المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

أحد الأخبار التي تكاد تكون يومية "مُعتادة" هي إطلاق الرصاص واستخدام السلاح الناري في بلدات المجتمع العربي، الذي تتهم قيادته السياسية والفعاليات الناشطة فيه شرطة إسرائيل بالتقصير والتقاعس في مواجهة هذا السلاح وحامليه، وبالتالي بالمسؤولية عن استمرار آثاره الدموية.

وفي أواسط هذا الشهر، آذار 2017، صدر تقرير غير مألوف تناول مشكلة السلاح المتفشي في إسرائيل، ما بين الذي ترخصه سلطات الدولة بشكل يقترب من الإسفاف كما سيتبين فيما يلي، وبين الذي تتقاعس في ضبطه وجمعه، السلاح العشوائي، وهو الأكثر فتكاً في النطاق الجنائي اليومي.

التقرير صدر عن مبادرة ذات تسمية مليئة بالدلالات: "المسّدس على طاولة المطبخ"، وهي عبارة عن مشروع تابع لمؤسسة "امرأة لإمرأة" – المركز النسوّي في حيفا. ويأتي كما تشير المؤسسة: لتقليص جرائم قتل النساء وجرائم العنف الناتجة عن تواجد السلاح في الحيّز المدني، وتوفير نوع من الرقابة المدنية على آلات القتل المنتشرة في المجتمع.

تلك المبادرة التي تشمل 13 جمعية نسوية وحقوقية في إسرائيل، بدأت مسيرتها منذ سنوات في تعقب الجرائم المرتكبة باستخدام أسلحة شركات الأمن والحراسة، وأثارت هذه القضية بشكل كبير. وهي تحذر في تقريرها الجديد من الإنتشار الكبير للأسلحة النارية في الحيز المدني في اسرائيل، في ظل سياسة "موجّهة ومتهورة للوزير الاسرائيلي غلعاد إردان، تستغل الذريعة الأمنية لتوسيع دائرة حاملي السلاح المرخص بشكل غير مسبوق، إضافة الى سياسة تتجاهل السلاح غير المرخص في المجتمع العربي بالذات"، كما تقول. وهي تقتبس أبحاثاً تشير الى أن "خطر تعرض النساء للقتل في العائلة يزيد بـ3- 5 مرات، في بيئة بيتية تحتوي على السلاح الناري، إلا أن هذه المعطيات لم تحرك الشرطة من أجل جمع المعلومات ووضع خطط لمنع القتل في العائلة والمجتمع، حيث تمتنع السلطات المكلفة عن توثيق نوعيات السلاح المضبوط، مصادره، وأنواعه أو حالة ترخيصه".

ويشير التقرير الى أن هناك "فهماً متزايداً مفاده بأن وجود السّلاح الخفيف في الحيّز المنزليّ يضاعف عدة مراتٍ المخاطر على النّساء بالذات، وتعريض النساء لخطر القتل، عبر زيادة احتمالات القتل وأعمال الانتحار بشكلٍ عامّ . وقد باتت معروفةً، وللمرّة الأولى، شهادات دامغة تشير إلى الإنخفاض في مستويات قتل النّساء داخل العائلة في العالم (وفي إسرائيل أيضاً) في ظلّ وجود ظروفٍ رقابيّةٍ مشددة على السلاح، وفي تشديد القوانين المتعلقة بالسّلاح وتشديد تطبيقها. وهو وعيٌ مفاده بأن تقليص عدد الأسلحة الناريّة داخل العائلات يقّلل من عدد حالات القتل في هذه الحيّزات ويقّلص الخطر المحيق بالنّساء على وجه الخصوص".

85 بالمئة من الجرائم لم يُكشف مرتكبوها!

وفقاً لمعطيات نشرها مركز "أمان"، وهو جمعية أهلية عربية ناشطة من أجل "مجتمع آمن"، فإن 95 بالمئة من حالات إطلاق النار على الأشخاص والبيوت والسيارات تقع في المجتمع العربي. عدد الضحايا منذ العام 2000 لغاية تموز 2016 كان 1143 قتيلاً و 3400 مصاب. لكن 85 بالمئة من الجرائم لم يكشَف مرتكبوها؛ لن تكتشف الشرطة مرتكبيها..

الخطاب اليومي العربي يردّد نكتة سوداء مفادها الاستهجان من زعم الشرطة عجزَها عن الوصول الى القتلة، لكنها تبذل جهوداً هائلة بلا كلل، ومعها أجهزة أمنية مخابراتية أخرى، فيما لو اختلفت "هوية السلاح" من جنائي الى أمني. فيُنظر للأخير كتهديد وجودي بينما للأول من باب "فخّار (عربي) يكسّر بعضه". وهذا هو البعد العنصري في القصة.

القيادة التمثيلية للمواطنين العرب صرّحت بل صرخت أكثر من مرة بوجوب مواجهة هذا السلاح القاتل. بل اجتمعت مع مسؤولين سياسيين ومسؤولين في الشرطة لتأكيد مطلب نزع هذا السلاح الذي يقتل ويجرح ويخرّب، قيمياً واجتماعياً وبيئياً. في أحد الإجتماعات المذكورة (تشرين الثاني 2012)، على سبيل المثال، تم الإعراب عن "القلق من ارتفاع حدة ظواهر العنف والجريمة في صفوف مجتمعنا العربي، ومن انتشار الأسلحة بأيدي شريحة من المواطنين، الأمر الذي يشكل تهديداً لسلامة وأمن الجمهور وممتلكاته، ومن بقاء العديد من جرائم القتل دون توصل الشرطة الى الفاعلين وتقديمهم الى العدالة، الأمر الذي يثير قلق الجمهور وعدم ثقته بالشرطة وصدق نواياها. وهناك أيضاً ارتفاع أعمال العنف الموجهة ضد منتخبي جمهور، ومسؤولين كبار في السلطات المحلية".

أمام مزاعم جهات في السلطة الاسرائيلية تتهم القيادات العربية بعدم معالجة القضايا اليومية، يبرز مطلب ملاحقة مطلقي الرصاص وحمَلة السلاح الذي تقصّر فيه تلك الجهات، ليس عن غير قصد، بل كجزء من سياسة عامة، ليقوّض مزاعمها. لغة المطلب واضحة حادة: "العمل الجدّي والفعّال لمكافحة ظاهرة انتشار الأسلحة بأيدي المدنيين، والوصول الى مرتكبي الجرائم وأعمال العنف وتقديمهم الى المحاكم لينالوا عقابهم، وليشكل ذلك رادعاً أيضاً".

موقفها حينذاك مثلما هو اليوم: "إن الشرطة قادرة على ذلك إذا توفرت النية، وإذا ما تم تخصيص الموارد اللازمة لزيادة نجاعة عمل الشرطة، من ميزانيات وتجهيزات وقوى بشرية. إن المسؤولية عن مكافحة الجريمة والوصول الى مرتكبي الجرائم، وظاهرة انتشار السلاح، هي مسؤولية الشرطة أولاً وأخيراً".

105 آلاف قطعة سلاح جديدة خلال 6 أشهر!

الأرقام الأساسية التي يحددها تقرير "المسّدس على طاولة المطبخ"، صادمة. فهناك ما بين311 ألف و 326 ألفاً من المسدسات والبنادق وسائر الأسلحة النارية الفردية التي ترخّصها السلطات، وهذا إضافة الى رقم تقريبي هائل مؤلّف من مئات آلاف قطع السلاح غير المرخصة في الأيدي الجنائية.

الرابط بين سياسة تضع مشروع الإحتلال في مركز اهتمامها، ومؤسسة حاكمة تضع شركات السلاح "في عيونها"، يتكشّف في انهمار التصريحات العلنية لدعوة المواطنين في إسرائيل إلى حمل السلاح ضد فلسطينيين يُزعم بقيامهم بما تسميه السلطات بـ "العمليات الفردية". وتمت ترجمة تلك التصريحات الى توسيع كبير لدائرة أصحاب حق حمل السلاح المرخص من الاسرائيليين، وتسهيل عمليات تجديد التراخيص، إضافة الى خفض الجيل الذي يُسمح لأصحابه بحمل السلاح من 21 الى 20 عاماً.

لتجسيد طفرة التسليح الفردي التي وقعت، يشير التقرير آنف الذكر الى معطيات وزارة الأمن الداخلي الاسرائيلية: فخلال ستة أشهر فقط، (بين تشرين الأول 2015 الى أيار 2016)، تم منح تراخيص لـ 105 آلاف قطعة سلاح جديدة. يجب التفكير هنا بسياسيين يوسّعون مساحات تفشي العنف السياسي المحتمل، وبتجّار سلاح هم الرابح الأكبر في خاتمة المطاف.

يشير التقرير الى مصاعب ومعيقات موضوعية منعت معدّات التقرير من الحصول على معطيات كافية قادرة على توصيف الوضع. ويقول إنهن، معدّات التّقرير، "لم يتمكنّ من الحصول على تقدير، أيّاً كان، عن عدد قطع السّلاح الناريّ غير القانونيّة التي تحتل محلّا هامّاً من ترسانة الأسلحة في الدّولة". ويتساءل: "هل من المعقول أن الشّرطة ووزارة الأمن الداخليّ تقوم ببلورة سياسة وتعمل من دون أن تكون لديها تقديرات، حتى لو كانت هذه التقديرات حذرة، حول كميات السّلاح غير القانونيّ؟ أم أن هاتين الجهتين الحكوميتين تفضلان إخفاء هذه التقديرات؟".

النقطة المُشار اليها أعلاه بعلامة استفهام تكشف طبقة جديدة من الشبهة التي تحوم فوق رؤوس هذه الأجهزة الرسمية: تقاعس في معالجة السلاح العشوائي لأنه يضرب ويصيب ويمسّ العرب أساساً، والمجتمعات التي يصحّ اعتبارها طرفية وهامشية في الواقع الاسرائيلي.

تقرير "المسّدس على طاولة المطبخ" يتوقف عند وثيقة داخليّة صادرة عن وزارة الأمن الداخليّ، وبموجبها: منذ السبعينيات الماضية سُرق أو ضاع في إسرائيل ما يزيد على 23 ألف قطعة سلاح مدنيّة. أما فيما يتعلّق بالسّلاح العسكريّ، فإنّ وزير الأمن الداخليّ قال مؤخّراً: "إن %90 من السّلاح غير القانونيّ في شماليّ البلاد مصدره الجّيش". وبحسب تصريحات رسمية متفرّقة، قدّرت الشّرطة في العام 2013 عدد الأسلحة غير القانونيّة بنحو 400 ألف قطعة سلاح، لتتحول الى "إحدى أهم الظواهر المؤلمة التي تعصف بالمجتمع العربي، والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بعدم تطبيق جدي للقانون من قبل الشرطة"، يقول التقرير، مضيفاً: "14 ضحية سقطت منذ بداية العام الجاري في المجتمع العربي، في جرائم قتل نفذت غالبيتها بأسلحة نارية لا يعرف مصدرها. ورغم أن عدد القتلى العرب يشكل أكثر من نصف القتلى في إسرائيل سنوياً الا أن الشرطة لم تفلح بتوفير تقييم أو تقدير واحد لكميات السلاح غير القانوني المنتشرة في هذا الحيز".

السياق العسكري لانتشار الأسلحة الفردية

موقع "سيحا ميكوميت" نشر في تشرين الثاني 2015 تقريراً حول تزاحم المواطنين الاسرائيليين على شراء الأسلحة بعد ما أسماه "انتشار أعمال العنف في الشوارع، من عمليات طعن ودهس"، الأمر الذي دفع الكثير من المواطنين الى شراء الأسلحة، واعتبر الموقع أن هذا يشكل خطراً على المجتمع الاسرائيلي، ويزيد من أعمال العنف الداخلي خاصة تجاه النساء، "اللاتي نادراً ما نسمع عن الجرائم التي تحدث بحقهن في الصحف. فالشعور بالأمن في المجتمع الإسرائيلي ينبع بشكل كبير من تطور صناعة الأسلحة والتسليح الضخم للجيش. جوابنا لكل تهديد، سواء كان حقيقياً أو من صنع خيالنا، هو الأسلحة. فالجيش يلعب دوراً مهماً في الحياة اليومية للمجتمع الإسرائيلي، وفي حياة كل مواطن اسرائيلي، حتى أصبح حمل الأسلحة أمرا طبيعيا".

ويجزم: إن جزءاً كبيراً من الاقتصاد الإسرائيلي يعتمد على صناعة الأسلحة، سواء أكان تطويرها أو استيرادها أو تصديرها. فالحكومة تدعم هذه الصناعات وتروج لها على أنها أمر ضروري لبقاء المواطن الإسرائيلي آمناً في حياته اليومية. لكن الحقيقة أن الكثير من الاشخاص يشعرون أنهم مهددون بسبب وجود السلاح، حيث سمعنا عن عدد من القضايا استخدم فيها مواطنون أو اشخاص يعملون في الجيش أو الشرطة أسلحتهم بشكل غير مناسب، وذلك بالإضافة الى أشخاص أصيبوا أو قتلوا عن طريق الخطأ.

ويخرج تقرير مبادرة مؤسسة "إمرأة لإمرأة" بتوصيات عملية "لتطبيق سياسة مسؤولة في مجال الأسلحة النارية، وعلى رأسها توفير قاعدة بيانات شفافة ومتاحة للجمهور حول أسلحة القتل المنتشرة حولهم، تشديد الرقابة واتباع سياسة تقليص لعدد الأسلحة في المجتمع المدني، والبدء بتطبيق تأمين إجباري لكل قطعة سلاح، لحماية الضحايا". ويؤكد: "إنّ التجاهل السائد لدى الجمهور لسؤال انتشار الأسلحة الناريّة، سببه الجزئي هو ترسّخ ظاهرة حضور السّلاح العسكريّ ووجوده الذي بات يعدّ طبيعياً وعادياً، ظاهرياً، في وسط مجموعة الأغلبية اليهوديّة. الجّيش يستخدم ثقافة الحصانة الأمنيّة من أجل حرف اهتمام الجمهور عن مسألة التسلح الفائض عن الحاجة في الحيّز المدنيّ".

المصطلحات المستخدمة:

دورا

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات