• كلمة في البداية
  • 4181
  • انطوان شلحت

كشفت صحيفة "هآرتس" أخيرًا النقاب عن أن مراقب الدولة الإسرائيلية أعدّ تقريرًا يوجّه فيه انتقادات شديدة إلى وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية من جراء عدم معالجتها كما ينبغي موضوع العنصرية في جهاز التعليم الحكومي، وعدم عنايتها بأن تدفع قدمًا ببرامج تعليمية حول "الحياة المشتركة بين اليهود والعرب"، وامتناعها عن مواجهة الشروخ في المجتمع، وتجاهلها شبه المطبق لتقارير وضعتها لجان رسمية بشأن نشر مبادئ الديمقراطية في المدارس.

ويشكل هذا الكشف نوعًا من الأدوات التي تحاول أن تعيد سبب العنصرية الشاطّـة في إسرائيل إلى تلكؤ المؤسسات الرسمية وفي مقدمها وزارة التربية والتعليم في مكافحتها.

وثمة أداة أخرى، تتمثّـل بعزو العنصرية إلى وضعية الانزياح العام نحو اليمين، مؤكدة أن هذه الوضعية لا تنفك تغلب على إسرائيل حاليًا وتزداد حدّتها من يوم لآخر، وتشكل واحدًا من أبرز مشاغل الكثير من الباحثين والمحللين.

وداخل ذلك يشير هؤلاء، في شبه إجماع، إلى أن بداية هذا الانزياح يمكن تحديدها في فترة صعود بنيامين نتنياهو إلى سدّة الحكم (عام 1996)، غير أن مداه صار إلى تعمّق في فترة إيهود باراك أيضًا (1999- 2001). ومن علائمه الواضحة توحيد خطاب "المركز السياسي" في إسرائيل المتمثل بالأساس في حزبي الليكود والعمل، ترتبًا- ضمن أشياء أخرى- على التوصيف المشوّه من جانب الإسرائيليين لما حدث في "كامب ديفيد" ومن ثمّ لمستحصلات "عملية التسوية" برمتها. وطبقًا لهذا الخطاب فإنّ "خيانة" الفلسطينيين مبدأ التسوية (الذي يحيل إلى "مبدأ" السلام)، لم تبق أمام إسرائيل سوى نتيجة واحدة: محاولة حل الصراع من خلال القوة، لأن ذلك يتسّق في صورة موازية، مكملة، مع غاية "حفظ البقاء" في وجه "أخطار وجودية" داهمة.

في واقع الأمر فإن حصر تسويغ العنصرية في تخوم هذه الوضعية يظلّ أقرب إلى التفسير التبسيطي، كون ذلك يفارق العامل الأهم والأبعد مدى، وهو مبلغ انغراز العنصرية في العمق لدى الأغلبية الساحقة من الرأي العام الإسرائيلي، المؤدلجة بالفكر الصهيوني.

ومن السهل ملاحظة أن بعض تلك التحليلات طوّر "وسائل دفاع" عن فكرة العنصرية وضرورتها بالنسبة إلى إسرائيل، الآن وهنا، في سبيل الإقناع بها من جهة، وفي سبيل توكيد أهمية قوننتها من دون مواربة أو تحرّج من جهة أخرى، وذلك عبر الاستعانة بالحجج عينها التي تردّ كذلك على عوامل توحيد خطاب "المركز السياسي".

وتحمل "وسائل الدفاع" هذه في ثناياها عدة "أفكار" تعكس إشارة سالفة إلى العنصرية المغروزة في العمق، لعل أهمها فكرة "المحورية القومية" في أحد أكثر أشكالها بدائية. ومن هذه الفكرة، فإن الطريق نحو شرعنة العنصرية من دون أي غضاضة تصبح قصيرة جدًا.

في دلالة طريقها هذه احتلت الفكرة المذكورة، تاريخيًا، حيّزًا مركزيًا جدًا في التفكير والتخطيط الصهيونيين. ولا تنفك تنتج أسانيد لها، هي ليست وليد تباعد الجماعتين بمقدار ما هي وليد جوهر العلاقات التي تجمعهما.

في الأيام الأخيرة انشغلت بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية بنبأ قيام اللجنة الوزارية لشؤون سن القوانين بإسقاط مشروع قانون قدمه نائب من "المعسكر الصهيوني" ينص على إلغاء ما يعرف باسم "لجان القبول" لـ"البلدات الجماهيرية" في النقب والجليل، والذي لقي معارضة حتى داخل صفوف "المعسكر الصهيوني". وهذه اللجان أقيمت بموجب قانون أقرّت المحكمة الإسرائيلية العليا دستوريته قبل أقل من عامين. وانطلق من نيات ودوافع عنصرية بحتة تتلخص، في جوهرها وحقيقتها، بمنع سكن المواطنين العرب في هذه "البلدات الجماهيرية".

وكانت هذه المحكمة نفسها أصدرت بعض أحكام قضت بإلغاء قرارات عينية رفضت فيها "لجان القبول" في بعض تلك البلدات الاستجابة لطلبات مواطنين عرب ـ بصورة أساسية ـ للسكن فيها فألزمتها المحكمة بقبول تلك الطلبات وتمكين المواطنين العرب من ذلك.

وبالتزامن مع صدور تلك الأحكام أكد البروفسور دافيد كريتشمر، أستاذ الحقوق المعروف، أن هذه الأحكام لا تعني التأثير على ترتيبات بعيدة الأمد بشأن سياسة محاصصة الأراضي في إسرائيل التي كانت تمييزية ضد العرب على الدوام، كما لا يمكن اعتبارها قرارات جارفة تجعل جميع التقييدات الخاصة المفروضة على أراضي الدولة غير شرعية، ولا تعني أن التمييز على أساس الديانة أو الانتماء إلى المجموعة القومية- العرقية سيكون غير مشروع دائمًا. وأردف يقول إنه بموجب "مبدأ المساواة" فإنه يمكن الطعن في مثل هذا التمييز، لكن المجال مفتوح لإثبات أنه ضروري "في ظروف خاصة لقضية محددة". وإذا قدم مثل هذا الدليل، فإن اللجوء إلى مثل هذا التمييز لن يعتبر خرقًا لـ "مبدأ المساواة".

من ناحية أخرى، نوهنا في أكثر من مناسبة سابقة إلى أنه لا يوجد في إسرائيل ذاتها انكشاف عالمي واسع النطاق على التقاليد التي تحتقر العرقية، وتحث على المساواة المدنية، وتعرض جدول أعمال للمواطنين العرب أيضًا يتناسب مع تطلعاتهم كأقلية قومية. فاليسار الإسرائيلي (وكذا اليمين التقليديّ) لم يتجرأ أبدًا على الإعراب عن مواقف كفاحية في سبيل المساواة المدنية في كل مجالات الحياة بين اليهود والعرب، لكونه هو أيضًا مصابًا بالتفكير العرقي.

أما الحاخامون، الذين يتصدرون عادة الحملات العنصرية، فإنهم لا يُصدمون أبدًا من جراء فعلتهم الفاسقة هذه، كونهم جميعًا يعرفون بأن العنصرية في إسرائيل هي ظاهرة عابرة للأحزاب (الصهيونية) ناهيك عن أنها تكمن عميقًا في السلطة الحاكمة نفسها.
تكتب هذا الكلام في وقت تتعالى فيه أصوات كثيرة تدعو إلى توحيد القوى في الصراع ضد اليمين المتطرف.

بيد أنه قبل السؤال عن احتمالات توحيد القوى في هذا الصراع ربما يتعيّن أن نسأل: أين هي هذه القوى؟ وما هو نطاق تأثيرها على مجريات الأمور في إسرائيل؟، فإن من شأن التخويض في هذا السؤال أن يحيل إلى طبيعة "اليسار" الإسرائيلي- هذا اليسار الذي يشخّص عن اليمين، خلافًا لليسار في دول العالم كافة، فقط بموجب موقفه من "عملية السلام"، لا بموجب أجندته الاجتماعية والفكرية التي تستوجب حتمًا النضال ضد اليمين المتطرف، مثلما تستلزم حتمًا الكفاح ضد النزعات العنصرية المتعدّدة.