للعدد الثاني على التوالي نخصّص الصفحة الخامسة من هذا الملحق لمقاربة نظرية مطوّلة من جملة مقاربات تتداول نُخب إسرائيلية في الآونة الأخيرة من خلالها جدلاً مهمًّا بشأن "الواقع القائم" في محور الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي وما قد يؤول إليه في المستقبل.

في واقع الأمر، يست هذه أول مرّة نعرض فيها طروحات صاحب مقاربة هذا العدد، البروفسور زئيف شطرنهيل، المؤرخ الإسرائيلي اليساري والحاصل أيضًا على "جائزة إسرائيل"، والذي تعرّض في 25 أيلول 2008 إلى محاولة اغتيال على خلفية الأفكار السياسية التي يتبنّاها.

فقد سبق لشطرنهيل، في سياق مقال خاص ظهر إلى جانب مقالات لآخرين غيره في كتاب بعنوان "الوضع الآن" (في إسرائيل) صدر سنة 2003، أن أكد أن القيادة الصهيونية التي تولت عملية إقامة "الدولة" سنة 1948 لم تفلح في أن تتفوّق على نفسها، وفي أن تتحرّر مما أسماه "قيود نجاحها"، فتبادر إلى تأسيس مجتمع سياسي ذي أجندة ليبرالية عامة، وبذا فقد ظلت القيم القومية اليهودية من ناحية الأفضلية في مرتبة متقدمة جدًا على القيم العالمية، وخصوصًا قيم حقوق الإنسان. وبسبب انقياد تلك القيادة وراء القيم القومية اليهودية أصبحت فاقدة القدرة على اعتبار سنة 1949 (التي وُقعت خلالها اتفاقيات الهدنة مع الدول العربية المجاورة) بمثابة نهاية ما يسميه "مرحلة الاحتلال"، أو مرحلة التوسّع الإقليمي.

بناء على ذلك، كما يضيف مؤكدًا، فإن "الحروب التي خاضتها إسرائيل حتى الآن لم تكن ناجمـة عن الرفض العربي المستمر للاعتراف بشرعية الصهيونية بصفتها حركة قومية يهودية فحسب، وإنما أيضًا كانت ناجمة عن عدم توفّر القدرة والرغبة في إسرائيل في تحديد الوجهة التي يتعين المضي فيها قدمًا". ولذا، فإن "الانتصار الإسرائيلي في حرب 1967 اعتبر استمرارًا للانتصار في حرب الاستقلال" (حرب 1948).

بعد هذا أعاد إلى الأذهان أنه طبقًا للمفهوم الصهيوني التقليدي المُستحكم، فإن حدود الدولة الإسرائيلية هي نتاج الظروف المتغيّرة، التي تخضع بدورها إلى ميزان القوى وإلى القوة العسكرية. علاوة على ذلك فإنه في سنة 1948 لم يتم حسم سؤال أساس كان لا بُدّ من حسمه، مرة واحدة وأخيرة، وهو: هل إقامة الدولة في جزء من "أرض إسرائيل" (فلسطين) تعني وضع حدّ نهائي لعملية احتلال البلد؟.

كذلك لم يتم الهجس بجواب عن سؤال آخر كان مطروحًا بحدّة في ذلك الوقت، وفحواه: هل ستستند إسرائيل إلى تفوّقها العسكري والتكنولوجي من أجل السعي إلى السلام، على أساس الإنجازات (العسكرية) التي تمّ تحقيقها، أم أنها ستبقى راغبة في مواصلة عملية الاحتلال أو التوسع الإقليمي، كلما سنحت الفرصة للتوصل إلى سلام؟.

ويتوصّل هذا المؤرّخ إلى استنتاجات فكرية تنطوي على أهمية، على شاكلة ما يلي:

1- أن خرافة "الحق التاريخي اليهودي في فلسطين" أفقدت وما تزال تفقد أجزاء كبيرة من المجتمع الإسرائيلي لرُشدها؛
2- أن معسكر الوسط ـ اليسار الذي ورث العجز الفكري عن حزب "العمل" يقف الآن عاجزاً عن وضع وطرح بديل أيديولوجي للمستوطنات في المناطق المحتلة منذ 1967؛
3- أن الاحتلال (منذ 1967) هو أساس وأصل الحرب مع الفلسطينيين، وطالما لم يعترف المجتمع الإسرائيلي بحقوق متساوية للشعب الآخر المقيم في هذا البلد فستستمر الحرب ويغرق أكثر فأكثر في واقع كولونيالي وفي واقع أبارتهايد مكشوف وصريح أصبحا قائمين في المناطق (المحتلة) كما سيغرق في أوهام هدّامة أيضًا مثل وهم "القدس الموحدة"؛
4- أنه بعد سنة 1948 كان ينبغي تدشين مرحلة جديدة لـ"الدولة" يكون الدستور رمزها الأبرز والأوضح على أساس ما وعدت به "وثيقة الاستقلال"، وكان إلزاميا أن يكون هذا دستورا ديمقراطيا يقوم على أساس حقوق الإنسان ويضع مجمل المواطنين، لا جماعة إثنية أو دينية واحدة، في صلب الكينونتين السياسية والاجتماعية وفي مركزهما... إلخ.

إن شطرنهيل صهيونيّ حتى النُخاع، إنما من ذلك الطراز الذي "يؤمن" بـ"صهيونية الدولة" لا بـ"صهيونية الأرض"، والدولة في نظره تمثل الهدف، وليست الوسيلة، وذلك في مقابل صنف آخر "آمن" وما يزال بأن الصهيونية هي عبارة عن تجديد "الصلة التاريخية التي انقطعت" بين "شعب إسرائيل" و"أرض إسرائيل" في المنطقة الممتدة بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن، والدولة ليست إلا وسيلة لإنجاز هذا التزاوج المتجدّد، فيما أن الأرض هي القيمة التي يجب عدم التنازل عنها بأي حال، وينبغي ألا تقف أمامها أي "خطوط خضراء".

وحتى داخل هذا الطراز من الصهاينة، الذي ينتمي شطرنهيل إليه، تجد أشخاصًا كثيرين متعاطفين مع الصنف الآخر وفكرة "أرض إسرائيل" التاريخية، ويشدّدون على "الجذور القومية" المزروعة في الضفة الغربية وليس داخل تخوم الخط الأخضر فقط. غير أنهم بموازاة ذلك يصرّون على أن المسألة التي يتعيّن مواجهتها ليست كامنة هنا، بل إنها كامنة في "حسم" الاختيار بين تجسيد "كل الحقوق التاريخية"، الذي سيكون ثمنه الحتمي استعباد أو طرد الشعب الآخر، وبين تجسيد جزء من هذه الحقوق التاريخية، بصورة تتيح إمكان إيجاد فرصة معينة لـ"حل وسط قومي".

كما تجد بين هؤلاء أناسًا يستفظعون قيام اليمين الإسرائيلي، بما في ذلك اليمين الاستيطاني، بعرض كل مؤيدي تجسيد جزء من الحقوق التاريخية من خلال تطبيق مقاربة التقسيم على أنهم من "معسكر السلام". وهم يؤكدون أنه من الناحية العملية فإن الكثيرين منهم يؤيدون التقسيم بالذات بعد أن يئسوا من إمكان إحراز السلام، وأن هؤلاء يعتقدون أن التقسيم يشكل السبيل الوحيد لإنقاذ "المشروع الصهيوني" من التلاشي.

من الواضح أن ثمة قاسمًا مشتركًا يجمع بين الصنفين، وهو التمحور من الناحية العقائدية حول "الحقوق القومية لليهود" في فلسطين، غير أن الصنف المؤمن بـ "صهيونية الأرض" مستعد لأن "يجازف" بمسألة الحفاظ على الأغلبية اليهودية، من أجل مواصلة التمسك بالأرض التي وراء "الخط الأخضر"، في حين أن الطراز المؤمن بـ "صهيونية الدولة"- ومثلما كان أيضًا لدى صدور القرار الأممي بشأن تقسيم فلسطين من جانب الأمم المتحدة (1947)- على استعداد لأن يقسم الأرض لاعتقاده بأن ذلك من شأنه أن يحول دون اندثار "الدولة اليهودية" في وسط أغلبية عربية.

وهو، بطبيعة الحال، استعداد غير ناجم أساسًا عن قناعة أصحابه بضرورة تلبية الحقوق القومية الفلسطينية التي ما زالت تُنتهك منذ نكبة 1948.

لقد أشرنا في أكثر من مقام في الماضي إلى أن هذا "الجدل السياسي" في المجتمع الإسرائيلي حول مستقبل المناطق المحتلة منذ 1967 الذي يرى البعض أنه مركزي، يبدو في الظاهر كما لو أنه جدل على السياسة العامة التي يتوجّب على المؤسسة السياسية أن تنتهجها إزاء القضية الفلسطينية، لكنه في الباطن جدل على "ما هي الصهيونية"، ويتسم بقدر كبير من التمحور الاستحواذي حول الذات.

وحتى لو ترتبت على هذا الجدل مواقف تجاهر هنا وهناك بتأييد "تقسيم الأرض"، أو بدعم مقاربة الدولتين، فإن أصحاب هذه المواقف، على غرار شطرنهيل، ما زال ينقصهم أمر جوهري، هو رؤية أن "دولة الصهيونية" نشأت بالخطيئة مع طرد مئات الآلاف من الفلسطينيين من وطنهم، وأنه تبقى ثمة حاجة أولا ودائمًا للتكفير عن هذه الخطيئة، عبر الاعتراف باقترافها بداية، ومن ثم تحمّل المسؤولية الأخلاقية عن حلّ يعيد الحق القومي الفلسطيني إلى أصحابه من دون المساس بحقوق الآخرين.