المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

قبل أقل من أسبوعين أعلنت النيابة الإسرائيلية العامة تقديم لائحة اتهام ضد النائبة السابقة لوزير الداخلية فانيا كيرشنباوم، من حزب "إسرائيل بيتنا" بزعامة أفيغدور ليبرمان، في قضية رشاوى طالت عشرات من أعضاء ومؤيدي الحزب في مؤسسات حكومية أو شبه رسمية. ويأتي هذا الإعلان بعد 32 شهرا من الكشف عن القضية، والتحقيقات المكثفة، والتقارير الصاخبة التي تنبأت في حينه بانهيار حزب ليبرمان كليا.

 

هذه المقدمة ضرورية في هذه الأيام للتخفيف من لهيب التقارير الصحافية الإسرائيلية، التي توحي وكأن بنيامين نتنياهو على وشك الغياب عن المسرح السياسي، على خلفية قضايا الفساد المتورط فيها، فالتحقيقات ما تزال في جهاز الشرطة ولم تنته، وستحتاج لوقت طويل جدا حتى البت بها.

وما دفع بهذه التقارير الصحافية إلى الواجهة حدثان هامان، في ظل ظروف طبيعية ما كان سيبقى نتنياهو يوما واحدا اضافيا في منصبه، بل كان سيستقيل من منصبه، ولكن هذا في دول تتمتع بسيادة القانون، ونزاهة الحكم، وليس في إسرائيل. والحدث الأول، ابرام اتفاق بين الشرطة والمدير الاسبق لمكتب نتنياهو آري هارو، بأن يكون "شاهدا ملكيا" ضد نتنياهو في قضيتي فساد، الأولى اتصالات نتنياهو بمالك صحيفة "يديعوت أحرونوت"، والثانية تلقيه "هدايا" سخية من الثري أرنون ميلتشين، مقابل أن يتلقى هارو حكما مخففا في قضية فساد متورط بها. والحدث الثاني، هو بلاغ الشرطة للمحكمة العليا الإسرائيلية، ردا على أحد الالتماسات، بأن نتنياهو مشبوه بتلقي أموال غير مشروعة وخيانة أمانة. وتلاقى هذان الحدثان مع تقدم واضح في التحقيقات بشأن محاولة شراء غواصات عسكرية لم يكن الجيش الإسرائيلي بحاجة لها، إذ أن كل المتورطين فيها هم أشخاص مقربون من نتنياهو.

4 ملفات فساد

يواجه نتنياهو أربع ملفات فساد، تتعلق بشبهات مالية خطيرة، وتجري الشرطة منذ عدة أشهر تحقيقات في ثلاث قضايا منها، بينما القضية الرابعة ما تزال في طور التحقيقات الأولية، ولم يتم استجواب نتنياهو بشأنها.

القضية الأولى تحمل كنية "القضية 2000"، وفي صلبها أن نتنياهو سعى لدى مالك أكبر الصحف الإسرائيلية، "يديعوت أحرونوت"، أرنون موزيس، لتغيير توجهات الصحيفة كي تصبح مؤيدة لنتنياهو، مقابل أن يسن قانونا يحد من انتشار الصحيفة اليومية المجانية "يسرائيل هيوم" المؤيدة كليا لنتنياهو، ويملكها الثري الأميركي اليهودي شلدون إدلسون، اليميني العنصري المتطرف.

والقضية الثانية تتعلق بحصول نتنياهو وزوجته على "هدايا" سخية جدا، تقدر بعشرات آلاف الدولارات، على مر السنين، من الثري أرنون ميلتشين، وهي القضية التي تحمل كنية "القضية 1000"، وتسعى الشرطة لمعرفة ما هي الخدمات التي حصل عليها الثري من نتنياهو.

لكن القضية الأخطر من ناحية إسرائيلية، هي قضية صفقة شراء ثلاث غواصات عسكرية من ألمانيا، كان الجيش الإسرائيلي قد أعلن عدم حاجته لها، إلا أن نتنياهو أصر قبل أقل من عامين على شرائها، ليتضح لاحقا، أن وكلاء الشركة الألمانية هم من المقربين لنتنياهو، وأبرزهم محاميه الشخصي وقريبه دافيد شيمرون.

العواصف الصحافية والمسار القضائي

كل هذه القضايا تفجرت بقوة في الشهر الأخير من العام الماضي، وحظيت بضجة اعلامية واسعة النطاق، على مدى شهرين، وهناك من بدأ بتشغيل جهاز التوقيت، لاحتساب الأيام المتبقية لنتنياهو في الحكم، ولكن نتنياهو باق في منصبه، وقد تلت تلك العاصفة عدة عواصف في الأشهر الثمانية الأخيرة، وبالإمكان القول إن هذا الملف ما زال بعيدا عن خط النهاية، بمعنى القرار النهائي بخصوص تقديم لوائح اتهام وبأي حجم، على ضوء ما يذكر.

وقبل الحديث عن المسار القضائي، وعلى الرغم من أن كل الدلائل تشير إلى أن نتنياهو متورط كليا بقضايا الفساد، إلا أن ما ساهم في الصخب الإعلامي، هي قضية "يديعوت أحرونوت"، وارتباطها بصحيفة "يسرائيل هيوم"، وهذا انعكس على حالة التنافس الإعلامي.

لكن بعيدا عن الضجة الإعلامية، والعناوين الصاخبة، يجب الانتباه إلى أن كل هذه القضايا ما تزال في أوج التحقيقات في الوحدة الخاصة في الشرطة، ولم تقل أية جهة إن التحقيقات شارفت على الانتهاء، ما يعني أن هذه القضايا ستحتاج لعدة أشهر على الأقل في جهاز الشرطة، حتى يتم الانتهاء من التلخيصات والتوصل إلى الاستنتاجات.

وفي حال أوصت الشرطة بتقديم لوائح اتهام ضد نتنياهو، فإن الأمر سينتقل فورا إلى المستشار القانوني للحكومة بصفته المدعي العام الأعلى، وهناك لا يوجد سقف زمني يلزم المستشار فعلا بالبت في توصية الشرطة، رغم وجود أنظمة كهذه أو تلك، ولكن كما رأينا في قضية فانيا كيرشنباوم، السابق ذكرها هنا، فإن الأمر احتاج إلى 32 شهرا حتى تقديم لائحة الاتهام، ما يعني أن من توقع صدور لوائح اتهام ضد نتنياهو في المستقبل القريب جدا، إما أنه يجهل، أو أنه يسعى وراء الإثارة للفت الأنظار وانقاذ وسائل الإعلام من تردي أوضاعها. وليس في هذا نقد لوسائل الإعلام ورسالة الصحافة، وإنما الواقع الإسرائيلي أيضا في هذا الجانب غارق كليا في الحسابات السياسية، وسرعة أو تأجيل الضغط على الزناد يعود لهوية الشخص والبيئة السياسية حوله، ولطبيعة المسؤولين في دوائر القرار.

والمثال الأبرز في هذا الصدد كان رئيس الحكومة السابق إيهود أولمرت، الذي اضطر للاستقالة من منصبه، بعد خمسة اشهر فقط من الإعلان عن بدء التحقيقات ضده في قضية تم لاحقا تبرئته منها، فحينها اشتغلت ماكنات الشرطة والنيابة والمستشار القانوني للحكومة على مدار الساعة، وكانت القرارات متسارعة. كما أن أولمرت الضعيف في الحكومة واجه ضغوطا من بيته السياسي، حزب "كديما" المنحل، وبشكل خاص من تسيبي ليفني، التي تاقت للجلوس مكانه.

والمثال النقيض الأبرز كان أفيغدور ليبرمان، الذي واجه تحقيقات على مدى سنوات طويلة، بقضايا قيل عنها إنها قضايا الفساد الأضخم في الحكم الإسرائيلي. وبعد أيام قليلة من انتخابات ربيع 2009، تم الإعلان عن تحقيقات مكثفة ضد ليبرمان، وأن التوصية بتقديم لائحة اتهام ضده ستصدر عن الشرطة بعد شهرين، أي في أيار 2009. لكن توصية الشرطة صدرت في شهر أيلول 2010، في حين أن القرار النهائي للمستشار القانوني للحكومة احتاج لعامين ونصف العام، بمعنى في أوائل 2013، وبقضية هامشية جدا، بعد أن أسقط المستشار كافة التهم قبل الوصول إلى المحكمة، وطلب ليبرمان وحصل على مسار محكمة سريع، انتهى في غضون اشهر عديدة، وفرضت عليه عقوبة هامشية، لم تعرقل مواصلة توليه حقيبة وزارية، إذ عاد سريعا إلى وزارة الخارجية. ومرّة أخرى أمامنا قضية ناشطي حزب "إسرائيل بيتنا"، الذين احتاج تقديم لوائح اتهام ضدهم عامين ونصف العام.

بالتأكيد نتنياهو ليس أولمرت الضعيف، وبالتأكيد أيضا أنه ليس أقل شأنا من ليبرمان، فنتنياهو اليوم مسيطر على مقاليد السلطة بشكل غير معهود في العقود السبعة الماضية لأي رئيس وزراء إسرائيلي، وما من شك أن أذرعا عدة ستعمل على اغراق دوائر القرار في النيابة في ابحاث قد تستمر فترة طويلة تكون كافية لينهي فيها نتنياهو ولايته الحالية على الاقل بعد أكثر من عامين، وهذا الكلام قيل هنا قبل سبعة أشهر.

وللتأكيد على ما يجري في أروقة النيابة، نقرأ ما كتب الصحافي بن كسبيت في صحيفة "معاريف" عما يحظى به نتنياهو إذ قال إنه "في سنوات حكمه الست الاولى في الحكومة حظي بحصانة جنائية مطلقة. كان هنا مستشار قانوني للحكومة لم يسمح لأي أحد بفحص أي شيء حول المعلومات الكثيرة المتعلقة بنتنياهو وزوجته. الامور بدأت تتغير وببطء عندما تولى أفيحاي مندلبليت منصبه. وما زال نتنياهو يحظى بالكثير من التسهيلات على شكل "الفحص" الطويل من قبل الشرطة والتحقيق المعتدل والحذر".

نتنياهو في  دفيئة حاضنة

خلافا لما واجهه أولمرت في 2008، في حزبه وحكومته والشارع، فإن نتنياهو يحظى بدعم واسع جدا في صفوف حزبه، وإذا كان هناك معارضون فإنهم لا يجرؤون على فتح أفواههم، وهذا انعكس في مهرجان الدعم الصاخب، الذي أقامه الليكود قبل أقل من أسبوعين، لإظهار نتنياهو "ضحية وسائل الإعلام"، وبالتالي اتهام غير مباشر لجهات داخل الشرطة.

وهذا ما بتنا نلمسه في مقالات بدأت تنتشر بقوة في وسائل الإعلام الإسرائيلية، مثل ما كتبه حاييم مسغاف في صحيفة "معاريف"، إذ قال متهما الشرطة إن "التسريبات من غرف التحقيق في لاهف 433 هي ليس للمرة الاولى مغرضة، غير مصداقة ومتحيزة. وكنت أود على الاطلاق أن أعرف من هم أولئك الذين يسربون طوال الوقت لأصدقائهم في وسائل الاعلام. تبدو الظاهرة في نظري مقرفة ببساطة، وهي تشكك بكل هذه الوحدة التي يديرها من نجا من شكوى الضابطة على التحرش الجنسي. في هذه القصة بالمناسبة، لم تصدر بعد، بقدر ما أفهم، الكلمة الاخيرة".

وأضاف مسغاف "إلا أن السؤال هو لماذا لا يستوضح المستشار القانوني للحكومة والنائب العام للدولة هذا السلوك الحقير وبتقديري فإن أشخاصاً في النيابة العامة أيضا يشاركون فيه. وإلا لا يمكن أن نفهم كيف يعرف الصحافيون زعما، ما هو موقف هذا النائب العام أو ذاك".

وهذا ليس نابعا من قناعة بنزاهة نتنياهو، فدائرة الفساد تطال كثيرين في الليكود، وإنما هذا نابع من خوف على السفينة لئلا تغرق، والخوف على المصير الشخصي لكل الوزراء والنواب، في حال ثبت نتنياهو في الحكم بعد هذه العاصفة، إلى جانب حسابات اليمين المتطرف.

كذلك فإن نتنياهو يحظى بدعم شركائه في الحكومة، وأولهم كتلة تحالف أحزاب المستوطنين ("البيت اليهودي")، وهذا ما عبر عنه زعيم التحالف، وزير التعليم نفتالي بينيت، وكذلك زميلته وزيرة العدل أييليت شكيد. وهذا الحال يسري على باقي الشركاء، الذين منهم من هو متورط في قضايا فساد، مثل وزير الداخلية آرييه درعي.

وفي خلفية هذا الدعم حسابات حزبية، إذ ليست كل الأحزاب جاهزة ومعنية بانتخابات مبكرة، قد تخسر فيها قسطا من قوتها البرلمانية؛ لكن أيضا هناك حسابات كبيرة لدى اليمين الاستيطاني المتطرف، الذي يرى بهذه الحكومة الافضل له على مر عشرات السنين، بدءا من رئيسها، الذي لا يحتاج لضغوط عليه، بل هو الموجّه لسياسة الاستيطان، ودعم المشروع الاستيطاني، والسعي للقضاء على فرص اقامة دولة فلسطينية ذات سيادة.

مسألة الانتخابات المبكرة

من السابق لأوانه، في الظروف القائمة، رؤية نتنياهو يقدم استقالته من منصبه، وبالتالي حل الحكومة والتوجه إلى انتخابات مبكرة، فتحقيقات الشرطة، وطالما أنها ما تزال تستدعي أشخاصا للتحقيق، فهذا يعني أن توصياتها ستحتاج إلى أشهر. ومن ثم ستأتي محطة النيابة والمستشار القانوني للحكومة، الذي سيحتاج إلى أشهر، كأقل تعبير، وفي حال صادق نظريا على تقديم لوائح اتهام بهذا القدر أو ذاك، فهناك مسار خاص بمنتخبي الجمهور، عادة يحتاج إلى عدة أشهر أخرى، حتى يتم البت نهائيا في مسألة تقديم لوائح اتهام. ما يعني أننا نتحدث عن أكثر من عام، على أقل تقدير، وكل هذا في حال لم تظهر أمور جديدة، عما هو قائم حتى الآن.

في المقابل، قد يختار نتنياهو التوجه إلى انتخابات مبكرة على خلفيات أخرى، ولكن قد يكون دافعه الخلفي تأجيل التحقيقات ضده، ولكن هذه مغامرة قد تتحول إلى ضربة مرتدة، وقد يدفع فيها ثمنا يتمثل بقوة حزبه الليكود.
ويجب الأخذ بعين الاعتبار أنه في خريف 2018، ستكون وفق القانون انتخابات الحكم المحلي. وفي العام 1988 تزامن موعد هذه الانتخابات مع الموعد القانوني لانتخابات الكنيست، التي كانت آخر مرة تجري فيها بموعدها القانوني. وحينها قرر الكنيست تأجيل انتخابات الحكم المحلي لأربعة أشهر. ولا نرى أن بقوة الأحزاب اليوم أن تخوص انتخابات مزدوجة.

لذا من المحتمل أن يقرر نتنياهو إجراء انتخابات في ربيع العام المقبل، إذا لمس حاجة حزبية وشخصية له. ولكن في حال لمس تعزز مكانته، واستمرار تماسك الائتلاف القائم، قد يؤجل الأمر إلى بحر العام 2019، إذ أنه حسب الموعد القانوني تجري الانتخابات البرلمانية في خريف ذلك العام.

في المقابل، علينا أن نأخذ بعين الاعتبار باقي المركبات، وفي هذا السياق فإن الشريك الوحيد المعني بانتخابات مبكرة ستخدم قوته البرلمانية، هو تحالف أحزاب المستوطنين، ولكن إذا قرر الانسحاب من الحكومة، سيكون تحت مساءلة اليمين الاستيطاني: "لماذا؟"، و"ما الداعي لحل الحكومة الافضل؟"، وحينها سيدفع ثمنا هو أيضا في حال لم يكن ما يقنع ذلك اليمين بهذه الخطوة.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات