المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

استكمالا لما سبق نشره هنا، حين حجب مراقب الدولة في إسرائيل فصلا هامًا من تقرير له تناول "الصندوق القومي الإسرائيلي" مطلع العام، يتناول هذا المقال التفاصيل التي سُمح بكشفها من الفصل المحجوب، والذي عُرض على موقع "المراقب" مؤخرًا تحت عنوان: "الإدارة المالية لنشاطات تطوير الصندوق القومي الأراضيَ التي تملكها الدولة". وهو يحذر ابتداء بسطوره الأولى من أن كلا من الدولة و"الصندوق" يدّعيان بأن ليس بحوزتهما معلومات موثوقة حول حجم مصاريف "الصندوق" مقابل تطوير أراض تملكها الدولة. ويأتي هذا في سياق صفقة أو مقايضة مستهجنة، إذ أن المؤسسة المسماة "الدولة" دفعت للمؤسسة المسماة "الصندوق القومي الإسرائيلي" مقابل "عمليات تطوير نفذتها الأخيرة لأراض تملكها الأولى، بعُملة الأرض"!.

 يكتب المراقب في مقدمته بأن هذا الفصل عمليا هو فصل مكمّل لما سبق نشره بتاريخ 18 كانون الثاني 2017، وهو يتضمن معلومات متعلقة بإدارة الحسابات المالية العالقة بين الدولة وبين "الصندوق"، وفقا لاتفاقيات بين الطرفين تعود أولاها للعام 1961 والثانية لثلاثة عقود لاحقًا..

خلال إعداد تقرير المراقب، قدم "الصندوق" في كانون الأول 2016 طلبًا للجنة الفرعية التابعة للجنة مراقبة الدولة في الكنيست بفرض السريّة على هذا القسم من التقرير، وفقا للبند 717 من قانون مراقب الدولة. لاحقًا، وبعد مرور شهور على اجتماعات تلك اللجنة الفرعية قررت بتاريخ 14 آذار 2017 نشر هذا الفصل.

يملك الصندوق القومي نحو 5ر2 مليون دونم والتي تشكل معا 12% من مساحة الأرض في دولة إسرائيل. وفقا لاتفاقية مبرمة بين الحكومة وبين الصندوق عام 1961 أقيم في "الصندوق" ما يسمى "مديرية تطوير الأراضي" وهي وفقًا لتعريفها "تعمل في مجال التطوير والتأهيل والتحريج لكل أراضي الدولة". ويفترض وفقا للاتفاقية أن يمول الصندوق ذلك "التطوير" من ميزانيته، وبعدها يتلقى مردودًا ماليًا من الدولة. ومع تراكم الديون وقّعت الدولة و"الصندوق" في العام 1991 اتفاقية جديدة، تتم بموجبها "إعادة الأموال من الدولة للصندوق مقابل تطوير أراضي الدولة"، بواسطة نقل أراض من حيازة الدولة إلى حيازة "الصندوق القومي الإسرائيلي".

فوضى عارمة في ممتلكات وعقارات "القومية"

بعد هذه الاتفاقية الجديدة حوّلت الدولة إلى الصندوق في الفترة ما بين بين أيلول 1991 ونيسان 1992 أراضي بمساحة 51 ألف دونم، وفي منطقة الجليل تحديدًا! وخلافًا لما ينص عليه "قانون أراضي إسرائيل" فإن وزارة المالية لم تتوجه إلى لجنة المالية البرلمانية لغرض تلقي تصريح يخوّلها تنفيذ نقل الأراضي المذكور. أي أن الحكومة تجاوزت البرلمان (والقانون) ونفذت سياستها بانفرادية لا يسمح بها القانون. وهنا يحذر مراقب الدولة من وجود أخطاء وإخفاقات وفشل من جهتي الدولة و"الصندوق"! فقد قدّر الأخير في آب 2014 أن الدولة مدينة له بمبلغ 5ر10 مليار شيكل.. ولكن الدولة أعلنت في نفس الوقت أنه ليست لديها أية معلومات موثوقة حول قيمة الأراضي التي حولتها إلى الصندوق (والتي ينوّه المراقب إلى أن قيمتها تقدر بمليارات الشواكل).

نتيجة لكل ذلك نشأ وضع عبثي تدعي فيه الدولة أنها لا تعرف إن كانت مدينة بأموال للصندوق، ويدّعي الصندوق العكس، وبين هذا وذاك مليارات الشواكل "ضائعة".

منذ توقيع الاتفاقية الأولى عام 1961 وحتى سنوات التسعينيات لم يتم إجراء "جرد حسابات" بين الدولة و"الصندوق"، مقابل مصاريف "الصندوق" لتمويل "اعمال التطوير" التي نفذتها "مديرية تطوير الأراضي" في أراض بحيازة الدولة. (ولذلك تم ابرام الاتفاقية الجديد المشار اليها عام 1991). لكن تبيّن أنه لم يكن هناك أي تمييز بين حسابات الصندوق المتعلق بتطوير الأراضي بحيازة الدولة وبين مصاريف الصندوق المتعلقة بتطوير "أراضيه" نفسه.

وهكذا، وسط هذه الفوضى (المفتعلة ربما، أو الناجمة عن التباس مرغوب فيه) والممتدة على مر السنوات الماضية منذ توقيع أولى الاتفاقيات، تم نقل نحو 50 ألف دونم من الدولة إلى الصندوق، ولكن من دون الحصول على أي تصريح متعلق بطرق تسديد الحسابات وقيمة الأراضي التي انتقلت "بجرّة قلم" من الدولة إلى "الصندوق". وهكذا نشأ عمليًا هامش رمادي بل قاتم واسع جدًا فيما يخص ليس نقل ملكية أو حيازة الأراضي فحسب، بل التلاعب بهذا الأمر. فكما ورد في التقرير: يكتنف عدم الوضوح قيمة الأراضي، وحجم الحسابات المتبادلة، والرقابة التي يفترض أن تكون في هذا المضمار (من السلطة التشريعية على تلك التنفيذية).

صورة العبث متمثلة في أن هناك نحو عشرة مليارات شيكل وأراض بعشرات ألوف الدونمات التي ليس واضحًا مَن الذي يجب أن يعوض الميزانيات الرسمية بقيمتها، مع الاشارة والتوضيح والتذكير بأنه وفقا لقانون دولة إسرائيل اليهودية – الديمقراطية فهذه الأموال هي أموال عامة، أموال مواطنين ومسحوبة من جيوبهم. لا بل إنه في الحالة الإسرائيلية خصوصًا التي تُعرّف فيها الارض على انها "بملكية القومية اليهودية" تسود فوضى عارمة فيما يتعلق بممتلكات وعقارات هذه القومية!

طريقة عجيبة لإدارة حسابات رسمية بين جهتين رسميتين

بين الحلول التي يقترحها مراقب الدولة: "وضع ملف بمعطيات دقيقة تحتوي على مبالغ الصفقات المختلفة التي تمت بين الدولة والصندوق فيما يخص الأراضي. ويجب على الدولة أن تفحص ما اذا كان يجب أصلا استخدام الأراضي كوسيلة أو عُملة دفع بشكل عام وبهذا المدى الواسع جدًا بشكل خاص. وفيما يتعلق بالحسابات بين الدولة والصندوق يجب الاخذ بالاعتبار مبلغ الصفقات التي تمت والتي نقلت الأراضي في اطارها إلى حيازة ذلك الصندوق".

ضمن الصراع والصدام بين الطرفين- يقول تقرير المراقب- زعم "الصندوق القومي الإسرائيلي" أن: "مقولة أن الدولة لا تعرف إن كانت هي المدينة للصندوق، أو أن الصندوق هو المدين للدولة هي مقولة مخطوءة بالمطلق. فلا يوجد أي شك بأن دولة إسرائيل هي المدينة للصندوق القومي وبمبالغ ضخمة تعَد بمليارات الشواكل". لكن المراقب يقول إن هذا الادعاء الذي يسوقه "الصندوق" يؤكد على "الادارة غير السليمة سواء للدولة أو للصندوق في هذه المسألة ويؤكد الحاجة في تنظيم الحسابات بينهما".

التقرير يتناول بشكل موسع مسألة الطريقة العجيبة لإدارة حسابات رسمية بين جهتين رسميتين وموضوعها المتجسد بأملاك عامة جرى التعامل معها وكأنها مزرعة خاصة، فلم يتم الحصول على أي اذن أو أي تخويل بنقلها واستخدامها وتحديد أو تقدير قيمتها الفعلية. فالتقرير يقول إن التقديرات المختلفة بشأن الدَين قيد البحث لا يستند إلى أية تسجيلات موثقة كتابيًا بل يقوم على تقسيم مجمل مصروفات "الصندوق القومي" على تطوير كل الأراضي منذ العام 1991 وحتى العام 2013. الصندوق ادعى أن المصاريف التي تتحدث عنها الدولة أقل من المصاريف التي تكلفها الصندوق بشكل حقيقي. لكن تقرير المراقب يقول بشكل واضح انه حتى تموز 2016 وهو موعد انتهاء الرقابة التي أجراها وبعد 25 سنة على توقيع الاتفاقية الثانية، لم تقم الدولة طيلة تلك الفترة بالتوجه إلى الصندوق ولو لتلقي معلومات حول المصاريف التي ستتكلفها مقابل تطوير أراضيها!. وعلى أثر الاخفاقات المذكورة لكل من الصندوق والدولة نشأ دين غير معروف الحجم ويقاس بالمليارات. وهو امر "ينظر اليه مكتب مراقب الدولة بخطورة كبيرة"، كما كتب.

تساؤلات ليست افتراضية تمامًا متعلقة بموقع الصفقات!

نقطة ثانية تثير العديد من علامات السؤال هي التالية: على الرغم من الإتفاقية المبرمة بين الدولة والصندوق عام 1991 والتي أقرت أن قيمة الأراضي المنقولة للصندوق يحددها المخمن الحكومي الرئيسي، أو مخمنو "مديرية أراضي إسرائيل"، فقد بين تقرير المراقب بأنه لم يتم العمل وفقا لهذه الاتفاقية.. لم يتم الاهتمام بأن يقوم المخمن الحكومي الرئيسي أو من يخوَّل من قبله بتحديد قيمة الأراضي التي نُقلت من الدولة إلى الصندوق القومي. من غير الواضح كيف يتفق الأمران، بين ما نص عليه الاتفاق وما تم العمل به، وإلى هذا يضاف موضوع وجوب الحصول على تصريح لجنة المالية البرلمانية قبل نقل أي أراضي إلى الصندوق (القانون واضح هنا ويقول إن نقل الأراضي يتم "اذا وفقط اذا تم تلقي تصريح").

دخل الطرفان جدالات حول هذا البند الفرعي وذاك البند الفرعي في هذه الاتفاقية أو تلك الاتفاقية لكن الصورة التي ظلت فارقة وقاتمة معًا هي أن هناك مساحة واسعة جدًا من عدم الوضوح، والتي ربما يقرأها قارئ نقدي لا يتسم بالثقة المفرطة في كل ما يتعلق بالإدارة الرسمية وشبه الرسمية لموضوع الأراضي في دولة إسرائيل، على ان هناك استخدامًا سياسيًا يجري لاتفاقيات متعلقة بالأراضي. وهو فعلا ما طرحه عدد من المراقبين وعدد من التحقيقات الصحافية. مثلا: هل تم نقل أرض من تلك المساحات المحيطة بقرى عربية، من ملكية الدولة إلى "الصندوق القومي" لمنع توسع القرى بذريعة أنه لا يمكن تحويل أراضي "الصندوق" لها لأنها خلافًا لأراضي الدولة العامة. هذا ليس اتهامًا افتراضيًا بل يرتبط بموقع الأراضي التي تم تحويلها من الدولة إلى "الصندوق" – الجليل! حيث اكبر تجمع للعرب الفلسطينيين في مناطق 48.

يُستدل من التقرير أن الـ 50 ألف دونم لم تكف ادارة "الصندوق". ففي رسالة في شباط 2003 طلب رئيس الصندوق في حينه من رئيس الحكومة آنذاك (وكان أريئيل شارون) أن تقوم الدولة بتحويل أراض اضافية إلى الصندوق، وقد سوّغ الصندوق هذا الطلب بأن مسألة الحسابات والمصاريف "يصعب حصرها". فماذا كان اقتراح الصندوق الذي لا يعرف حدودًا للجشع؟ لقد طلب ان يتم نقل 35 ألف دونم اضافي اليه، منوها إلى أن المنطقة الملائمة لهذا التحويل هي منطقة الجليل بالذات! ومن يعرف سياسة الأرض في إسرائيل سيدرك أن هذه "العين المفتوحة" و"الشهية المفتوحة" على الجليل دون غيره لا يمكن أن تكون عفويّة...

ما هو تفصيل الصفقات بين الطرفين؟ وأية مواقع استهدفت؟

بالمناسبة، لم يكن مستغربًا الجواب الذي قدمته وزارة العدل لمراقب الدولة في تشرين الثاني 2015 بشأن مدى ملاءمة وسيلة نقل أراض من الدولة إلى "الصندوق" لغرض تسديد حسابات عالقة ومتعلقة بتطوير الأراضي. فهذه الوزارة تقودها الوزيرة أييلت شاكيد من حزب الاستيطان الرئيسي "البيت اليهودي" ومن جهتها "إن ما ورد في مسودة التقرير بخصوص استخدام الأراضي كوسيلة دفع هو أمر مقبول علينا تماما خصوصًا في ضوء الأوامر القانونية وقرارات المحاكم بهذا الشأن على مدى سنين". ففي وزارة يقودها حزب يتفنن بابتداع كل الاساليب للسيطرة على اكثر ما يمكن من أرض يصبح هذا الرد بمثابة المتوقع الوحيد...

هذا الفصل الذي خرج إلى النور والنشر ما زال يحمل مجاهيل معادلة معقدة. ما هو تفصيل الصفقات بين الطرفين؟ أية مواقع استهدفت – نحن نعلم انها في الجليل – ولماذا؟ ما هي المعايير؟ وإلى أية درجة كانت درجة التنسيق بين الطرفين في تحديد المواقع التي استهدفتها الصفقات، ومن الذي تضرّر؟ هذا من نوع الملفات الذي لا يتكشف مرة واحدة، ويبدو أن هذه ليست آخر حلقاته. يجب انتظار نشر المناقصات المفصلة لتحديد المواقع التي "سخت" فيها الدولة بالأرض على الصندوق. وهذا أيضًا هو دور مؤسسات فلسطينية ذات صلة ودور سياسيين فلسطينيين في السلطة التشريعية الإسرائيلية..

المصطلحات المستخدمة:

مراقب الدولة, الكنيست, رئيس الحكومة

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات