لدى محاولة استعراض وتلخيص ما أثارته الأزمة الجديدة في الحرم القدسي الشريف بأحداثها، تفاعلاتها وارتداداتها، من معالجات وتحليلات في الصحافة الإسرائيلية، يمكن الإشارة إلى ثلاث خلاصات مركزية شكلت ما يمكن وصفه بالإجماع شبه التام بين مختلف المعلقين والمراقبين والمحللين، هي: الأولى ـ إن قرار الحكومة الإسرائيلية ومجلسها الوزاري المقلص (للشؤون السياسية والأمنية) بنصب البوابات الإلكترونية في مداخل وبوابات الحرم القدسي الشريف اتخذ خلافاً لمواقف

وتوصيات وتحذيرات الجهات والأجهزة الأمنية المختصة، وخصوصا الجيش وجهاز الأمن العام (الشاباك)، لأنه انطلق من حسابات سياسية ـ حزبية ضيقة، على خلفية صراعات حزبية يمينية ـ يمينية، غلب عليها تفضيل المصلحة السياسية ـ الحزبية على "المصلحة الوطنية" العليا الإسرائيلية ومن خلال تجاوز الأنظمة والأصول المرعية في مناقشة مثل هذه القضايا والبتّ فيها؛ الثانية ـ إن القرار، بتبعاته الميدانية والسياسية، يعيد الوضع في مدينة القدس وقضيتها ومصيرها إلى موقع الصدارة ومركز الاهتمام، ليس محليا وإقليميا (عربيا وإسلاميا) فقط، بل ودوليا أيضا، بما يعني إعادة تدويلها من جديد؛ والثالثة ـ أن الادعاء الإسرائيلي بشأن "وحدة القدس" (بشطريها الغربي/ اليهودي والشرقي/ الفلسطيني) وبأنّ "جبل الهيكل (الحرم القدسي الشريف) بأيدينا" هو محض وهم ليس أنه لا يجد له أي سند في أرض الواقع فقط، بل تتوفر كل الأسباب والوقائع التي تثبت بطلانه وزيفه!

حسابات حزبية وانتخابية ضيقة

قرار نصب البوابات الإلكترونية، الذي سوّقته الحكومة الإسرائيلية بوصفه "إجراءً تكتيكياً فقط"، جاء بتوصية من وزير الأمن الداخلي (المسؤول عن جهاز الشرطة)، غلعاد إردان، والمفتش العام للشرطة، روني ألشيخ، من دون إجراء أي نقاش أو بحث جدي حول الموضوع في الهيئات القيادية العليا في جهاز الشرطة، وسرعان ما حظي بتأييد عدد من الوزراء، من بينهم وزراء من حزب "الليكود" (زئيف إلكين وميري ريغف، مثلا). لكنّ الأهمّ كان تأييد وزير التربية والتعليم، نفتالي بينيت، رئيس حزب "البيت اليهودي"، الذي يشكل الخصم الأقوى والأشدّ لحزب "الليكود" ورئيسه، رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، في المنافسة على أصوات الناخبين من الأوساط اليمينية في المجتمع الإسرائيلي، في داخل إسرائيل وبين المستوطنين في الضفة الغربية. وحيال هذا التأييد من جانب بينيت، رأى نتنياهو (الذي قال بعض المحللين إنه بدا، حتى تلك اللحظة، وكأنه تعلم الدرس من الأحداث التي أعقبت قرار حكومته، في ولايته الأولى عام 1996، بفتح نفق أرضي أسفل أساسات المسجد الأقصى، والتي أسفرت عن استشهاد عشرات الفلسطينيين ومقتل عدد من الجنود الإسرائيليين) أنه سيظهر بمظهر "الضعيف" و"غير الحازم" في "المعركة على القدس" وفي "مواجهة الفلسطينيين وسعيهم إلى فرض وقائع ميدانية تثبت سيطرتهم على القدس".

وذهب بعض المحللين إلى التأكيد على أن تزامن احتدام الصراع اليميني ـ اليميني على خلفية هذه "الحادثة العينية، المحلية الموضعية" (كما وصفها معلق "هآرتس" للشؤون الأمنية ـ العسكرية، عاموس هرئيل) مع استمرار واتساع التحقيقات الجنائية المتعددة والمتشعبة التي تعصف بنتنياهو وعدد كبير من مقربيه لتشكل خطرا جديا على سلطته ومستقبل كرسيّه، قصّر الطريق جدا على نتنياهو لـ "الوقوع في خطأ فادح، بل خطيئة محاولة تصدير أزماته، الشخصية والحزبية، ولو بثمن غير محسوب قوامه تفجير صراع ديني، ذي أبعاد إقليمية ودولية" (كما كتب المعلق السياسي في صحيفة "معاريف"، بن كسبيت). وهكذا "أصبح من الواضح، بنظرة إلى الوراء، أن القيادة السياسية الرسمية في إسرائيل لم تقدّر، بصورة كافية وصحيحة، الإسقاطات والتداعيات المحتملة لقرارها المتسرع بنصب البوابات الإلكترونية"، كما أشار هرئيل. أما أمير أورن، المعلق في "هآرتس"، فكتب: "بين الخوف من بينيت والتحقيقات الجنائية ولجان التحقيق (المحتملة لاحقا)، اختفت آثار القيادة القومية"!

القدس في المركز إقليميا ودوليا من جديد

علاوة على كل ما أثارته الأحداث الأخيرة في "الحرم القدسي الشريف" خاصة، وفي القدس عامة، من تحركات سياسية ودبلوماسية مكثفة على مستوى الدول العربية والإسلامية، وما استنهضته من حراك شعبي جماهيري في العديد من العواصم والمدن العربية والإسلامية والعالمية، أشار المحللون والمراقبون الإسرائيليون بشكل خاص إلى ما أعقبها من تصريحات وبيانات، بل خطوات فعلية، في عدد من العواصم الأوروبية والعالمية عامة، منبهين إلى أن هذه مجتمعةً تعيد الأوضاع في مدينة القدس، مكانتها ومستقبلها، إلى مركز الاهتمام الدولي، انطلاقاً من فهم خطورة ما تنطوي عليه من فتائل لانفجارات متكررة محتملة، مستقبلاً.

ولفت هؤلاء، في هذا السياق، إلى استعجال الإدارة الأميركية بإيفاد مندوب خاص عنها، هو جيسون غرينبلات، كان من المقرر أن يصل إلى إسرائيل أمس الاثنين لمناقشة حيثيات الأزمة الحالية وتطوراتها وسبل الخروج من مأزقها في محاولة للتوصل إلى حل يعيد الوضع إلى ما كان عليه قبل قرار الحكومة الإسرائيلية نصب البوابات الإلكترونية.

أفادت الأنباء بأن غرينبلات سيكون على اتصال دائم مع جاريد كوشنير، صهر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ومساعده الأقرب، الذي قالت شبكة "سي. إن. إن" الأميركية إنه "يجري منذ أيام اتصالات ومشاورات مع أطراف مختلفة بغية نزع فتيل الأزمة والتوصل إلى حل لها". لكن بعض المراقبين والمعلقين الإسرائيليون اعتبروا، في نغمة نقدية واضحة، أن "تدخل الإدارة الأميركية جاء متأخراً، إذ تذكّرت الآن فقط بذل جهد ما لتهدئة الأوضاع"، مشيرين إلى أن ترامب "غارق في مشكلاته الداخلية العويصة ويُبدي اطلاعا سطحيا وضئيلا جدا في كل ما يجري في منطقة الشرق الأوسط"، بينما نقل آخرون (مراسل "هآرتس" السياسي، باراك رفيد، مثلا) عن "مصدر رفيع في الإدارة الأميركية" قوله إن ترامب "يتابع عن كثب آخر التطورات في القدس والمنطقة" وإن "الإدارة الأميركية تجري اتصالات مكثفة مع الأطراف ذات العلاقة لمنع التصعيد وحل الأزمة، وذلك من منطلق التزامها بإيجاد حلول للقضايا الأمنية العالقة"!

وأضاف مراسل "هآرتس" أن "البيت الأبيض شديد القلق حيال التصعيد الحاصل في الأيام الأخيرة، لكنه فضل تركيز اتصالاته خلال الأسبوع الأخير في قنوات سرية وهادئة وعدم نشر أية بيانات رسمية". ونقل عن "مصدر مطلع" أن محادثة هاتفية جرت بين مسؤولين في البيت الأبيض ورئيس الحكومة الإسرائيلية، نتنياهو، خلال زيارة الأخير إلى هنغاريا نهاية الأسبوع الماضي، "لم يطلب خلالها المسؤولون الأميركيون إزالة البوابات الإلكترونية من مداخل الحرم القدسي ("جبل الهيكل")، بل ناقشوا الحاجة إلى ترتيبات أمنية هناك وكيفية تطبيقها بصورة ناجحة وناجعة"!

"جبل الهيكل بأيدينا" ـ هل حقاً؟

أعادت الهبة الفلسطينية الأخيرة في القدس، على خلفية وضع البوابات الإلكترونية في مداخل الحرم القدسي الشريف، إلى واجهة النقاش العام في إسرائيل مسألة قديمة ومتواصلة تتعلق بالادعاء الإسرائيلي الرسمي (والشعبي) المتمثل في شعارين مركزيين هما: شعار "القدس عاصمة إسرائيل الموحدة إلى الأبد"، بكلا شطريها الغربي (الإسرائيلي) والشرقي (الفلسطيني)؛ وشعار "جبل الهيكل (الحرم القدسي الشريف) بأيدينا"، وهو الشعار الذي أطلقه مردخاي غور، الذي تولى قيادة لواء الجيش الإسرائيلي الذي احتل مدينة القدس العربية إبان عدوان حزيران 1967. وقد أصبح هذا الشعار، الذي أطلقه غور بعيد الانتهاء من احتلال القدس العربية مباشرة، ورفع العلم الإسرائيلي على قبة الصخرة، أحد العلامات المميزة لتلك الحرب في الخطاب الإسرائيلي العام.

وقد أكد غير قليل من المعلقين والمحللين الإسرائيليين أن الأحداث الأخيرة في الحرم القدسي وفي القدس عموما تأتي لتثبت من جديد وهم هذين الشعارين، زيفهما وبطلانهما. واللافت أن هذه الخلاصة شكلت محط إجماع بين محللين ومعلقين محسوبين على كلا طرفيّ الخارطة السياسية الإسرائيلية، بيمينها و"يسارها"، وإنْ من منطلقات متباينة وبحجج مختلفة.

وبرز من بين هؤلاء اثنان، بشكل خاص، هما المعلق يسرائيل هرئيل، أحد قياديي المستوطنين في الضفة الغربية، مؤسس "معهد الاستراتيجيا الصهيونية" ورئيسه الأول، من جهة، والصحافي رفيف دروكر، المحلل السياسي في القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي.

فقد كتب هرئيل (في "هآرتس") مقالة تحت عنوان "جبل الهيكل بأيدينا" سخر فيه من هذا الشعار واستعرض "التضييقات" المفروضة على اليهود في "ممارسة حقهم في تأدية شعائرهم الدينية في أقدس مقدسات الشعب اليهودي"، متباكيا على أن "الجسم الذي يحرص كثيرا على حق العرب في المساواة وفي العبادة هو الذي يكرّس التمييز الفظ والمستفز ضد اليهود في جبل الهيكل، بينما تلوذ عشرات التنظيمات المدافعة عن حقوق الإنسان بالصمت المطبق"! وختم بالقول: "نعم مردخاي غور، جبل الهيكل بأيدينا حقاً"!

أما رفيف دروكر فكتب (في "هآرتس" أيضا) مقالة بعنوان "ليس بأيدينا" قال فيه إنه "إذا كان ثمة خير في الأزمة الحالية فهو أنها تقدم تعبيرا قاطعا عن معنى شعار "جبل الهيكل بأيدينا". وأضاف: "يدعي اليمين في إسرائيل بأنه إذا ما أزيلت البوابات الإلكترونية فسيشكل ذلك برهانا على أننا لسنا أسياد المكان. اليمين محق في هذا، فنحن لسنا أصحاب السيادة هناك حقاً. وقد آن الأوان لأن يعرف الجمهور الإسرائيلي كله هذه الحقيقة. آن الأوان لأن نسأل أنفسنا، بعد 50 سنة من تواجدنا هناك، والآن في ظل إحدى الحكومات الأكثر يمينية: إذا لم نكن قد امتلكنا السيادة هناك حتى الآن، فمتى سنفعل إذن؟؟ كم من الوقت يجب أن نواصل بعد التمسك بشعار "جبل الهيكل بأيدينا"، طالما أن معناه الحقيقي هو: حتى البوابات الإلكترونية التي نضعها هناك يمكنها أن تفجّر انتفاضة جديدة؟"!