المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تكمن قوة إسرائيل تحت قيادة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، في نظر نفسها، في اختلافها، في تميزها، في عزلتها وفي انغلاقها الدفاعيّ. وفوق هذا كله، تعتبر إسرائيل نفسَها الحقيقة الوحيدة في محيط مغلق وشرّير يمتاز بالكذب والتزوير، بالإنكار والعمى. غير أن مَن لا يسمع سوى "الكل" أو "لا شيء" يفقد صلته مع الحياة الحقيقية التي هي، في الواقع، "الحياة ذاتها".

 

هذه هي خلاصة التشخيص لحالة دولة إسرائيل الراهنة كما وضعه عيدان برير وأوري غولدبرغ، الباحثان الزميلان في "منتدى التفكير الإقليمي" التابع لمركز "مولاد - مركز لتجديد الديمقراطية" الإسرائيلي، ضمن مقالة مشتركة نشراها مؤخراً في موقع "محادثة محلية" (سيحاه ميكوميت) الإسرائيلي.

يضع برير وغولدبرغ تشخيصهما هذا، في مقالتهما المعنونة بـ"معزولون عن الواقع ـ الرواية الغريبة التي تحكيها إسرائيل لنفسها عن الشرق الأوسط"، استناداً إلى ما قاله رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، "في لحظة نادرة من التلقائية، الصراحة، الصدق والحماس"، كما يقولان، خلال الجلسة التي عقدتها لجنة الكنيست البرلمانية، قبل شهر تقريبا، وخصصتها للبحث في تقرير مراقب الدولة الإسرائيلية حول عدوان "الجرف الصامد" الإسرائيلي على قطاع غزة (8 تموز – 26 آب 2014).

خلال الجلسة المذكورة، توجهت عضو الكنيست زهافا غالئون، رئيسة حركة "ميرتس"، إلى نتنياهو وسألته عن "المستقبل الذي يعرضه على مواطني إسرائيل"، فحظي ردّ نتنياهو على هذا السؤال بنشر واسع جداً بين أنصاره ومؤيديه الذين تداولوا شريط التسجيل وشاركوه تحت عنوان "رئيس الحكومة يُخرِس غالئون"، فكان من الطبيعي أن يحظى بمعالجات إعلامية غير قليلة، أيضا.

ردّ نتنياهو على غالئون، والذي استمر ثلاث دقائق فحسب، جسّد، برأي برير وغولدبرغ، "أعمدة الأساس في رؤيته السياسية، الأمنية والاقتصادية"، وهو ما يجدر استخدامه لمحاولة فهم "منظور نتنياهو للواقع الإقليمي" وتبيان "التمييز الذي برز في كلامه بين الحقيقة والكذب"!

فقد قال نتنياهو، موجها حديثه لغالئون: "أقترح عليك الاعتراف بالواقع... كنت تريدين شرق أوسط جديداً؟ ها قد تحقق لك. إنه الإسلام الراديكالي المنتشر في كل حدب وصوب. أية منطقة تقومين بإخلائها، يملؤها الإسلام الراديكالي مباشرة.... المزيد من الأنفاق ومن الصواريخ... (تسألينني) هل حللتُ مشكلة حماس؟ (وأنا أقول) بدون الاحتلال التام، لا يمكن حل المشكلة.... ليست لديّ إمكانية لتطهير الشرق الأوسط من حولي من هذه الإيديولوجيات المتوحّشة، مثلما لا يمكن للأسف الشديد تطهير سورية أو العراق من إيديولوجية (تنظيم) داعش الوحشية، ومثلما أن ليس في إمكاننا الآن، للأسف أيضا، إحداث تغيير في الإيديولوجية الاستحواذية التي تعتنقها إيران".

بين داعش والقبائل

يؤمن رئيس الحكومة الإسرائيلية، إذن، بأنّ الإسلام الراديكالي يشكل قاعدة الشرق الأوسط العربي. ولذلك، فهو يعتقد ـ كما يقول كاتبا المقال ـ بأن هذا الإسلام الراديكالي "يعلو فوق السطح أو يتغلغل أكثر، كلما أتيحت له الفرصة لذلك". ولكن، إذا ما تركنا جانباً هذا "الربط المفتَعَل وعديم الأساس بين حماس وداعش"، كما يصفه الكاتبان، يبقى الأهمّ هو "الإيجاب الذي يؤكده النفي": ليست ثمة دول حقيقية في منطقة الشرق الأوسط. لا يمكن "تطهير" سورية والعراق أو تسليم الفلسطينيين مساحات من الأراضي، لأنّ الدولة السيادية في الشرق الأوسط ليست أكثر من غطاء. لا تتمتع بالحيوية، بالحضور وبالـ"حقيقية" التي يتمتع بها الإسلام الراديكالي.... ولأنّ الإسلام الراديكالي يمتاز بالاستحواذية وبغياب العقلانية، فليس من الممكن التحادث معه أو التوصل إلى أية تفاهمات معه... هذا مؤسف جدا، بالطبع، لكن " ليست لدينا إمكانية". إسرائيل هي دولة. وبما أن الدولة هي كيان واقعي وعقلاني تدرك الواقع على حقيقته، فهي تعتبر كل ما يقف حيالها بمثابة النقيض التام والمطلق.

تشكل أقوال رئيس الحكومة هذه، في نظر برير ولولدبرغ، "أحد وجهيّ العملة فقط". أما الوجه الآخر، فهو الذي يراه الكاتبان "من خلال عملنا في دراسة الشرق الأوسط". ويفسّران بالقول إنهما حينما يكتبان عن التعقيدات في هذه المنطقة وعن زيف وكذب الشعارات التي تتردد باستمرار، مثل "العرب هم نفس العرب" وغيره، كثيرا ما يصطدمان بصيغ مختلفة للفكرة التالية: "ليست هناك دول في الشرق الأوسط، حقا، ولا قوميات. ثمة فقط قبائل، أقليات إثنية، عائلات موسعة وهويات محلية عتيقة جداً. وأية محاولة لمحاورة هذا الواقع تكون محكومة بالفشل مسبقا، لأنه من غير الممكن إجراء مفاوضات مستقرة، جدية ونافذة مع تعدد رهيب كهذا. إنهم يفعلون ما يحلو لهم وما هو جيد لهم، متى يحلو لهم، بينما الدولة التي تريد البقاء والحياة لا يمكنها الاعتماد على تصرفات طفولية وبدائية إلى هذا الحدّ".

أحد الأمثلة الأنصع على هذا الادعاء هو، بالتأكيد، "كم نحن محظوظون بأننا لم نوقع على اتفاقية سلام مع الأسد الأب ولم نقم بإعادة الجولان". وهو ادعاء يوافق عليه ويتبناه كثيرون ممن يبدون فهماً للواقع المعقد في هذه المنطقة واهتماما به. ذلك أن "الإيمان" بأنه ليست هناك دول حقيقية في الشرق الأوسط هو "أقوى من الجميع"! فكرة التهديد الذي يحيط بإسرائيل من جميع الجهات تكرست وتجذرت في الرأي العام الإسرائيلي: الإسلام الراديكالي المنتشر في العالم كله، من الجهة الأولى. ومن الجهة الثانية: العربي، أو المسلم، الفرد الذي يرفض، بطبيعته وجوهره، أية فرصة لحد أدنى من الاستقرار. ولو كانت هنا ثمة دول حقيقية، أي كيانات عقلانية، يمكن التوصل معها إلى تفاهمات والعيش بأمن في جوارها، لكان من المحتمل ربما. لكن، ليست ثمة كهذه فعلاً... وانتهى الأمر.

الحياة نفسها

يعاني الجمهور الإسرائيلي، ليس بإرادته تماما، من العمى أيضا حيال حقيقة أخرى مؤداها أن هذه النظرة المنغلقة تعني، أيضا، أن العقلانية هي رديف التقدم، الديمقراطية، وباختصار: الإنسانية. وبكلمات أخرى: كل ما هو نحن وكل ما هو ليس "الحيّ" المحيط بنا. لكن، إذا كانت العقلانية تعبيرا عن الإنسانية، فإن انتفاء العقلانية يعني انتفاء الإنسانية أيضا. ونزع عقلانية الحيز الذي نعيش وسطه يعني نزع إنسانيته. هكذا تعرّف الجماعة الإسرائيلية ـ اليهودية نفسها وتضع نفسها في مقام علويّ مقابل الهمج المتنقلين الذين يملؤون الشرق الأوسط. هؤلاء هم أبناء القبائل و/ أو المتطرفون المسلمون، لكن ليسوا في حال من الأحوال أعضاء من جماعات ذات أهمية بالنسبة لهم، عديمو الوجود الإنساني المستقل والعقلاني الذي يمكن أن يبقي لديهم ولو القليل من القدرة على تحكيم الرأي الإنساني، البسيط والبراغماتي.

لكن الحقيقة، كما يضيف برير وغولدبرغ، معقدة ومتشكلة باستمرار. فثمة في الشرق الأوسط دول حقيقية. وثمة فيه، أيضا، قيادات سياسية عقلانية تفتش عن طريقها الأفضل، بإصرار وحساسية، مثلنا بالضبط تماما، في واقع ضبابي ومتغير، لكنها لا تنجح في ذلك دائما. وقد تكون عقلانيتها مختلفة، اختلافا جوهريا، عن "عقلانيتنا" نحن. هكذا في العراق، في تونس، في مصر، في الإمارات العربية المتحدة، في تركيا وحتى في إيران. في إسرائيل المعاصرة، تخلينا عن قدرتنا على احترام كيانات الآخرين ووجهات نظرهم وبقينا متشبثين، مثل العميان في العتمة، بحالات من الإخفاق كأنها تمثل كل شيء. حقائقنا ـ وهي فقط ـ مطلقة، مثل الثكل تماما، ثكلنا نحن. أما الحقائق الأخرى، والمنافسة أحيانا، فهي ليست حقائق على الإطلاق.

والخلاصة التي يخلص إليها برير وغولدبرغ هي: "طبقا للرواية الإسرائيلية، ليست في الشرق الأوسط دول حقيقية، وإنما قبائل أو منظمات إسلامية متطرفة فقط، لا يمكن التفاهم والاتفاق معها لأنها غير عقلانية. وبناء عليه، فقد حُكم علينا أن نعيش في حالة انغلاق دفاعيّ، استثنائيين ومعزولين تماما" عن الحياة نفسها!

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات