المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
قوات كبيرة من حرس الحدود تتهيأ لقمع احتجاجات أهالي النقب على الاستيلاء على أراضيهم بذريعة التشجير، وذلك في 12 من الشهر الجاري. (شينخوا)
قوات كبيرة من حرس الحدود تتهيأ لقمع احتجاجات أهالي النقب على الاستيلاء على أراضيهم بذريعة التشجير، وذلك في 12 من الشهر الجاري. (شينخوا)

تكمن إحدى الأدوات التي تستخدمها إسرائيل للسيطرة على الأرض وإزاحة سكانها الأصلانيين في سياسة التشجير، والتي من خلالها تقوم بالسيطرة على الأراضي من خلال زراعتها أو تحويلها إلى حدائق عامة أو محميات طبيعية. في النقب، مثلا، يقوم الصندوق القومي اليهودي (أو ما يعرف بالعبرية باسم "كاكال") بمشروع جديد لتشجير مساحات واسعة بهدف منع أي استخدام آخر لها من قبل الفلسطينيين من سكان المنطقة مثل إقامة منازل أو أحياء سكنية أو استخدامها للزراعة وتربية المواشي. وفي يوم الأربعاء 12 كانون الثاني، وصل عضو الكنيست إيتمار بن غفير، من حزب "قوة يهودية" التابع لتيار الصهيونية الدينية، إلى النقب لزراعة أشجار وقال بأن "الصراع في النقب هو رمز

سيادتناإيلنا كوريال وآخرون، صدامات في النقب بسبب شتلات الصندوق القومي اليهودي، يديعوت أحرونوت، 11 كانون الثاني 2022. أنظر الرابط التالي: https://www.ynet.co.il/news/article/s1ysglo3f على أرض إسرائيل". ومع نشوب مواجهات حادة بين الأجهزة الأمنية الإسرائيلية وأهالي المنطقة الأصلانيين، دعا يائير لبيد، وزير الخارجية الإسرائيلي، إلى إيقاف مشروع التشجير، الأمر الذي جر وراءه ردود فعل من قبل زعيم المعارضة بنيامين نتنياهو، الذي زعم بأن لا أحد يجرؤ على إيقاف غرس الأشجار في دولة إسرائيل. أما آفي ديختر، عضو الكنيست من حزب الليكود، فقد وصل إلى المكان ليشارك في زراعة الأشجار، وقال بدوره إن "الصراع هنا بين المجرمين العرب والدولة. المجرمون يريدون الاستيلاء على مناطق لا علاقة لها ببلداتهم. إن الدولة والصندوق القومي اليهودي على أهبة الاستعداد لمواجهتهم من خلال استخدام الشجر والجرار الزراعي ووضع السياسات الملائمة".عتارا غيرمان، هل تم خرق فريضة عام الإغفال؟، مكور ريشون، 11 كانون الثاني 2022. أنظر الرابط التالي: https://www.makorrishon.co.il/news/445225/

إلى جانب هذه التجاذبات السياسية داخل إسرائيل، كان هناك جدل آخر غير متوقع، ولم يتم الاهتمام به بشكل كاف في الصحافة العربية، ويتعلق بأحد أركان الشريعة اليهودية. ففي هذا العام بالتحديد، والذي يسمى في الثقافة الدينية اليهودية بـ"عام الإغفال"، يمنع منعا باتا على اليهود استخدام الأرض، أو زراعتها، أو حتى غرس الأشجار. ومع ذلك، قام الحاخامات في إسرائيل بوضع فتاوى استثنائية تسمح بغرس الأشجار في النقب شريطة أن يتم استخدام أشجار غير مثمرة من نوع محدد. هذه المقالة تستعرض مفهوم "عام الإغفال"، والجدالات التي أثيرت حوله فيما يخص الصراع في النقب.

ما هو "عام الإغفال"؟

بحسب التقويم العبري، فإن السنة رقم 5782 والتي بدأت بتاريخ 7 أيلول 2021 وستنتهي في 25 أيلول 2022 هي "عام الإغفال". وهو عام يأتي كل سبع سنوات ويمتنع فيه اليهود عن العمل في الأرض، زراعتها، أو بيع محصولها. ففي الإصحاح 23 من سفر الخروج، ورد النص التالي الذي بات يعتبر فريضة دينية: "ست سنين تزرع أرضك وتجمع غلتها. وأما في السابعة فتريحها وتتركها ليأكل فقراء شعبك. وفضلاتهم تأكلها وحوش البرية. كذلك تفعل بكرمك وزيتونك". وبموجب التفسيرات الدينية اليهودية، فإن الهدف من وراء هذه الفريضة هو أن الله يريد أن يذكر شعب إسرائيل بأنه هو صاحب السيادة الفعلية، وأن الملك الوحيد هو ملك الله. من هنا، ألزم الله اليهود بترك الأرض وهجرتها كليا كي يتمكن الأغيار والشعوب الفقيرة من استخدامها. في التاريخ الحديث، يتم عادة الإشارة إلى أن اليهود في فلسطين بدأوا بتطبيق فريضة "عام الإغفال" منذ قرون. بيد أن الجدل الحقيقي بدأ في بدايات القرن العشرين عندما كان المستوطنون اليهود الجدد يملكون مساحات محدودة من أراضي فلسطين، ويستخدمونها في معظمها للزراعة. في العام 1909 نشر الراب أبراهام إسحاق هكوهين كوك كتاباً بعنوان "سبت البلاد" وفيه تطرّق إلى مفهوم "عام الإغفال" من الناحيتين الشرعية والقانونية. أحد أهم التناقضات التي تترتب على هذا العام وبرزت في الكتاب هي أن اليهود لا يمكنهم تجاهل هذه الفريضة التي يجمع عليها كل حاخامات إسرائيل، لكن من جهة ثانية فإن ترك الأراضي الزراعية بدون فلاحة سيؤدي إلى ارتفاع حاد في الأسعار وسوف يعود بالخراب على التكنولوجيات الزراعية المستخدمة والتي تحتاج إلى استمرارية ومتابعة. والأهم أن عدداً كبيراً من المزارعين المستوطنين سيفلسون وبالتالي سيكون مشروع إقامة دولة على المحك.عتارا غيرمان، هل تم خرق فريضة عام الإغفال؟، مكور ريشون، 11 كانون الثاني 2022. أنظر الرابط التالي: https://www.makorrishon.co.il/news/445225/

الحل الذي يقترحه الحاخام كوك هو حل تحايلي، بحيث يتم بيع كل الأراضي التي تعود ملكيتها إلى اليهود، سواء كمؤسسات أو كأفراد، إلى شخص غير يهودي. في الواقع، كان يهود صفد يستخدمون هذا الأسلوب منذ ما يقارب 500 عام، لكن الحاخام كوك حول موضوع بيع أراضي اليهود في "عام الإغفال" من ممارسة غير مركزية يديرها كل يهودي صاحب أرض في فلسطين إلى ممارسة مركزية تشرف عليها مؤسسات الحركة الصهيونية. وبعد قيام الدولة، أصبحت الدولة هي التي تشرف على ذلك. وقد أثارت فتوى الحاخام كوك جدلا كبيرا في تلك الفترة. من جهة، كان الحاخامات التابعون إلى الطوائف الأشكنازية يرفضون رفضا تاما بيع الأراضي إلى شخص غير يهودي، لأن في ذلك تحايلاً على الفريضة الدينية. فالبيع يعني أن الأراضي لم تعد ملكا لليهود، وبالتالي بالإمكان الاستمرار في الأعمال الزراعية وتجنيب المزارع اليهودية خسائر باهظة. وقد كان الحاخام كوك، الذي أتاح بيع الأراضي خوفا من وقوع خسائر مادية، يتبع إلى الطائفة الأشكنازية. في المقابل، فإن الحاخامات التابعين إلى الصهيونية الدينية أو الطوائف الشرقية لا يمانعون من بيع أراضي إسرائيل في "عام الإغفال".

مهما يكن من أمر، تحول موضوع بيع أراضي إسرائيل إلى شخص غير يهودي، مرة كل سبع سنوات، تقليدا متبعا حتى يومنا هذا. في معظم المرات كان البيع يتم لصالح شخص عربي فلسطيني تعتبره إسرائيل مواليا جدا لها، ومؤتمنا على كل أراضي إسرائيل التي ستتحول إلى ملكية خاصة به والتي قد تبلغ مساحاتها حوالي 1.75 مليون دونم. كوبي نحشوني، إذن البيع خرج إلى حيز التنفيذ. يديعوت أحرونوت، 5 أيلول 2007. أنظر الرابط التالي: https://www.ynet.co.il/articles/0,7340,L-3446165,00.html ويتم البيع من خلال عقد بيع وتنازل يمنح المشتري كامل الحق في الأراضي، لكنه محدود زمنيا، بحيث أن المشتري يعيد الأراضي إلى ملكية اليهود بعد إنهاء "عام الإغفال". وقبل أن يبدأ "عام الإغفال" الحالي، وبالتحديد بتاريخ 23 آب 2021، تم نقل ملكية كل أراضي إسرائيل الزراعية إلى شخص غير يهودي، لكنه أيضا غير عربي، واسمه واسلي شميدت. وتتم عملية بيع الأراضي من خلال لجنة تقوم مؤسسة الربانوت الرئيسة بالإشراف عليها، وتضم أعضاء من وزارة العدل الإسرائيلية وجهات حكومية أخرى. يولي آرييه، إذن البيع دخل حيز التنفيذ: الأراضي بيعت إلى أحد الأغيار، سروغيم، 23 آب 2021. أنظر الرابط التالي: https://bit.ly/3fsXb7L

ويمكن أن نلاحظ أن معظم المنتجات الغذائية الإسرائيلية في "عام الإغفال" يتم ختمها بختم خاص للدلالة على أنها ما تزال حلال لأنه تم إنتاجها من أراض غير يهودية. بيد أن معظم الحريديم في إسرائيل يقاطعون هذه المنتجات ويفضلون شراء الخضار والفواكه مباشرة من الفلسطينيين، خصوصا من الضفة الغربية أو أن يستوردوها من الخارج، لأنهم يعتقدون أن هناك تحايلاً على الشريعة الدينية عند تحويل ملكية الأراضي والاستمرار في العمل فيها من قبل اليهود. وقبل العودة لرؤية كيف انعكس النقاش على مشروع الصندوق القومي اليهودي داخل أراضي النقب، لا بد من الإشارة إلى قضية أخرى مثيرة للاستغراب وتتعلق بأراضي ومزارع المستوطنات في الضفة الغربية. الخطاب السائد لدى المستوطنين، وحاخاماتهم، هو أن أراضي الضفة هي ملك لليهود وأن الله وعدهم بها في التوراة. ومعظم أعمال المستوطنين تقوم على سلب الأراضي وفرض بؤر استيطانية عليها دون الرجوع أحيانا إلى الدولة ومؤسساتها، اعتقادا منهم أن الاستيطان هو حق ديني لا يجب إبطاؤه من قبل مؤسسات الدولة صاحبة العمليات البيروقراطية المملة. لكن عندما يحين "عام الإغفال" ينشر حاخامات المستوطنين منشورات متناقضة تماما ويصرون على أن أراضي الضفة كلها ملك للعرب، وأنها تخضع للنظام الأردني، وبالتالي فهي ليست ملكا لليهود ولا تنطبق عليها فريضة "عام الإغفال". والهدف هو الاستمرار في الاستيطان الزراعي وتشجير مساحات إضافية داخل الضفة الغربية.شلومو غورن، إشكالية عام الإغفال في المستوطنات، دراسات بيت المدراش (بيت إيل: ييشيفاه، 2007). أنظر الرابط التالي: https://www.yeshiva.org.il/midrash/7351

بن غفير يحصل على استثناء من أحد الحاخامات لغرس أشجار في النقب

بصرف النظر عن هذه التناقضات المثيرة في الخطاب الديني للمستوطنين، فإن التناقض الأهم برز في منطقة النقب وظهر بشكل خاص خلال الأسبوع الأخير. من جهة، نشر الصندوق القومي اليهودي على موقعه تعليمات بخصوص التشجير في "عام الإغفال" الحالي، وهي تعليمات تنسحب بطبيعة الحال على مشروع تشجير أراضي النقب. يقول أحد بنود هذه التعليمات: "في المناطق التي نسمح فيها بالزراعة لغرض الاستيلاء على الأرض ومنع تسربها [للعرب]، سيتم غرس الأشجار بواسطة عمال غير يهود بحيث أن الشتلات التي نستخدمها هي شتلات لأشجار غير مثمرة".أنظر صفحة الصندوق القومي اليهودي على الرابط التالي: https://bit.ly/3rfTXKc

بيد أن الأشخاص غير اليهود المقصودين، هم العرب أنفسهم والذين يعترضون على مشروع الصندوق القومي في النقب. وربما يدل إصرار الصندوق القومي اليهودي على تشجير منطقة النقب في هذا العام بالتحديد على هويته العلمانية على الرغم من ازدياد نفوذ التيارات المتدينة واليمينية المتشددة داخل مؤسسات المنظمة الصهيونية في السنوات الأخيرة. وعليه، أراد أعضاء من حزب الليكود، بالإضافة إلى بن غفير، اليميني الأكثر تطرفا والذي ينتمي إلى متشددي الصهيونية الدينية، أن يقوموا هم أنفسهم بغرس الأشجار. وقد صورت وكالات الإعلام اليمينية المتطرفة الصراع في النقب على أنه "غزوة" من قبل العرب المخربين والذين يريدون تهديد السيادة اليهودية. وبالتالي تطوع حاخامات من تيارات مختلفة لإصدار فتاوى تتيح حتى لليهود التجند لإنقاذ أراضي النقب من العرب. مثلا، يقول الحاخام يهودا عميحاي، وهو سابقا كان رئيس لجنة "عام الإغفال" وحاليا رئيس مركز أبحاث التوراة والأرض، ما يلي: "إذا كانت هذه هي الطريقة الوحيدة لإنقاذ الأرض التي يريد العرب الاستيلاء عليها، فهذا ممكن فقط عن طريق غرس الأشجار غير المثمرة أو نقل أشجار من أرض إلى أرض أخرى". ومع أنه يحبذ أن تتم العملية من خلال أشخاص غير يهود، الا أنه يقول أيضا إنه في ظل حالات معينة يكون فيها العرب مصدر تهديد حقيقي، "من الممكن أن يتم الأمر ... حتى من قبل اليهود أنفسهم". غيرمان، هل تم خرق فريضة عام الإغفال؟ لكن النقاش احتد أكثر عندما توجه بن غفير إلى أحد الحاخامات البارزين لدى الصهيونية الدينية، وهو الحاخام دوف ليئور، بتاريخ 12 كانون الثاني، وطلب منه فتوى أكثر وضوحا بخصوص غرس الأشجار في النقب. وقد انتقد الحاخام ليئور كل المتدينين الساكتين، والذين يتمسكون بفريضة "عام الإغفال" ويتناسون أن المعركة هي معركة مصيرية مع العرب. وعليه، نصح الحاخام ليئور بن غفير بالتوجه فورا إلى النقب وغرس الأشجار بنفسه. هذه الفتوى أثارت حفيظة العديد من حاخامات التيارات الحريدية، حيث قال الحاخام الحريدي يوسف إفراتي بأنه ممنوع منعا باتا وتحت أي ظرف غرس الأشجار في إسرائيل هذا العام. لكن أعضاء الكنيست الحريديم التزموا الصمت ولم يشاركوا في هذا النقاش.حنان غرينوود، هل نحن بصدد صراعات داخل المعارضة؟ مسموح غرس الأشجار في عام الإغفال، يسرائيل هيوم، 12 كانون الثاني 2022. أنظر الرابط التالي: https://www.israelhayom.co.il/judaism/judaism-news/article/6969698\

في كل الأحوال، فإن موضوع "عام الإغفال" يعتبر إحدى المحطات التي تعكس الكثير عن التناقضات الداخلية لدى المجتمع الإسرائيلي. وهي تحتاج إلى اهتمام أكبر لكشف التشابكات التي تحصل ما بين الاقتصاد الفلسطيني والاقتصاد الإسرائيلي في هذه السنة حيث يفضل فيها عدد لا بأس به من اليهود عدم العمل في الزراعة. لكنها أيضا تعكس التناقضات ما بين الهوية الدينية اليهودية الملتزمة بفراض الشريعة، وبين متطلبات الاستيطان والاستيلاء المستمر على الأراضي. ففي نهاية الأمر، تغلبت هوية إسرائيل الاستعمارية التوسعية على هويتها الدينية، وتسببت بتأقلمات وتعديلات طالت تفسيرات في الشريعة الدينية بما يتناسب مع ولا يعرقل مشروع الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين في النقب.

 

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات