثر من كونه تصريحا جديا وذا قيمة. ليس هنالك شيء اسمه "نظرية أوباما". إنه شعار ابتدعه بن رودس في غرفته الخاصة من أجل تسويق قصورات الولايات المتحدة وإخفاقاتها في الشرق الأوسط.


يطرح يدلين، في سياق البحث، موضوعا غير معروف جيدا للجمهور عامة، يتصل بالجسم الذي يركز بين يديه جميع الاتصالات مع الأميركيين في مسألة مذكرة التفاهمات. "إن حقيقة أن إسرائيل قد أخضعت وزارة الدفاع لإشراف مجلس الأمن القومي... في الاتصالات مع الولايات المتحدة، تصعّب مهمة إغلاق الفجوات بين كلتا الدولتين بشأن الـ MOU (مذكرة التفاهمات)"، يكتب يدلين. ويتضح أن رئيس الحكومة لا يثق بـ"المؤسسة الأمنية" التي تشكل وزارة الدفاع قاعدتها وقلبها. أيالاه حسون تمالكت نفسها ولم تنطق كلمة "رشوة". لكن يبدو أن اتصالات مماثلة في الجيل الأخير مع قيادة المؤسسة الأمنية قد أثمرت رزم معونات اقتصادية لرجال الأمن الكبار، وليس لأمن إسرائيل.

فشل التقديرات والتنفيذ من جانب قادة الأمن خلال العقود الأخيرة، سوية مع الشعور بأن بعضا من القادة الكبار المتقاعدين يفضلون خدمة المصلحة الأميركية على المصلحة الوطنية الإسرائيلية، كما تحددها حكومة إسرائيل، تعود بضرر جسيم على مكانة الأجهزة الأمنية.

ورغم أن مكانة الجيش في وعي الجمهور ثابتة ومتينة ـ وهذا جيد ـ إلا أن على قادته الكبار أن يكونوا قلقين من التآكل في ثقة الجمهور والشبهات التي تحوم حول دوافع البعض من بينهم. إن التحصن في المستوى الأخلاقي الرفيع لن يكون مجديا هنا.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات