تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
طباعة
1222

تصاعد مؤخرا التوتر بين جمهور الحريديم (اليهود المتزمتين دينيا) والجيش الإسرائيلي، وانعكس هذا التوتر على الحلبة السياسية، وذلك في أعقاب تعديل قانون التجنيد الإلزامي، خلال ولاية حكومة بنيامين نتنياهو السابقة، التي استبعدت الأحزاب الحريدية من المشاركة فيها. وأصبح الشبان الحريديم، بموجب هذا التعديل القانوني، ملزمين بالخدمة العسكرية، بعد أن كانوا معفيين من هذه الخدمة بموجب نظام "توراته حرفته"، الذي مكنهم من الدراسة في الييشيفاه (المعهد الديني) والاعتكاف على دراسة التوراة والتعاليم الدينية اليهودية.

وتراجع هذا التوتر في أعقاب تشكيل حكومة نتنياهو الحالية بمشاركة الأحزاب الحريدية. فقد جرى التوصل إلى تسوية بشأن تجنيد الحريديم تتمثل بأن يتوجه الشاب الحريدي إلى مكتب التجنيد، مرة في السنة، من أجل تمديد فترة إعفائه من الخدمة العسكرية لمدة سنة وبعدها يتوجه مرة أخرى إلى مكتب التجنيد لتمديد الإعفاء لسنة أخرى وهكذا دواليك، في مقابل استمرار دراسته في الييشيفاه.

لكن على خلفية صراع داخلي على قيادة الحريديم الليتوانيين الأشكناز، أوعز الزعيم الروحي لمجموعة تعرف باسم "الجناح الأورشاليمي" (المقدسي)، الحاخام شموئيل أويرباخ، لشبان مجموعته بألا يمتثلوا في مكاتب التجنيد كي يوقعوا على وثائق إعفائهم من الخدمة العسكرية. وبعد اعتقال الشرطة الإسرائيلية لشاب حريدي من هذه المجموعة، أثناء مظاهرة للحريديم احتجاجا على "تدنيس" حرمة يوم السبت، في بداية الشهر الماضي، تبين أن هذا الشاب "فار من الخدمة العسكرية" لأنه لم يوقع على نماذج إعفائه من الخدمة.

ومنذئذ يشهد المجتمع الحريدي احتجاجات ضد تجنيد الحريديم للجيش الإسرائيلي. ونُظمت مظاهرات وجرت مواجهات بين الشرطة والحريديم، الذين أغلقوا شوارع رئيسة في القدس الغربية ومدن بني براك وبيت شيمش وأشدود (أسدود) وإلعاد ومستوطنة "موديعين". وعملت الشرطة على تفريق هذه المظاهرات مستعينة بقوات كبيرة وخيالة ورشاشات المياه. واعتقل خلال هذه المظاهرات عشرات الحريديم. وفي إطار هذه الاحتجاجات أيضا، اعتقلت الشرطة ما يزيد عن 100 حريدي، يوم الجمعة الماضي، بعد أن حاولوا تشويش سباق الجري في القدس. وكان هؤلاء الحريديم يلقون بأجسادهم أمام العدائين.

كذلك انتشرت مؤخرا ظاهرة مهاجمة حريديم لجنود حريديم والاعتداء عليهم بالضرب بسبب التحاقهم بالخدمة العسكرية. وتكررت في الأعوام القليلة الماضية التقارير الصحافية التي قال فيها جنود حريديم إنهم يضطرون إلى خلع بزتهم العسكرية قبل دخولهم إلى أحيائهم كي لا يتعرضوا للضرب. وفي عيد المساخر (بوريم) الأخير، الذي صادف مطلع الأسبوع الماضي، علقت "مشانق" لدمى ترتدي ملابس جنود إسرائيليين، في بعض أحياء الحريديم.

ووفقا لمحللين ومتخصصين بشؤون الحريديم، فإن هذه المظاهرات هدفها إحراج التيارات المركزية في المجتمع الحريدي، التي تعارض هذه الاحتجاجات، وأن يظهر الحاخام أويرباخ كمعارضة "مقاتلة" للتيار الحريدي الليتواني وهو أكبر طائفة حريدية أشكنازية في إسرائيل.

فبعد وفاة زعيم الحريديم الليتوانيين، الحاخام يوسف شالوم إلياشيف، في العام 2012، رفض الحاخام أويرباخ (85 عاما) قبول زعامة الحاخام أهرون لايف شطاينمان (103 أعوام)، الذي خلف إلياشيف في زعامة التيار الليتواني المركزي. ويشار إلى أن حالة شطاينمان الصحية تدهورت مؤخرا وهو يحتضر حاليا.
والخلاف بين شطاينمان وأويرباخ يمزق المجتمع الحريدي حتى اليوم، ويتم التعبير عن ذلك من خلال النظرة إلى الجيش الإسرائيلي وتجنيد الحريديم. ويتهم أويرباخ وأتباعه القيادة الروحية للحريديم الليتوانيين وكذلك أعضاء الكنيست من كتلة "يهدوت هتوراة" بأنهم يصمتون حيال الجهود التي تبذلها المؤسسة الإسرائيلية من أجل تجنيد طلاب الييشيفوت.

الحريديم - القوميون والتجنيد

لم يدخل تيار الحريديم – القوميين، الذي يعرف باسم "الحردليم"، في نظام إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية. وإنما يتجه الشاب في هذا التيار إلى ييشيفاه لمدة سنة، أو أكثر، يدرس فيها التوراة والتعاليم الدينية اليهودية، وتكون فترة الدراسة هذه بمثابة سنة تحضيرية للخدمة العسكرية، إلى جانب العلمانيين وفي مؤسسة علمانية. ويلتحق "الحردليم" بالخدمة العسكرية بعد إنهاء دراستهم في الييشيفاه.

لكن حاخامي "الحردليم" يعارضون تجنيد الشابات المتدينات.

وبرزت هذه المعارضة بقوة مؤخرا، في أعقاب نشر الجيش الإسرائيلي معطيات حول هؤلاء المجندات. وتبين من هذه المعطيات أنه في السنوات الأخيرة ارتفع عدد المجندات اليهوديات المتدينات اللاتي يرفضن الانصياع لفتاوى الحاخامين ضد التجنيد ويلتحقن بالخدمة العسكرية. ووفقا لمعطيات العام 2015، فإن عدد المجندات المتدينات بلغ 2159 مجندة، وأن عددهن يرتفع كل عام بنسبة 10%. كذلك أفادت المعطيات بأن 9% من المجندات المتدينات ينخرطن في الوحدات القتالية، أي أن هؤلاء المجندات يخدمن إلى جانب جنود شبان، وهذا واقع يرفضه "الحردليم" بشكل قاطع.

وأثارت تصريحات رئيس الييشيفاه العسكرية في مستوطنة "عيلي"، الحاخام يغئال ليفينشطاين، وهو أحد أبرز قادة "الحردليم"، ضد تجنيد المتدينات اليهوديات، عاصفة في إسرائيل. وفي أعقاب نشر المعطيات أعلاه، بدأت منظمة "ليبّا"، المقربة عقائديا من ليفينشطاين، حملة ضد تجنيد المتدينات للجيش. ويبدو أن هذه العاصفة صعّدت الصراع حول التجنيد داخل المعسكر اليميني الاستيطاني المتطرف، وتحديدا بين الحردليم والصهيونية – الدينية. إذ أن حملة "ليبّا" هاجمت رئيس "البيت اليهودي" ووزير التربية والتعليم الإسرائيلي، نفتالي بينيت، بسبب موافقته على دخول جمعيات تشجع تجنيد المتدينات للجيش إلى مؤسسات تعليم دينية.

وكانت القناة العاشرة للتلفزيون الإسرائيلي كشفت، قبل أسبوعين، مقطع فيديو لأقوال ليفينشطاين ضد تجنيد المتدينات، قال فيها إن هؤلاء المتدينات "يدخلن يهوديات إلى الجيش، ولن يكن يهوديات في النهاية. وليس بالمفهوم الجيني فقط، إذ أن منظومة قيمهن برمتها ستتشوش، وسلم الأولويات – البيت والمستقبل المهني – سيثير جنونهن، ويحظر الموافقة على ذلك... وأنا لا أعرف من سيتزوجهن. فهي ستروي لأولادها قصصا في الليل حول تراث القتال، ’نصبنا كمائن وألقينا قنابل’. يسمون ذلك العائلات الجديدة، أليس كذلك؟ سيكون في العائلة أبوان. بيت مجانين. هذا سيكون بيت مجانين بكل بساطة".

وأضاف أن "الحديث يدور عن بنت متدينة، ودعكم من العلمانيات. لقد أثاروا جنون البنات، ويجندوهن للجيش... المفاهيم الليبرالية لا يمكن أن تجعل الإنسان يضحي بروحه... ونحن لا نقرر شيئا في البيت، نخرج في السادسة صباحا ونعود في السادسة مساء بأفضل الأحوال، أو في التاسعة أو في الحادية عشرة في أسوأ الأحوال. وينبغي أن يدير أحد ما شؤون البيت والأولاد. وإذا كانت امرأة مدفعية فسيكون لك بيت مدفعية، امرأة مهترئة سيكون لك بيتا مهترئا، وأنت ستكون مهترئا أيضا".

وأيد الزعيم الروحي للحردليم، الحاخام تسفي طاو، أقوال تلميذه ليفينشطاين، وحتى أنه دعا إلى عصيان مدني احتجاجا على تجنيد المتدينات اليهوديات. وقال في مقاطع فيديو كشفتها القناة الثانية للتلفزيون الإسرائيلي إن قضية خدمة المتدينات في وحدات عسكرية مختلطة للشبان والشابات "هي قضية وجودية بالنسبة لكل الدولة ولكل الأمة. ومن أجل مناهضة ذلك يجب الخروج إلى الشوارع، يجب الخروج بسبب ذلك، ويسمون هذا عصيانا مدنيا... وسنهتم بأن يخرج الشعب للاحتجاج. والشعب لم يُعط تفويضا للجيش من أجل ذلك".

وأضاف "إنهم يريدون أن يغرسوا ذلك لدينا على أنها قيم. وقد بدأوا بالمنحرفين جنسيا والآن يواصلون بطريقة كهذه. يحظر السماح بذلك، فهذا أصبح فقدانا للعقلانية، والمعرفة، والأسس الأخلاقية. هل نحن بشر أم حيوانات؟ لن ننفذ أي أمر.. وأي أمر عسكري من هذا النوع يتنافى مع الحشمة".

كذلك أيد رئيس حزب شاس ووزير الداخلية الإسرائيلي، أرييه درعي، أقوال ليفينشطاين، وقال لإذاعة الجيش الإسرائيلي، إن الأمر "يتطلب شجاعة من أجل التحدث عن قول الشريعة اليهودية وكل الاحترام له لأنه شجاع وتحدث عن قول الشريعة". وأضاف أن الشريعة اليهودية تحظر تجنيد النساء للجيش "ولذلك أنا أمتدح الحاخام ليفينشطاين". واعتبر درعي أن الانتقادات ضد ليفينشطاين غايتها إسكاته "وهو قال الحقيقة ولا يخاف من قول الحقيقة، لكن الأسلوب كان مبالغا فيه برأيي".

موقف الجيش وتلاسن بين ليبرمان وبينيت

عقب الجيش الإسرائيلي على أقوال حاخامي "الحردليم" من خلال الناطق العسكري، مردخاي ألموز، الذي كتب في صفحته على موقع "فيسبوك" أنه "ليس لائقا الرد على أقوال غير لائقة. إخوتي في السلاح، أنتم مخطئون. الجيش الإسرائيلي للجميع، نساء ورجالا".


وأضاف ألموز أنه "في الساعات الأخيرة تُنشر دعوات إلى وقف دمج النساء في الجيش الإسرائيلي. والجيش الإسرائيلي للجميع، لأبناء الصهيونية – الدينية الأعزاء الموجودين سوية مع إخوانهم العلمانيين في جميع وحدات الجيش، وللمقاتلات المتدينات والعلمانيات اللاتي تحرسن بلادنا، وللحريديم، ولأبناء الديانات المختلفة، للمجتمع الإسرائيلي كله". وتابع أن "هدف الجيش هو الدفاع عن دولة إسرائيل وسكانها، ولذلك يجب أن يكون موحدا من أجل تنفيذ مهمته. ونحن نفعل ذلك بمسؤولية وحساسية تجاه كافة أجزاء المجتمع الإسرائيلي".

من جانبه، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، هذا الأحد، أنه سيتم استدعاء ليفينشطاين إلى استجواب في وزارة الدفاع غدا، الأربعاء. وقال "إننا نريد الحفاظ على الييشيفاه (التي يديرها ليفينشطاين)، لكننا نريد الحفاظ على قيم الجيش أيضا. وكل من يدعم الحاخام ليفينشطاين عليه أن يدرك أنه يهدد الييشيفاه في عيلي. والانفلات ضد بنات إسرائيل ليس في مكانه ولن نتحمل ذلك".

وكان ليبرمان قد بعث برسالة إلى ليفينشطاين، الأسبوع الماضي، طالبه فيها بالاستقالة من منصبه كرئيس للييشيفاه، وأنه في حال لم يفعل ذلك فإنه سيمارس صلاحياته كي يوقف اعتراف وزارة الدفاع بالييشيفاه، وسيعمل من أجل إلغاء الاعتراف بالييشيفاه على أنها مؤسسة تحضيرية للخدمة العسكرية.

ورد الوزير بينيت، الذي يمثل حزبه "الحردليم" أيضا، على تهديد ليبرمان بإغلاق الييشيفاه بالقول إنه "بعد تصفية (إسماعيل) هنية سنناقش موضوع الييشيفاه في عيلي"، وأن هذا التهديد هو "ثرثرة ليبرمانية نمطية"، وأن "آخر شيء يهم ليبرمان هو مجندات الجيش الإسرائيلي". بدوره كتب ليبرمان في حسابه في "تويتر" أن "بينيت يدافع عن من يحاول تحويل إسرائيل إلى إيران. ولن نسمح بذلك. النساء في إسرائيل متساويات مثل الرجال والخدمة العسكرية هي للجميع".

وعقبت لجنة مجلس المؤسسات ما قبل العسكرية، العلمانية والدينية، بدعوة الجيش الإسرائيلي إلى "السماح لجنود إسرائيل، رجالا ونساء، متدينين وعلمانيين، بتأدية الخدمة بكرامة ووفقا لمعتقداتهم، بموجب قواعد الجيش الإسرائيلي ومن أجل أمن إسرائيل". وأضافت اللجنة في إشارة إلى أقوال ليفينشطاين "إننا نؤكد أن تعابير مسيئة وإقصائية لا يمكنها أن تكون جزءا من الخطاب التربوي"، ومن الجهة الأخرى فإن "تدخل جهات حكومية في نشاط مؤسسات تربوية، بضمنها المؤسسات ما قبل العسكرية، بسبب موقف رجل تربية فيها، هو منحدر زلق وينبغي الامتناع عنه بقدر الإمكان".

ودعا عدد من حاخامي الصهيونية – الدينية، وبينهم حاخامون يعتبرون معتدلين، في بيان لهم، الجنود المتدينين إلى "عدم التجند إلى وحدات قتالية مختلطة ولا تسمح بالالتزام بنمط حياة ديني"، وانتقدوا قرار الجيش بدمج المجندات في الوحدات الميدانية.

وكتب الحاخام بيني لاو، وهو حاخام بارز في إسرائيل ويعتبر معتدلا، أن "وزير الدفاع أخطأ، وأسلوبه لم ينجح أبدا في حرب ثني الأذرع. وفي مقابل تهديده، سيتمترس كل من يعرف نوعية الييشيفاه في عيلي في موقف مؤيد لليفينشطاين. وهذا التهديد هو بمثابة صب الزيت على نار حرب سيئة وتقاطب خطير بين أجزاء المجتمع الإسرائيلي".

وأضاف لاو أن "الييشيفاه ليست عدو ليبرمان ولا دولة إسرائيل. واعتذار الحاخام ليفينشطاين على الأسلوب الذي أدلى من خلاله بأقواله يستوجب عملا عميقا داخل الييشيفاه. ولا يمكن القيام بذلك بواسطة كسر أوانٍ وإنما بواسطة بنائها. ولا يوجد خطأ أكبر من دفع المسؤولين في عيلي إلى المناكفة. وعليهم أن يكونوا مع المجتمع وليسوا منعزلين عنه. وبدلا من مد يد المساعدة إلى الحاخام إيلي سادان (مدير الييشيفاه في مستوطنة "عيلي") من أجل تنفيذ عمل تصحيحي مع الجيش والمجتمع، يسعى وزير الدفاع إلى مد سيف له ليُغرس في أجسادنا جميعا. وهذا خطير"!.