يوضّح التقرير المنشور على الصفحة الخامسة من هذا العدد كيف يفكّر عدد من النُخب العسكرية الإسرائيلية الحالية بإزاء الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، وكيف يُحتمل أن ينعكس هذا التفكير على صعيد الممارسات الميدانـية إبّـان الأزمات.

وهو تقرير حول اعترافات جديدة أدلى بها العقيد عوفر فينتر بشأن أدائه خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة في صيف العام الفائت.

فينتر هو القائد السابق للواء "غفعاتي" في الجيش الإسرائيلي، وأحد أبرز وجوه التيار القومي الديني اليهودي أو الصهيونية الدينية التي تدرجت خلال الأعوام الأخيرة في أعلى سلم القيادة العسكرية الإسرائيلية.

وارتبط اسمه خلال تلك الحرب أكثر شيء بواقعة كان فيها ما يحيـل إلى التحوّلات التي طرأت على المجتمع اليهودي في إسرائيل في الآونة الأخيرة، وانعكست بكيفية ما على تركيبة الجيش الإسرائيلي وعقيدتـه.

والقصد واقعة قيامه كقائد للواء المذكور بتوزيع "أمر قتالي" على الجنود الذين يأتمرون بأمره في بداية الحرب، أشار فيه من ضمن أمور أخرى إلى أن المعركة العسكرية في القطاع هي "جزء من حرب دينية" تهدف إلى إلحاق هزيمـة بـ"عدو يكفر بآلهة إسرائيل"!.

وبات معروفاً الآن أن جنود هذا القائد كُلفوا باستخدام "إجراء (بروتوكول) هنيبعل" في منطقة رفح في نطاق مساعي قوات الجيش الإسرائيلي لمنع اختطاف الضابط هدار غولدين، وقد تُرجم ذلك بقصف مكثف للأحياء السكنية، الأمر الذي تسبّب حتى وفق المصادر الإسرائيلية بقتل ما بين 130 إلى 150 فلسطينياً بينهم الكثير من النساء والأطفال من جراء هذا القصف فقط. واستمر القصف حتى بعد إعلان الجيش مقتل غولدين، وطاول مدرسة تابعة للأونروا لجأ إليها آلاف اللاجئين، مما أدى إلى مقتل عدد كبير منهم. وتحدّث سكان رفح عن وقوعهم وسط فخّ من النيران حين أخذ الجيش الإسرائيلي يقصف المنازل ويهدمها على رؤوس ساكنيها من دون تمييز. وحتى عندما حاول هؤلاء الفرار من المنازل تعرّضوا للقذائف وهم في الشوارع.

وبموجب ما أكده في ذلك الحين أحد أساتذة العلوم السياسية في "جامعة بن غوريون" في بئر السبع، فإن جرائم الحرب على مرّ التاريخ لم تُرتكب بفعل أوامر دينية فقط، غير أنه في الوقت ذاته شدّد على أن إزالة الموانع أمام ارتكاب هذه الجرائم إلى درجة إضفاء شرعية عليها يغدو أسهل عندما يتم تصوير الحرب على أنها حرب دينية ضد أناس كفّـار.

فضلاً عن ذلك، وفي حالة أي حرب، فإن مجرّد تصويرها لا باعتبارها ناجمة عن ظروف آنيّة مخصوصة وتتغيّا الوصول إلى أهداف سياسية، وإنما بوصفها جزءاً من حرب دينية متواصلة، يتسبّب باستبطانها في لاوعي الجنود إن لم يكن في وعيهم التام أنه لا يجوز وقفها إلا من خلال تحقيق حسم مطلق.

ذكرنا وقتها أن تلك الواقعة تبدو ملفتة في ضوء حقيقة ازدياد حجم انخراط أبناء تيار الصهيونية الدينية ضمن القيادات التكتيكية للجيش الإسرائيلي وصفوف الجيش عامة على مدار العقدين الأخيرين.

وكان قيام إسرائيل قبل عدة أعوام بتعيين رئيس جديد لجهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) من أوساط المتدينين (يورام كوهين) وقبله تعيين رئيس جديد لـ"مجلس الأمن القومي" من هذه الأوساط نفسها (يعقوب عميدرور، الرئيس السابق لهذا المجلس) قد شكّل مناسبة لاحتدام جدل داخلي حول ازدحام المحيط المقرّب من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بشخصيات تعتمر القبعات الدينية، وما يمكن أن يترتب على ذلك من تداعيات أو مداليل سياسية باعتبار هذه الأوساط يمينية بامتياز.

وانضاف إلى هؤلاء مؤخراً مسؤولون سواهم آخرهم القائد العام الجديد للشرطة الإسرائيلية.

وما تزال آراء المتساجلين في هذا الشأن منقسمة بين قائل إن هذا "التطوّر" يشي بإمكان شطط شيطان التطرّف لأن المتدينين قد يسمعون أوامر حاخاميهم لا أوامر قادتهم عندما يعارض بعضها بعضاً، وبين مؤكد أن هؤلاء سيلتزمون متطلبات وظائفهم الرسمية ويخلصون لها حتى إذا خالفت آراء الحاخامين.

وهذا السجال الذي يُتوقع له أن يستمر يبقى مثيراً للاهتمام، خاصة حيال حقيقة أخرى فحواها أن وصول أشخاص متدينين إلى أرفع المناصب الأمنية في إسرائيل يعكس في العُمق تحولات بنيوية آخذة في التعاظم في الآونة الأخيرة داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، وتدل على أنه ماض نحو نزعات أكثر تديناً وبالتالي أشدّ يمينية (وهو ما توقفنا عنده أيضا في العدد قبل السابق من "المشهد الإسرائيلي").

وضمن هذه التحولات تجري كذلك تغيرات داخل تيار الصهيونية الدينية نفسه.

ونوهنا أكثر من مرة في السابق إلى أن عدّة أبحاث جديدة نُشرت في إسرائيل ألمحت إلى أن الجماعة المسماة "شبيبة التلال" التابعة لتيار الصهيونية الدينية تشكل الجيل أو الرعيل الثاني من المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة، غير أن سلوكها وتوجهاتها الفكرية أكثر تطرفّا ومسيانية من التوجهات الفكرية لآبائها الذين أسسوا في الماضي منظمة "غوش إيمونيم" المتطرفة أصلاً.

وأضاف بعض هذه الأبحاث أن أفراد تلك المجموعة يسعون إلى الانفصال عن الأجهزة التربوية القائمة وإلى الاعتزال في قمم تلال فارغة في الضفة الغربية، وهم لا يقبلون بسلطة الدولة ويتمسكون بأفكار غيبية متطرّفة.

وهذه التوجهات داخل التيارات اليهودية الأرثوذكسية عامة والصهيونية الدينية خاصة هي أرض خصبة لنشاط "حركات جبل الهيكل" التي تعمل على إعادة بناء "الهيكل" في الحرم القدسي الشريف. ويوجه معظمهم انتقادات شديدة إلى أداء "مجلس المستوطنات" والحاخامين- وهذا ما برز على وجه الخصوص في أثناء تنفيذ خطة الانفصال عن قطاع غزة في العام 2005- ويؤكدون أنهم فقدوا الثقة بهم.

في موازاة ذلك أشارت نتائج أحد هذه الأبحاث إلى أن توجيه "شبيبة التلال" انتقادات شديدة إلى المؤسسات القانونية والسلطوية يترافق مع تفضيلها تعليمات الحاخامين المتطرفين.

بالاستناد إلى ذلك بالإمكان الافتراض أنه تجري بين مجموعة معينة منها عملية انتقال تدريجية من التعامل الرسمي مع الدولة ومؤسساتها إلى التعامل الديني الصرف، وعملية تفضيل الحكم الديني (الثيوقراطي) على الحكم الديمقراطي.

ولهذا المعطى أهمية بالغة إذا ما أخذنا في الاعتبار أن الصهيونية الدينية التقليديـة كانت إلى وقت قريب ترفع راية الدمج بين الدين والدولة.

وتجمع هذه الأبحاث على أن خطة الانفصال المذكورة والتي طرحت بقوة المعضلة التي تنشأ عندما يتعارض القانون الدنيوي مع القانون الديني، جعلت جزءًا من أبناء "شبيبة التلال" يرى في السلطة الدينية على أنها أعلى من السلطة القانونية الدنيوية.

ثمة جانب آخر يشير إليه فينتر من خلال اعترافاته الجديدة، يتمثّـل بتحدّي الجيش الإسرائيلي للمستوى السياسي، وهو ما قد يحتاج إلى وقفة ثانية.