اعتقلت أذرع الأمن الإسرائيلية، الجيش والشاباك والشرطة، في الأشهر الأولى من الهبة الشعبية الفلسطينية، التي اندلعت في مطلع تشرين الأول العام 2015، عددا كبيرا من الفلسطينيين، وجرى التحقيق معهم حول نشاطهم في مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة "فيسبوك". واتهمت سلطات الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 200 فلسطيني بـ"التحريض" عبر الشبكة.

 

ويصف محامو المعتقلين ظروف وتسلسل أحداث متشابهة للغالبية الساحقة من المعتقلين، الذين تطلق عليهم تسمية "معتقلي الفيسبوك"، لأنهم اعتقلوا بسبب منشور في موقع التواصل الاجتماعي هذا. وبلورت أذرع الأمن الإسرائيلية "ملامح" الفلسطيني الذي يمكن أن يقدم على تنفيذ عملية طعن أو دهس، مثل أن يكون من سكان منطقة الخليل وأن لديه قريبا شهيدا، بادعاء أن من شأن ملامح كهذه أن تمكن من تقدير مستوى التهديد الماثل من أفراد لتنفيذ عملية.

وبحسب معطيات نشرتها وزارة الخارجية الإسرائيلية، فإنه منذ نهاية أيلول العام 2015 قُتل 43 إسرائيليا وأصيب قرابة 682 آخرين في عمليات نفذها فلسطينيون في الضفة الغربية وإسرائيل. ووفقا لمعطيات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، فإنه خلال هذه الفترة استشهد 237 فلسطينيا، غالبيتهم فتية، بنيران القوات الإسرائيلية، وبينهم 167 استشهدوا خلال محاولتهم تنفيذ عملية، والآخرون استشهدوا خلال مداهمات الجيش الإسرائيلي ومظاهرات جرت عند الشريط الحدودي حول قطاع غزة. وأصيب خلال هذه الفترة 15 ألف فلسطيني.

وقال المدعي العسكري العام الإسرائيلي السابق في الضفة الغربية، موريس هيرش، لصحيفة "هآرتس" التي نشرت تقريرا حول "معتقلي الفيسبوك" يوم الجمعة الماضي، إنه منذ أيلول العام 2015، جرى نشر عشرات المنشورات في الشبكات الاجتماعية التي "دلّت على ما يبدو على نية كاتبها بتنفيذ عملية، انتهت باعتقالات إدارية". وأضاف أنه في حالات أخرى، جرى رصد أشخاص كمن يمكن أن ينفذوا عملية وحوكموا فعليا بارتكاب مخالفة "التحريض في الشبكات الاجتماعية".

ورغم الممارسات التعسفية لسلطات الاحتلال في هذه الناحية، إلا أن هيرش ادعى أن النيابة العسكرية الإسرائيلية "ملزمة باستنفاد الإجراءات الجنائية قبل أن تتوجه إلى الاعتقالات الإدارية، إذا أمكن ذلك". لكن النيابة العسكرية تستخدم هذا البند، "التحريض في الشبكات الاجتماعية"، حتى في حال وجود شبهات وحسب بأن "المتهم" هو منفذ عملية محتمل. وأشار هيرش إلى أنه في معظم الحالات التي تم فيها تقديم لوائح اتهام جنائية ضد فلسطينيين مشتبهين بأنهم منفذو عمليات محتملون، جرى استخدام بند "التحريض في الشبكات الاجتماعية".

وأكد الخبير في القانون الدولي والمحاضر في جامعة حيفا، الدكتور إيتمار مان، أن ممارسات سلطات الاحتلال هذه التي تجري في المحاكم العسكرية ليست عفوية. وقال إنه "في المستوى القانوني، يوجد فرق بين طبيعة الحقوق التي تمنحها إسرائيل داخل إسرائيل وبين طبيعة الحقوق التي تسمح بها في المناطق (المحتلة)، وبشكل خاص يوجد فرق في حدود حرية التعبير. وقوانين حقوق الإنسان لا تسري في المناطق ولذلك فإن حرية التعبير لا تحظى بالحماية في المحاكم العسكرية".

وفي ظل غياب حقوق الإنسان في الضفة الغربية والقدس الشرقية، طوّرت أذرع الأمن الإسرائيلية، في أعقاب اندلاع الهبة الشعبية الفلسطينية في تشرين الأول 2015، "جهاز إنذار مبكر" بهدف تقدير مستوى الخطر من أن يحاول أفراد فلسطينيون تنفيذ عملية. وعقد الناطق العسكري الإسرائيلي عدة لقاءات مع صحافيين، في تموز من العام الماضي، شرح خلالها ضابط استخبارات في قيادة الجبهة الوسطى للجيش الإسرائيلي عن "جهاز الإنذار المبكر".

وبحسب الجيش الإسرائيلي، فإنه خلال أقل من سنة، بعد اندلاع الهبة، اعتقل استنادا إلى هذا الجهاز قرابة 2200 فلسطيني "كانوا في مراحل مختلفة من نواياهم واستعداداتهم لتنفيذ عملية"، واعتقل الجيش والشاباك أكثر من 400 منهم، وجرى تسليم أجهزة الأمن الفلسطينية أسماء قرابة 400 آخرين، تم إجراء محادثات تحذير معهم.

وقال ضابط الاستخبارات في إيجاز للصحافيين إنه خلافا لنشطاء ينتمون إلى حماس أو الجهاد الإسلامي، فإنه "إذا وصل إلى بيت فتى قبل أسبوع من الهجوم، فإنه يكون ما يزال لا يعرف أنه مخرب". وأوضح هذا الضابط أنه بعد اندلاع الهبة الفلسطينية، وجه الجيش الإسرائيلي عشرات ضباط الاستخبارات من أجل تركيب ملامح مشتركة لفلسطينيين اعتبروا أنهم "منفذو عمليات محتملون". وفي البداية جرى تشكيل ثلاثة أو أربعة ملامح كهذه، استنادا إلى هوية منفذي العمليات في بداية الهبة، وشملت السن ومكان السكن وتحليلا لشخصياتهم ومميزاتهم، بموجب المعلومات التي كانت بحوزة الجيش، الذي استند إلى نشر في الشبكات الاجتماعية ومعلومات استخبارية من مصادر أخرى.

وقدرت أجهزة الأمن الإسرائيلية، استنادا إلى الملامح التي جرى تركيبها، أن معظم منفذي العمليات المحتملين هم شبان تقل أعمارهم عن 25 عاما، وأن قرابة 40% منهم يعانون من مصاعب في حياتهم الشخصية وقسم منهم يسعون على ما يبدو إلى الاستشهاد من خلال تنفيذ عملية. واعتبر الضباط الإسرائيليون أن المشاكل الشخصية، مثل توترات عائلية والزواج بالإكراه، هي دوافع قوية لتنفيذ عملية، خاصة بين النساء. ورصدت أجهزة الأمن الإسرائيلية عددا من القرى الفلسطينية في الضفة وبلدات في القدس على أنها أماكن سيخرج منها قرابة نصف منفذي العمليات المحتملين. وقال ضابط الاستخبارات إنه عُقدت "جلسات إدارة مخاطر" يومية تقريبا من أجل اتخاذ قرارات بشأن كيفية التعامل مع فلسطينيين تم رصدهم على أنهم "منفذو عمليات محتملون".

ترجمة خاطئة وتجريمية

كتب محلل الشؤون العربية في القناة الثانية للتلفزيون الإسرائيلي، ايهود يعري، في مجلة "The American Interest" الأميركية، في كانون الثاني الماضي، أن أذرع الأمن الإسرائيلية بذلت جهودا كبيرة من أجل اختراق تطبيقات الرسائل الخليوية من أجل توسيع عمليات جمع المعلومات. وقال ضابط الاستخبارات المذكور أعلاه إن "الأفراد يغيرون الطريقة التي يتواصلون فيها كل أسبوع ولذلك علينا أن نتوسع كثيرا في الطريقة التي نجمع المعطيات بواسطتها".

وأشار يعري إلى أن أذرع الأمن الإسرائيلية تعمل من أجل إزالة "مضامين تحرض على العنف" في الانترنت. وكتب أن مجمل العمليات التي تنفذها أذرع الأمن في هذا السياق شكلت تغييرا كبيرا في أساليب الشاباك، وفي أعقاب ذلك أصبح ثُلث العاملين في هذا الجهاز ينتمون إلى اللواء التكنولوجي. ووفقا للإيجاز الذي قدمه ضابط الاستخبارات للصحافيين، في تموز الماضي، فإن هذه الممارسات لا تطبق من أجل ملاحقة نشطاء اليمين المتطرف الإسرائيليين الذين ينفذون عمليات ضد الفلسطينيين.

وقدمت النيابة العسكرية الإسرائيلية 170 لائحة اتهام ضد فلسطينيين، منذ اندلاع الهبة الفلسطينية وحتى نهاية العام الماضي. وقبع معظم الشبان الفلسطينيين الذين اعتقلوا بشبهة "التحريض" عبر "فيسبوك" مدة 18 شهرا في السجن، وهناك 60 حالة أخرى، مرتبطة بالشبكات الاجتماعية، جرى تقديم لوائح اتهام فيها ضد فلسطينيين إلى محاكم مدنية إسرائيلية.

وبحسب مذكرة قدمها الشاباك إلى المحكمة العسكرية في سجن عوفر، في شباط 2016، فإن 70% من منفذي العمليات خلال الهبة الفلسطينية الذين لديهم حساب "فيسبوك"، استخدموا عبارات "غير مألوفة ومتطرفة". وبين المنشورات التي قُدمت إلى المحاكم العسكرية على أنها دليل على نية فتى في الـ17 من عمره من الخليل، ما كتبه في صفحته أن "وصيتي هي أنه إذا لم أعد فسألتقي معكم في الجنة"، أو منشورات ذُكر فيها المسجد الأقصى أو مقاومة الاحتلال.

لكن الباحث في اللغة العربية، الدكتور يونتان مندل، من معهد "فان لير" في القدس، رأى أنه "في حالات كثيرة تجري ترجمة تجريمية وغير موثوقة للسياق السياسي واللغوي لما كُتب. على سبيل المثال، الدعوة لانتفاضة بحسب المفهوم الإسرائيلي هي دعوة إلى العنف. لكن عندما يقولون بالعربية ’أدعو إلى انتفاضة’، فإن المعنى هو مقاومة العنف الموجه نحوهم، ولذلك فإنه يوجد هنا عمق أكبر. كذلك فإن الخروج بمظاهرة هو انتفاضة، والمقاومة غير العنيفة هي انتفاضة. وعلى غرار ذلك، عندما يستخدم الفلسطينيون كلمة ’شهيد’ فإنهم يقصدون مصطلح ’الضحية’. كما أن من يتوفى عند حاجز عسكري هو شهيد، والأولاد الذين يموتون جراء قصف هم شهداء".

إشكالية أجهزة توقع العمليات

قال تقرير صادر عن صندوق "بيرل كتسنلسون" الإسرائيلي إنه تم نشر 176 ألف دعوة إلى العنف عبر شبكات التواصل الاجتماعي، منذ حزيران 2015 وحتى أيار 2016، وأن نصف هذه المنشورات كانت بالعبرية والنصف الآخر بالعربية. لكن بين 594 ملف تحقيق فتحته الشرطة الإسرائيلية، بين أيلول 2015 ونهاية العام 2016، كان جميع المشتبهين عربا. وبحسب معطيات الشرطة الإسرائيلية فإن لوائح الاتهام التي قُدمت ضد عرب كانت ثلاثة أضعاف لوائح الاتهام التي قُدمت ضد مشتبهين يهود.

وتعمل في إسرائيل شركة "البعد الخامس"، التي تطور برامج الكترونية تقوم بمعالجة معلومات في الانترنت وتتوقع أن شخصا ما ينوي تنفيذ فعل ما، وتسوّق هذه البرامج لأجهزة الأمن في إسرائيل والعالم. وهناك شركة "بلانتير" الأميركية التي تعمل في هذا المجال أيضا ولديها مكاتب في تل أبيب. وجرى تعيين رئيس اركان الجيش الإسرائيلي السابق، بيني غانتس، رئيسا لمجلس إدارة شركة "البعد الخامس". كما جرى تعيين نائب رئيس الموساد السابق، رامي بن باراك، رئيسا لهذه الشركة.

وأقرّ وزير المواصلات ووزير شؤون الاستخبارات الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، بأن ثمة إمكانية أن قسما من الفلسطينيين، الذين اعتقلوا بعد وصفهم بمنفذي عمليات محتملين، لم يخططوا بشكل كامل تنفيذ عملية، وربما أيضا أنهم لم يقرروا تنفيذ عملية لدى اعتقالهم. واعتبر كاتس أن تراجع عدد العمليات التي ينفذها أفراد لا ينتمون إلى فصائل فلسطينية نابع من الممارسات التي استخدمتها أذرع الأمن الإسرائيلية.

استخدام منظومات تحذر من محاولة أفراد تنفيذ عمليات وقضاء عسكري هو مزيج يميز إسرائيل عن غيرها من دول العالم، رغم أن استخدام التكنولوجيا نفسها موجود، بل واتسع مؤخرا، في عدد من الدول. لكن أبحاثا أجرتها مؤسسة "راند" التي تمولها الحكومة الأميركية، وجدت أن منظومات الرصد هذه التي تستخدمها أجهزة شرطة لم تؤثر على مستوى أمن الجمهور. واستنتج الباحثون في أحد هذه الأبحاث أن صيغة سابقة استخدمتها شرطة شيكاغو لم تخفض حالات إطلاق النار في المدينة. وأشار بحث آخر إلى عدم وجود أدلة إحصائية على تراجع معدلات الجريمة بعد بدء استخدام هذه الأجهزة.

وأشارت منظمات حقوق إنسان وخبراء قانون إلى مخاطر محتملة مرتبطة باستخدام أجهزة التوقع الشرطية. وأول هذه المخاطر المس الواضح بالحق في الخصوصية. والأمر الثاني هو التخوف من أن أجهزة التوقع الشرطية ستؤدي إلى المبالغة في فرض القانون تجاه مجموعات ملاحقة. ولفت منتقدون لهذه الأساليب إلى أنه بغياب الشفافية حيال نشاط هذه الأجهزة، لن يكون بالإمكان رصد حجم الانحياز ضد المجموعات المستهدفة.

وأوضح المحامي في جمعية حقوق المواطن في إسرائيل، أوري سابَح، أن الإشكالية في استخدام أجهزة توقع عمليات تكمن في غياب الاشتباه المعقول من أجل الشروع في تحقيق. وأشار في الوقت نفسه إلى أنه بالإمكان بلورة ملامح ليهود نفذوا اعتداءات ضد العرب. "على ما يبدو أنه يعتمر قلنسوة، من سكان القدس أو البؤر الاستيطانية العشوائية في غوش عتصيون ومعجب بصفحات الظل (مغني راب يميني متطرف) وليهافا (منظمة يمينية متطرفة) في فيسبوك. وبالإمكان الدخول إلى صفحات فيسبوك لأشخاص ملائمين لملامح تتم بلورتها، والعثور على مشتبهين بارتكاب جرائم كراهية والبدء في تقديم لوائح اتهام جراء التحريض. وهذا يناقض ما نتوقعه من جهاز إنفاذ القانون. لكن من أجل الشروع في تحقيق نحن نبحث عن اشتباه معقول وعن اتهام".

وقال المحاضر في قسم الفلسفة في الجامعة العبرية في القدس، البروفسور موشيه هلبرطل، إنه "بموجب مبدأ البراءة، فإنه من الناحية الأخلاقية يُفضل عدم معاقبة أشخاص ارتكبوا جريمة على الخطأ وعدم معاقبة شخص بريء. وثمة سؤال هام ومرتبط بالمناطق (المحتلة) وهو ما إذا تُمنح الحماية المتوفرة للمواطنين للأشخاص الذين يعيشون تحت حكمنا في المناطق من الممارسات التعسفية المحتملة من جانب الحكم الذي يمس بحقوقهم؟ والمفهوم الماثل خلف فكرة قرينة البراءة هو رفض أية إمكانية لتجريم إحصائي".

وأوضح هلبرطل أن التجريم الإحصائي يعني "تراكما إحصائيا بأن الأشخاص الذين ينشرون منشورات كهذه في فيسبوك سينفذون عمليات وعلى هذا الأساس أقوم باعتقالهم احتياطيا. وهذا الأمر يفتح ثغرة رادعة جدا ودخولا إلى عوالم معرفة، إحصائية وديموغرافية بالأساس، ودخول الكثير من أشكال الاستخدام المشوه للمعرفة الاقتصادية – الاجتماعية – التكنولوجية إلى مصطلح التجريم. وأنت تلغي عمليا مكانة الموضوعية، والفردية تصبح ’عينة’ لمجموعته" السكانية.

المصطلحات المستخدمة:

هآرتس, الموساد, باراك, يسرائيل كاتس