بعد مرور عقدين على اغتيال رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق إسحق رابين، بالإمكان ملاحظة أنه بدأ يتشكل في إسرائيل شبه توافق على ما يلي ):

أولاً، أن الرصاصات التي أنهت حياته "أعادت بكيفية ما كتابة سيرة حياته"، وبالتالي فإن كل شيء- مسيرته العسكرية والدبلوماسية والسياسية- وُضع تحت جناحي سلام لم يكن وغير موجود بتاتًا، واختفى رابين الحقيقي، وسيطرت شخصية خيالية جديدة على السردية المتعلقة به.

ثانيًا، هناك انعدام توافق على "إرثـه"، وهذا "الإرث" قابل للتأويل إلى نواحٍ متعدّدة وأحيانًا متناقضة وذلك وفقًا للمصالح السياسية التي تتحكم بوجهات نظر شتى ألوان الطيف الحزبي ولخدمة الصراعات الداخلية المحتدمة فيما بينها.

ثالثاً، منذ عملية الاغتيال، ما يزال ظل قاتله يغئال عمير يخيّـم فوق رؤوس صناع القرار الإسرائيليين. وربما يجعلهم يدركون في لاوعيهم إن لم يكن في وعيهم التام أن أي قرار بشأن إخلاء مستوطنين من الأراضي المحتلة يستتبع دفع ثمن سياسي باهظ، وقد يدفعون أرواحهم ثمنًا لذلك.

في واقع الأمر فإنه منذ أكثر من خمسة أعوام يتسم إحياء ذكرى هذا الاغتيال أيضًا بتصعيد هجوم اليمين الاستيطاني المتطرّف على "إرث رابين" بموجب الصيغة التي يتداولها معسكر اليسار- الوسط.

ويعتبر أصحاب الهجوم أن هذا الإرث يفتقر إلى أي ثراء فكري أو روحي، وفي الوقت ذاته ينطوي على إثـم سياسي خطر للغاية يتمثل في "اتفاق أوسلو" الذي تسبب برأيهم بـ"مزيد من سفك دماء اليهود"!.

وهذا العام طاول الهجوم رئيس الدولة الإسرائيلية رؤوفين ريفلين على خلفية إعلانه أنه ما دام في هذا المنصب لن يصدر عفوًا عامًا عن مرتكب عملية الاغتيال.

ونظرًا إلى أن الواقفين وراء هذا الهجوم هم أتباع اليمين الإسرائيلي المتطرّف، فإن الكثير من المعلقين الإسرائيليين يكتفون بمطالبة المعارضة بالتصدّي لسيطرته شبه المطلقة على الحياة السياسية في إسرائيل.

بيد أن بعضهم ادعى من ضمن أمور أخرى، أن هؤلاء الأتباع لا يمثلون أغلبية الشعب في إسرائيل، وأن مواقفهم لا تعكس إرادته الحقيقية. كما نوّه بأنه على الرغم من أن اليمين يحظى باستمرار بتأييد الأغلبية في استطلاعات الرأي العام، إلا إن هذا التأييد ليس موجهًا إلى اليمين المتطرف الذي يسيطر على حكومة إسرائيل وعلى الكنيست، وإنما إلى ما يجري توصيفه بأنه "اليمين المعتدل العقلاني والمؤيد لسلطة القانون".

وثمة في إسرائيل من يعتقد أن رئيس الحكومة الحالية بنيامين نتنياهو ينتمي إلى هذا "اليمين المعتدل والعقلاني".

فكيف يقرأ نتنياهو "إرث رابين"؟.
قبل خمسة أعوام ألقى نتنياهو كلمة أمام جلسة خاصة عقدها الكنيست يوم 20 تشرين الأول 2010 في مناسبة ذكرى اغتيال رابين الـ15.

في تلك الكلمة اقتبس نتنياهو فقرات طويلة من آخر خطاب ألقاه رابين في الكنيست يوم 5 تشرين الأول 1995، أي قبل شهر واحد من اغتياله، وتحدث في سياقه عن رؤيته العامة بشأن جوهر التسوية مع الفلسطينيين، والتي ليس من المبالغة القول إنها رؤية بقيت ترخي بظلالها على كل التطوّرات اللاحقة.

ومما قاله رابين في ذلك الخطاب:
"إننا نعتبر أن الحل الدائم (للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني) سيكون في إطار أراضي دولة إسرائيل التي ستشمل أغلبية مناطق أرض إسرائيل - كما كانت عليه الحال أيام الانتداب البريطاني - وسيُقام إلى جانبها كيان فلسطيني سيكون وطنًا لمعظم السكان الفلسطينيين المقيمين في قطاع غزة والضفة الغربية، ونريد أن يكون هذا الكيان أقل من دولة كي يصرّف بشكل مستقل حياة الفلسطينيين الذين يخضعون له... وستتجاوز حدود دولة إسرائيل لدى تطبيق الحل الدائم خطوط ما قبل حرب الأيام الستة حيث أننا لن نعود إلى حدود الرابع من حزيران 1967... وسيتم تثبيت الحدود الأمنية للدفاع عن دولة إسرائيل في غور الأردن في أوسع معنى لهذا المفهوم".

وأضاف رابين:
"إن القدس ستكون موحَّدة بصفتها عاصمة إسرائيل وتحت سيادتها لتشمل أيضاً (مستوطنتي) معاليه أدوميم وغفعات زئيف"، مؤكدًا ما يلي: "لقد توصلنا إلى اتفاق، وتعهدنا أمام الكنيست بعدم اقتلاع أي مستوطنة في إطار الاتفاق المرحلي، وبعدم تجميد البناء والنمو الطبيعي... إننا نعي الفرص والمخاطر على حد سواء، وسنعمل قصارى جهدنا لاستنفاد الفرص وتقليص المخاطر".

لعل الملفت للنظر هنا، هو أن نتنياهو استقوى بمواقف رابين بمدى ما تنطوي عليه من إسناد لما أكده لاحقًا في كلمته نفسها فيما يتعلق بضرورة عدم تجميد أعمال البناء في المستوطنات، وضرورة أن تكون الدولة الفلسطينية العتيدة منزوعة السلاح وتعترف بإسرائيل كدولة الشعب اليهودي.

وفي الجلسة الخاصة التي عقدها الكنيست في مناسبة الذكرى الـ20 لاغتيال رابين يوم 26 تشرين الأول 2015، قال نتنياهو: "لقد نجحنا في صنع السلام مع اثنتين من جاراتنا وهما مصر حيث تحقق السلام معها بقيادة مناحيم بيغن، والأردن الذي تحقق السلام معه بقيادة رابين. غير أن كل الجهود التي بذلها ستة رؤساء حكومات متعاقبة منذ اتفاقات أوسلو لم تُثمر عن تحقيق السلام مع الفلسطينيين".

وتابع: "هناك سبب عميق لذلك: إن الفلسطينيين يرفضون الاعتراف بإسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي؛ إنهم يرفضون إنهاء الصراع دفعة واحدة والتنازل بصورة حقيقية عن حُلم العودة إلى عكا وحيفا ويافا؛ إنهم يرفضون التخلّي عن حلم إقامة الدولة الفلسطينية ليس إلى جانب دولة إسرائيل بل مكانها؛ إنهم لا يزالون يربّون أطفالهم على معاداة اليهود واعتبار إسرائيل كياناً استعمارياً إمبريالياً ومصدراً لكل شرّ".

وبحقّ رأى أحد الأساتذة الجامعيين الإسرائيليين أنه فيما يتعلق بالصراع مع الفلسطينيين تعثر لدى نتنياهو دومًا على التفسير ذاته، الذي يحرّره من أي مسؤولية.

مؤدى هذا التفسير أن ثمة شيئًا ما في الجانب الآخر يدفعه إلى العنف من دون أي صلة بأفعال إسرائيل، وأن الجانب الآخر تحركه كراهية غير عقلانية تجاه الإسرائيليين. وإذا لم يكن مهمًا ما يفعله اليهود، فيمكن عدم التقدّم في المسيرة السياسية ومواصلة تثبيت حقائق على الأرض، وليس لسياسة اللاحل لحكومة نتنياهو أي تأثير على أفعال الجانب الآخر.

لكن بالعودة إلى رابين لا بُدّ من التأكيد مرة أخرى أن ما تقدّم يعني، وفق منطق بسيط، أن المشكلة ربما ليست كامنة في وجهة نظر نتنياهو ونظرة اليمين العامة إزاء "إرثه" فحسب، وإنما أيضًا بل أساسًا في أن هذه النظرة تتطابق مع المدلول الحقيقي لهذا الإرث، وخصوصًا في ضوء واقع تشديده على وجوب أن تكون أي تسوية للصراع مستندة إلى تلبية "حاجات إسرائيل الأمنية" بموجب مفهومها إزاء هذه الحاجات والذي يعتبر من غير ضفاف.

المصطلحات المستخدمة:

رئيس الحكومة, الكنيست, بنيامين نتنياهو