في شهر كانون الأول الماضي (2016)، احتشد ذات مساء شتوي في "بيت صهيونيي أميركا" في تل أبيب، جمع مُرتَبِك من الرجال الملتحين المعتمرين للقبعات الدينية، ومن النساء اللاتي يغطين رؤوسهن، إحتفاء بمناسبة "اليوم العالمي لحقوق الإنسان". وفوق المنصة وضعت يافطة الكترونية ضخمة بإسم منظمة "إم ترتسو" ("إذا شئتم") اليمينية المتطرفة، تعلن افتتاح حفل مَنح "الجائزة الصهيونية لحقوق الإنسان"، والذي تُقِيمه المنظمة للسنة الرابعة على التوالي تحت شعار "دمج أبناء الأقليات في المجتمع الإسرائيلي".

عريفة الحفل سألت أفراد الطاقم المقلص الذي جلس على المنصة عن الأسباب والدوافع التي حَدَت بهم للعمل من أجل حقوق الإنسان. جميع المتحدثين- وهم مصابة في "عملية عدائية"، ومُرَكِز حركة تشجع انخراط المواطنين البدو في الخدمة العسكرية، ومتحدثٌ بإسم منتدى تجنيد أبناء الطائفة المسيحية في الجيش الإسرائيلي- ربطوا بصورة وثيقة بين العمل من أجل حقوق الإنسان وبين الخدمة العسكرية في صفوف الجيش الإسرائيلي وتجندهم من أجل دولة إسرائيل.

وأفزعت كاي ويلسون، التي أُصيبت في عملية طعن في القدس قُتِلت فيها صديقة لها، الحضور بأوصاف فظيعة للصور والمشاهد التي تراودها منذ ذلك الحادث. وجونتان الخوري، وهو نجل أحد أفراد "جيش لبنان الجنوبي" ويقيم في مدينة حيفا، تحدث كيف دفعته الرغبة في الانخراط في صفوف الجيش الإسرائيلي وعمله إلى جانب الأب جبرائيل نداف، نحو العمل والتجند في خدمة دولة إسرائيل، التي قال إنها دولة ريادية في مجال حقوق الإنسان في الشرق الأوسط.

وتابع المتحدثون واحدا تلو الآخر، وسط هتافات التشجيع من جمهور الحضور، التأكيد على أن الصهيونية ليست مصدرا لانتهاك حقوق الإنسان، وإنما هي التي تصنع مثل هذه الحقوق.


وقد تفاخر أعضاء منظمة " إم ترتسو" خلال ذلك المساء بأن نشطاء حقوق الإنسان العرب الذين شاركوا في الاحتفال، يتبنون وجهة النظر الصهيونية.

وأوضح أحد قادة هذه المنظمة اليمينية وهو مديرها العام متان بيلغ، في مقابلة هاتفية أدلى بها لملحق صحيفة "هآرتس"، أن "الفكرة الصهيونية أنجبت الدولة اليهودية – الديمقراطية، وهي فكرة توفر واقعيا حقوقا إنسانية جمة". وأضاف أن منظمته تَمنح جائزة حقوق الإنسان في سبيل كرامة وكبرياء المجتمع الإسرائيلي، والذي يساهم وجوده فعليا في دفع حقوق الإنسان في الحيز الشرق أوسطي، مشيرا في الوقت ذاته إلى أن حركته تسعى إلى تشجيع نُشطاء المجتمع العربي (في إسرائيل) الذين يؤيدون ويدعون للانخراط في صفوف الجيش الإسرائيلي ومؤسسات الدولة. وقال إن "الصهيونية ليست حركة حقوقية، ولكن مما لا شك فيه أن الصهيونية أوجدت المنظومة السياسية التي تصنع حقوقا إنسانية أكثر من أية دولة أُخرى في الشرق الأوسط". وأضاف "إذا كنت تدافع عن الهوية اليهودية لإسرائيل، فأنت تحافظ وتحمي عمليا المزود الإقليمي لحقوق الإنسان في المنطقة ... نحن نُذَكِر هنا المجتمع الإسرائيلي بحقيقة أن المشروع الصهيوني هو مشروع إنساني بامتياز"!.

"إم ترتسو" ليست وحيدة بتبني خطاب حقوق الإنسان!

ليست منظمة "إم ترتسو" هي المنظمة اليمينية الوحيدة التي تَبَنت خطاب حقوق الإنسان في الآونة الأخيرة. فقد ظهرت المؤشرات الأولى على هذه الظاهرة في مطلع الألفية الثانية، وذلك في صفوف نُشطاء سياسيين وأعضاء كنيست من أحزاب اليمين الإسرائيلي. ونال هذا الخطاب دفعة إلى الأمام في العام 2005، في أعقاب إخلاء قرابة 8000 مستوطن يهودي من قطاع غزة في نطاق تنفيذ خطة الانفصال أحادية الجانب، إذ أخذت منظمات يمينية تلجأ للإدعاء القائل إن إخلاء المستوطنين اليهود من بيوتهم بالقوة يُعتَبر مخالفا لخطاب حقوق الإنسان.

في السنوات الأخيرة استخدم معارضو حل الدولتين خطاب حقوق الإنسان ضد إخلاء مستوطنين يهود من منطقة محددة كي تقام عليها دولة فلسطينية متجانسة سكانيا. وقد وجد هذا الادعاء، المستند على خطاب حقوق الإنسان، تعبيرا له حين وصف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إمكانية إخلاء مستوطنين يهود من الأراضي الفلسطينية بأنها بمثابة "تطهير عرقي". ووفقا لنتنياهو فإن مصدر هذا الادعاء يعود لوثيقة دعائية أصدرتها منظمة مؤيدة لإسرائيل، "The Israeli Project"، والتي تستخدم، من بين أشياء أُخرى، تشبيهات من عالم حقوق الإنسان من أجل خدمة الدعاية الإسرائيلية. ومما وَرَدَ في الوثيقة أن "الفكرة القائلة بأنه لا يمكن لليهود العيش في أي مكان يعيش فيه فلسطينيون، وأن هناك مناطق معينة يجب أن تكون نقية من اليهود، هي فكرة عنصرية". ويستند مُعِدو الوثيقة أيضا، ومن ضمنهم شخصيات متماثلة مع اليمين الأميركي، إلى نفس الادعاء القائل بأن الصهيونية تشكل مصدرا لإشاعة حقوق الإنسان.

من جهته، وسع عضو الكنيست اليميني السابق موشيه فيغلين، استخدام خطاب حقوق الإنسان من الخاص/ الفرد، إلى العام/ الجماعي، فقد أيد فيغلين (المنشق عن حزب الليكود) في إطار الحزب الجديد الذي أقامه (حزب "هوية ") الحق في الحرية وتقرير المصير كمسوغ مركزي لتطلعه ورغبته في تعزيز الهوية اليهودية لدولة إسرائيل.

ويعمل عضو الكنيست يهودا غليك (الليكود) بصورة مشابهة، مستخدما مرارا وتكرارا خطاب حقوق الإنسان لتبرير دعواته المؤيدة لدخول وصلاة اليهود في الحرم القدسي الشريف. ويؤكد غليك في نشاطه العام على حق وحرية العبادة للمصلين اليهود فيما يسميه "جبل الهيكل". ويُشار إلى أن الحاخام غليك أسس قبل عدة سنوات من انضمامه لحزب الليكود، صندوقا خاصا لتعزيز ما أسماه بـ "تراث جبل الهيكل"، وأقام في وقت لاحق أيضا منظمة لـ "حقوق الإنسان في جبل الهيكل"، والتي تعمل من أجل إلغاء القيود المفروضة على دخول وصلاة اليهود داخل المسجد الأقصى بموجب اتفاق وقع بين إسرائيل والأردن في العام 1994.


وتلجأ المنظمات اليمينية في الكثير من الأحيان على هذا الصعيد، إلى استخدام لغة قانونية مشابهة للغة التي تستخدمها المنظمات الحقوقية اليسارية في إسرائيل. وعلى سبيل المثال فإن التقارير التي تصدرها منظمة "رغافيم" اليمينية، تستخدم خطابا مشابها للخطاب المستخدم في تقارير منظمتي "يش دين- يوجد قانون" و"بتسيلم" اليساريتين ضد الاستيطان والمستوطنين في مناطق الضفة الغربية. ويقول يارون روزنطال، وهو مستوطن وناشط يميني حصل على "جائزة حقوق الإنسان" التي تمنحها منظمة "إم ترتسو"، إن حقيقة لجوء المزيد من المجموعات والمنظمات اليمينية لاستخدام خطاب حقوق الإنسان يمكن أن تؤدي إلى تغيير نظرة اليمين إلى العلاقات بين إسرائيل والفلسطينيين. وأضاف روزنطال أنه يعتقد أن إسرائيل تقف على أعتاب ثورة في كل ما يتعلق بحقوق الإنسان، وقال "إن الحفاظ على حقوق الإنسان يُعتَبر فريضة أخلاقية من شأن تطبيقنا لها أن يساهم أيضا في تحسين الوضع الأمني وزيادة فرصنا في البقاء في وطننا إلى الأبد، وربما يساهم أيضا في تحقيق السلام".

وكان روزنطال، الذي يشغل منصب مدير "المدرسة الميدانية - كفار عتصيون"، قد استضاف في مدرسته، الواقعة في مستوطنة "غوش عتصيون"، مؤتمرا لمنظمة يمينية لحقوق الإنسان تعمل برعاية "معهد الاستراتيجيا الصهيونية"، وتسعى إلى الدمج بين حقوق السكان الفلسطينيين الإنسانية وبين تعزيز إسرائيل كـ"مجتمع عادل وقيمي".

وتلجأ المنظمات اليمينية الإسرائيلية في الكثير من الأحيان أيضا إلى إستخدام خطاب حقوق الإنسان من أجل تبرير وشرعنة الاحتلال العسكري الإسرائيلي في الضفة الغربية. ويشار في هذا السياق إلى أن ظاهرة لجوء المنظمات والمجموعات السياسية اليمينية لخطاب حقوق الإنسان، لا تقتصر على إسرائيل فقط، فقد انتشرت فيما مضى في المستعمرات السابقة في أفريقيا ودول أوروبا، ولدى منظمات محافظة في الولايات المتحدة الأميركية. ويتمثل جزء من هذه الظاهرة في استخدام المنظمات والحركات اليمينية لحرية التعبير من أجل ترويج آراء ووجهات نظرعنصرية. وقد تطور مستوى آخر لهذه الظاهرة في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي في أعقاب صعود ما يسمى بـ"سياسة الهويات". إذ شرعت منظمات ليبرالية في تلك الفترة بالعمل من أجل حقوق المثليين جنسيا، في حين عارضت منظمات محافظة ذلك لإعتبارات تتعلق بـ "حقوق العائلة". وعلى سبيل المثال فقد تَبَنت منظمات يمينية في الولايات المتحدة وأوروبا خطاب حقوق الإنسان من أجل مكافحة الهجرة الأجنبية والحد منها، ومن أجل حماية الثقافة المحلية. كذلك استخدم أفراد المجتمعات الدينية اليهودية في أوروبا الحق في حرية الدين من أجل تبريرأنماط حياتهم الخاصة.

تعاون مع منظمات المحافظين الجدد في أميركا

في السنوات الأخيرة أخذت تظهر أشكال من التعاون بين منظمات يمينية في إسرائيل ومنظمات المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأميركية، التي تستخدم خطاب حقوق الإنسان. ويستعين هذا التعاون بأثرياء وأصحاب رؤوس أموال من أعضاء ومؤيدي الحزب الجمهوري، الذين صَدَّروا هذا الخطاب إلى إسرائيل عن طريق تمويل مراكز أكاديمية ومنظمات يمينية مدنية.

ويقول يوعز هندل، رئيس "معهد الاستراتيجيا الصهيونية"، وهو أحد مستوردي هذا الخطاب (يترأس منظمة يمينية لحقوق الإنسان كان قد أسسها قبل ثلاث سنوات) إنه أدرك للمرّة الأولى مدى أهمية هذا الموضوع المتعلق بخطاب حقوق الإنسان، بعد خروجه من لقاء جمعه مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في مكتب الأخير. وأوضح هندل أن أحد الأهداف التي تسعى لها منظمته يتمثل في "توطيد حق إسرائيل كدولة قومية يهودية ليبرالية وديمقراطية". وأضاف "وبما أنني أؤمن بحقنا في هذا البلد، فإن لديَّ أيضا واجبا أخلاقيا تجاه من يقطن فيه.."، غير أنه استدرك قائلا "لكنني لم أنشأ في أحضان مارتن لوثر كينغ، لقد نشأت وتربيت على قِيَم ما هو نافع وجيد لدولة إسرائيل الصهيونية".

إن هندل ليس اليميني الوحيد الذي يواجه صعوبة في تقديم إجابة شافية للمبدأ العالمي الماثل في أساس خطاب حقوق الإنسان، فهناك تيارات مختلفة في صفوف اليمين الإسرائيلي تسعى إلى طرح بديل لهذا الخطاب، يرتكز إلى عالم التراث والتقاليد والثقافة اليهودية، وإيجاد صيغة الموائمة والانسجام مع العالم الليبرالي في هذا المجال.

ويتهم هندل المنظمات الحقوقية المتماثلة مع اليسار الإسرائيلي بالمساهمة في انحسار وتراجع شرعية حقوق الإنسان في المجتمع الإسرائيلي، ويقول إن قلائل فقط يذكرون أن مناحيم بيغن كان محاربا عظيما من أجل حقوق الإنسان، وبأنه كافح من أجل ضمان الحقوق الأساسية للمواطنين العرب في إسرائيل. وتتهم أوساط اليمين الإسرائيلي عادة المنظمات الحقوقية اليسارية بأن نشاطاتها تتسم بالانتقائية في هذا المجال.

عموما، يمكن القول إنه وعلى الرغم من أن دخول المنظمات اليمينية في إسرائيل إلى حقل خطاب حقوق الإنسان يُعتَبر بمثابة محاولة جادة لخلق عملية تذويت لمبادئ جديدة، إلا أن ثمة من يدعي أن هذه المحاولات ستبوء بالفشل.

وفي هذا السياق، يقول البروفسور آفي ساجي، وهو بروفسور وباحث معروف للشؤون اليهودية في جامعة بار إيلان، إنه وعلى الرغم من أن النشاطات التي تقوم بها هذه المنظمات في صفوف المعسكر اليميني، فإنه لم يطرأ أي تغيير جوهري في نظرة المجتمع اليهودي المحافظ لحقوق الإنسان. وأضاف أن الأمر يتوقف على ما يقصدونه حين يتحدثون عن حقوق الإنسان، مشيرا إلى أن الرؤية العالمية القائلة بأن الإنسان أياً كان، وبمعزل عن انتمائه السياسي، هو فرد له حقوق، ليست سائدة في صفوف التيار المركزي، سواء لدى معسكر اليمين، أو المعسكر الصهيوني – الديني في إسرائيل.
__________________________
(*) ترجمة خاصة بتصرّف عن الملحق الأسبوعي لصحيفة "هآرتس".