القرار الذي أبطل قانون التسوية كان يمكنه أن يقتصر فقط على المسألة المحدّدة التي طُرحت أمام المحكمة أي على المصادقة بأثر رجعيّ لمنازل بُنيت في المستوطنات على أراضٍ بملكيّة فلسطينيّة خاصّة أو على أراضٍ خارج التنظيم وبدون ترخيص. لكنّ رئيسة المحكمة القاضية حيوت ارتأت عرض صورة أوسع فشرعت منذ بداية نصّ القرار تصف كيف جمّدت إسرائيل سِجلّ الأراضي في الضفة الغربيّة وكيف أعلنت ما يقارب مليون دونم "أراضي دولة" وخصّصتها كلّها تقريباً للمستوطنات.
وحيث أنّ الحديث عن الصورة الواسعة فلنتوسّع نحن أيضاً في التفاصيل: استند إعلان الأراضي إلى تأويل خاطئ ومشوّه لأحكام القانون وخالف كلّ قواعد الإجراء العادل. أكثر من ذلك فإذا كانت هذه حقّاً أراضي عامّة - فهي على كلّ حال معدّة لخدمة عموم الجمهور الفلسطينيّ لا المستوطنين الذين لا يُفترض أصلاً أن يكونوا هناك، علماً أنّ إقامة المستوطنات كلّها مخالفة للقانون بل وتعتبر جريمة حرب - وهو الأمر الذي تجاهلته رئيسة المحكمة. حظْر بناء المستوطنات نصّت عليه أحكام القانون الدوليّ لأنّ من بين ما أراده الذين صاغوه أن يمنعوا بالضّبط ما يحدث منذ عشرات السّنين في الضفة الغربيّة أي نهب مئات آلاف الدونمات من الأراضي وتلبية احتياجات المستوطنين بما يترتّب على ذلك من تنغيص عيش الفلسطينيّين.
تصف رئيسة المحكمة الحقائق التي ارتأت الإشارة إليها في قرار الحُكم وكأنّها جزء من عمليّة إقامة المستوطنات بدءًا بنهب الأراضي ثمّ بناء 250 مستوطنة وتوسيعها على مرّ السّنين، وصولاً إلى سكن مئات آلاف المواطنين الإسرائيليّين برعاية الدّولة وتشجيعها في المناطق عينها التي يقيم فيها الفلسطينيّون والتمتّع بحقوق يُحرم منها جيرانهم. وربّما لهذا السّبب لا تثير هذه الممارسات كلّها أيّ شعور بعدم الرّاحة ولو بقدْر بسيط - وهكذا فالمشكلة وفقاً لما جاء في القرار هي فقط الطريقة الجارفة والفظّة التي يُراد بها إضفاء شرعيّة قانونيّة على هذه الممارسات.
ربّما ليس مستغرَباً أنّ قرار المحكمة الذي أبطل قانون التسوية لا يقف معزولاً وحيدا. لهذه المحكمة إسهام أساسيّ في مشروع الاستيطان وخلق هذا الواقع. صحيح أنّ القضاة منعوا في بعض الحالات الاستيطان موضعيّاً في أراضٍ وُجد من تمكّن من إثبات ملكيّته الخاصّة لها، ولكنّ هؤلاء القضاة أنفسهم صادقوا على نهب مئات آلاف الدّونمات حين تذرّعت الدولة بشتّى التصنيفات مثال "أراضي دولة" أو "مناطق تدريبات عسكريّة" أو "محميّات طبيعيّة". أصلاً من الصّعب تخيّل نشوء الواقع الذي يسود الضفة الغربيّة اليوم لولا المظهر القانونيّ الشكليّ الذي أضفته المحكمة العليا عليه.
صادق القضاة ليس فقط على نهب الأراضي وإنّما على وجود جهازين منفصلين للتخطيط والبناء واحد للمستوطنين يتيح للمستوطنات الازدهار والتوسّع على المزيد والمزيد من أراضي الضفّة الغربيّة وآخر للفلسطينيّين غايته معاكسة تماماً: أن يمنعهم من البناء في كلّ مكان ممكن. صحيح أنّ رئيسة المحكمة عبّرت عن صدمتها من مجرّد فكرة وجود جهازي تخطيط وبناء منفصلين ولكنّها نظرت وزملاؤها القضاة في مئات الالتماسات التي قدّمها فلسطينيّون ضدّ هدم منازلهم بحجّة بنائها دون ترخيص إذ أنّهم لا يملكون خياراً آخر، كما نظروا في التماسات مبدئيّة أخرى ضدّ سياسة التخطيط والبناء الإسرائيليّة. رفض القضاة هذه الالتماسات مرّة تلو الأخرى وقرّروا استناداً إلى مرجعيّات بيروقراطيّة أنّ الهدم قانونيّ متجاهلين تماماً الصّورة الأشمل والسّياق الأوسع. ومن هنا فقد ارتأى القضاة أنّ مقدّمي الالتماسات تحايلوا وتصرّفوا وكأنّهم فوق القانون و"صنعوا لأنفسهم قانوناً خاصّاً بهم" ثمّ أرسلوهم لإتمام الإجراءات في المؤسّسات عينها التي أنشئت لتطبيق هذه السياسة.
هذا كلّه لا نجده في قرار الحُكم الذي يصوّر عوضاً عن ذلك عالماً خياليّاً يتمتع فيه الجميع بالمساواة في الحقوق وبحماية السّلطات. في عالم كهذا من الصواب أن ترى رئيسة المحكمة ضرورة إبطال القانون إذا كان يمسّ بشكل غير تناسُبيّ بحقوق جماعة معيّنة مثال حقّ الملكيّة الخاصّة والحقّ في المساواة (كما في الحالة أمامنا).
ولكن في عالم الواقع أي واقع الاحتلال الذي ينوء تحته الفلسطينيّون منذ أكثر من خمسين سنة وحيث تُنتهك حقوق الإنسان الفلسطينيّ يوميّاً، يدعم قضاة العليا الانتهاكات ويصادقون عليها بشكل روتيني، بما في ذلك هدم المنازل العقابيّ والاعتقالات الإداريّة والتعذيب أثناء التحقيق وإطلاق النار على المتظاهرين العزّل وترحيل سكّان تجمّعات بأكملها وغير ذلك الكثير الكثير. يفعلون هذا متجاهلين أنّ الملتمسين يرزحون تحت احتلال عسكريّ ولا أحد يسألهم عن رأيهم عند اتّخاذ قرارات تمسّ صُلب معيشتهم وحياتهم. بذلك يشرعن ليس الانتهاكات وحدها وإنّما يضفون على الاحتلال والنهب والاضطهاد والقمع الشرعيّة القانونيّة التي تتوق إليها إسرائيل أشدّ التّوق.
من حين لآخر يلوّح القضاة بالرّاية الحمراء ويقولون للدولة "كفى" مثلما فعلوا في حالة قانون التسوية. ولكنّها حالات معدودة وبمثابة الشواذّ التي تؤكّد القاعدة إذ لن تعاد لأصحابها معظم الأراضي التي نُهبت، كما أنّ رئيسة المحكمة تتبنّى في قرار الحُكم سلسلة الطرق البديلة التي اقترح المستشار القضائيّ للحكومة اتّباعها لأجل تحقيق الهدف نفسه الذي سعى إليه القانون. لن تتحقّق العدالة للفلسطينيّين هنا ولا حماية حقوقهم أمّا شرعنة استمرار الجريمة فنعم بالتأكيد.