يعرّف الفيلسوف الفرنسي اليساري آلان باديو في كتابه "الكينونة والحدث" هذا الأخير (الحدث) بأنه واقعة استثنائية خارقة، علمية، أو مجتمعية، أو عاطفية، تنفتح معها إمكانيات للنظر والعمل كانت مستبعدة من التفكير، أي لم تكن مرئية أو محتملة أو محسوبة.
ويضيف أنه أشبه بصدمة تتيح لمن يتلقى أثرها أن ينسلخ عن غرائزه الحيوانية بقدر ما تنكشف له حقيقة المساواة الأصلية بين البشر، وبهذا المعنى يحيل الحدث إلى معاني الكشف والتعالي ومحاولة التجاوز.


نستعير هذا التعريف كي نتساءل فيما إذا كانت جريمة دوما الإرهابية بمثابة "حدث" كهذا قد يترتب عليه قدر ولو بسيط من الكشف بالنسبة لصناع القرار أو الرأي العام في إسرائيل؟.


ليس بعد. هذا ما يمكن الجزم به، على الأقل حتى لحظة كتابة هذه السطور.


وقبل أكثر من عام، وعلى وجه التحديد يوم 20 أيار 2014، خصصنا مثل هذه الزاوية للموضوع نفسه- الجرائم التي ترتكبها عصابات "تدفيع (جباية) الثمن".


ولدى العودة إليها الآن كي نتجنب التكرار صُدمت بواقع أن بالإمكان تكرارها كما هي، إمّا عملاً بمبدأ "في الإعادة إفادة"، أو جرياً على مقولة "ما أشبه اليوم بالبارحة"، ولا سيما الفقرة الاستهلالية التي ورد فيها ما يلي:
أدى تفاقم جرائم "تدفيع الثمن" التي ترتكبها جماعات استيطانية يهودية ضد الفلسطينيين وأملاكهم في الضفة الغربية وداخل الخط الأخضر في الآونة الأخيرة، إلى إعادة استعمال آلية "الكذب المتفق عليه إسرائيلياً" بوجه عام حول المستوطنين، والتي تدعي من ضمن أمور أخرى أن هذه الجماعات لا تعدو كونها "أعشاباً ضارة"، ولا تعكس "المشهد الحقيقي" لـ"مشروع الاستيطان الصهيوني"، وأنها- كقول وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق موشيه آرنس مثلاً- عبارة عن عصابات رعاع يهود غايتها مماثلة لغاية السياسيين العرب في إسرائيل، وهي دقّ إسفين بين المواطنين اليهود والعرب، والحؤول دون اندماج العرب في المجتمع الإسرائيلي.


كما نوهنا بأنه كان ثمة من فضح هذه الآلية، وفي مقدمهم الكاتب الإسرائيلي عاموس عوز الذي أكد أن تعابير مثل "تدفيع الثمن" و"شبيبة التلال" التي تطلق على هذه الجماعات تزويقية، وأنه حان الوقت لمواجهة هذا الوحش وتسميته باسمه الحقيقي، معتبراً أنها جماعات نازية جديدة عبرية، وأنه ليس هناك أي شيء يفعله النازيون الجدد في عصرنا ولا تفعله هذه الجماعات هنا. ولفت إلى أن الفارق الوحيد قد يكون كامناً في أن الجماعات النازية الجديدة هنا تحظى بدعم من طرف عدد غير قليل من المشرّعين "القوميين" وربما العنصريين، وكذلك بدعم عدة حاخامين يقدمون لهم الفتاوى تلو الأخرى.

وفي سياق لاحق رأى البعض أن وصف عوز لهؤلاء بأنهم نازيون جدد عبريون دقيق للغاية، لكن في الوقت عينه أكد أنه ربما يجدر العودة إلى وصف لا يقل دقة للمفكر اليهودي يشعياهو ليبوفيتش لأمثال هؤلاء بأنهم "يودو نازيون" (يهود نازيون) كونه وصفاً مقتضباً وصائباً أيضاً.

في ذلك الوقت أيضاً برزت أمامنا حقيقة أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ما يزال يرفض توصية تقدّم بها قبل عدة أعوام وزيرا الأمن الداخلي والعدل، وتنص على اعتبار جماعة "شبيبة التلال" الاستيطانية التي تنفذ هذه الجرائم مجموعة إرهابية، الأمر الذي يشف عن جوهر تعامل المؤسسة السياسية والأجهزة الأمنية مع هذه الجماعة.

وفقط بعد قيام هذه الجماعة بارتكاب اعتداءات على ضباط الجيش الإسرائيلي وجنوده في المناطق المحتلة، أعلن الناطق بلسان الجيش أن هذه الاعتداءات تشكل تجاوزاً للخطوط الحمر، ما حمـل القاضي الإسرائيلي المتقاعد بوعز أوكون، محلل الشؤون القانونية في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، إلى التنويه بأن هؤلاء الضباط والجنود وقادة الجيش يملكون وسائل كافية لحماية أنفسهم، بينما الاعتداءات الأخطر هي تلك التي يرتكبها المستوطنون ضد السكان العرب، وهؤلاء لا يوجد من يوفر الحماية لهم على الإطلاق.

وأضاف أنه بناء على ذلك، يتعيّن على كل من أعرب عن صدمته الكبيرة إزاء اعتداءات ناشطي اليمين على الجيش أن يدرك أن مثل هذه الاعتداءات يتعرض لها الفلسطينيون يومياً في جميع أنحاء المناطق المحتلة. ولعلم الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي فإن الخطوط الحمر تم تجاوزها منذ فترة طويلة، والراية السوداء باتت مرفوعة في المناطق المحتلة منذ أعوام كثيرة، وما يسود في هذه المناطق هو نظام أبارتهايد بكل ما في هذه الكلمة من معنى.

بالإضافة إلى ذلك فإن العنف الذي يُمارس ضد الفلسطينيين تحوّل- برأي أوكون- إلى آفة مُعدية، وكل من يعتقد أن المشكلة كامنة فقط في عدم تطبيق القانون يرتكب خطأ فادحاً، لكون القانون الإسرائيلي الذي يُطبّق في المناطق الفلسطينية سيئاً وغير عادل من أساسه. ويجب ألاّ ننسى أن المنظمات المتعددة التي تحاول أن تقف في وجه هذا القانون، على غرار "جمعية حقوق المواطن"، و"يش دين" ("يوجد قانون")، و"بتسيلم"، تتعرض في الآونة الأخيرة لحملة شرسة من جانب الحكومة الإسرائيلية تهدف إلى كم أفواهها. صحيح أن العنف في المناطق المحتلة تحوّل إلى عادة روتينية، لكن سبب ذلك يعود أساساً إلى حقيقة أن السلطات المسؤولة عن تطبيق القانون تغض الطرف بصورة منهجية عن ممارسات الاحتلال والمستوطنين إزاء السكان الفلسطينيين وأملاكهم. ومن الطبيعي ألاّ يبقى خطر هذا العنف منحصراً في الفلسطينيين فقط. ومن وجهة نظره على جميع الذين اعتبروا أن الاعتداء على جنود الجيش الإسرائيلي عمل خطر للغاية أن يدركوا أن الاعتداءات على الفلسطينيين لا تقل خطراً عنه إن لم تكن أشد وأدهى لأنها تجري تحت سمع وبصر الجهات المسؤولة عن تطبيق القانون.

كما استنتج محلل الشؤون الاستخباراتية يوسي ميلمان أن جهاز الشاباك لا يتعامل مع المتطرفين اليهود المشتبه بارتكابهم أعمالاً إرهابية مثلما يتعامل مع المشتبه بهم العرب، وإنما يغض الطرف عن اليهود، مؤكداً أن هذا المسلك يشكل إخفاقاً مقلقاً لهذا الجهاز من شأنه أن يعرّض النظام في إسرائيل للخطر. وفي المقابل يحظى المعتدون بتسامح القضاة الذين يقللون من قدر أعمالهم ويفرجون عنهم أو يحكمون عليهم بعقوبات طفيفة، ويحظون بعجز الشرطة والجيش الإسرائيلي المتعمد على ما يبدو. وتساهم الصحف الإسرائيلية أيضاً بأن تتبنى مغسلة كلام المستوطنين الذين يسمون هذه الأعمال "تدفيع الثمن"، كما لو أن الحديث يدور حول مادة استهلاكية في حانوت، بينما يجب أن نقول الحقيقة وهي أن ما يفعله المستوطنون بجيرانهم الفلسطينيين هو إرهاب بكل ما في الكلمة من معنى.

وقد أثبتت هذا كله تصريحات الرئيس الأسبق لجهاز الشاباك كرمي غيلون ومؤداها أن بإمكان هذا الجهاز في غضون فترة وجيزة وضع حدّ لجرائم "تدفيع الثمن" في حال اتخاذ المؤسسة السياسية الإسرائيلية قراراً يقضي بمكافحة هذه الجرائم أسوة بأي جرائم أخرى ذات طابع إرهابي. وأكد أن مكافحة هذه الجرائم لم تنجح حتى الآن بسبب عدم وجود نية حقيقية لمكافحتها. وقال إنه لا يعقل ألا يكون بوسع جهاز الشاباك مواجهة هذه الجرائم، لكن يبدو أنه لا توجد رغبة كافية في خوض مواجهة كهذه لدى الجهات الأمنية المختصة.

واليوم حين نستعرض جوهر ردات الفعل على جريمة دوما ندرك أولاً أنها برغم خطورتها البالغة ما تزال متنائية عن أن تشكل "حدثاً" وفقاً لوصف باديو السالف.