رفضت الحكومة الإسرائيلية تقديم أية معلومات إلى المحكمة العليا بشأن حجم صادراتها العسكرية، من الأسلحة والمعدات "الأمنية" على أنواعها، وادعت بأن المحكمة العليا لا تملك صلاحية ممارسة الرقابة على تصدير الأسلحة من إسرائيل، والذي "لا يجري إلا بموافقة وتصديق من وزارة الدفاع"، بصرف النظر عن الجرائم التي يتم ارتكابها باستخدام تلك الأسلحة! وبررت الحكومة رفضها هذا بالقول إن الحديث يجري هنا عن "شؤون سياسية خالصة"!

جاء موقف الحكومة الإسرائيلية هذا ضمن الرد الذي قدمته، الأربعاء الماضي، إلى المحكمة العليا الإسرائيلية التي تنظر في التماس قُدم إليها في شهر كانون الثاني الأخير للمطالبة بإصدار أمر قضائي إلى وزارة الدفاع الإسرائيلية يلزمها بوقف بيع السلاح للطغمة العسكرية الحاكمة في بورما وبتفسير أسباب عدم توقفها عن إصدار التصاريح لتجارة السلاح وتصدير الأسلحة الإسرائيلية إلى هذه الطغمة، وخاصة في أعقاب الأنباء المتواترة عن ارتكاب هذا النظام جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية بحق مواطني بلاده من الأقليات، الإثنية والدينية، وخاصة من المسلمين.

بورما - طغمة عسكرية وجرائم ضد الإنسانية

وأشار الالتماس المقدم إلى المحكمة العليا الإسرائيلية إلى أنه يأتي حيال تصاعد ممارسات قوات الأمن التابعة للطغمة العسكرية الحاكمة في ميانمار / بورما، في جنوب شرق آسيا، "بحق أبناء الأقليات القومية والدينية"، وخاصة أبناء أقلية الروهينغا (روهينغيا / روينغة)، وهي أقلية قومية عرقية تنتمي إلى عائلة الشعوب الهندية وتقطن في ولاية أراكان غربي بورما / ميانمار. ومن الناحية الدينية، تنتمي أقلية الروهينغا إلى الإسلام السنّي. وكانت التقديرات الرسمية لسنة 2012 قد أفادت بأن هنالك 800 ألف روهينجي في أراكان، تعتبرهم الأمم المتحدة بأنهم "أكثر الأقليات اضطهادا في العالم"! وحيال عمليات البطش والقتل الجماعي التي تمارسها قوات الطغمة العسكرية الحاكمة، والتي تقوم في إطارها بقتل المواطنين، إخفاء آثارهم وممارسة صنوف رهيبة من التعذيب عليهم، اغتصاب النساء والفتيات وإحراق قرى بأكملها، على من فيها من سكان وما فيها من ممتلكات، فرّ العديد من أبناء الروهينغا إلى مناطق مختلفة خارج بورما/ ميانمار وأصبح كثيرون منهم (يزيد عددهم عن 150 ألفا) يعيشون لاجئين في مخيمات في بنغلاديش المجاورة وعدة مناطق داخل تايلاند، على الحدود مع بورما.

يذكر أن بورما حظيت بالاستقلال من الاستعمار البريطاني في العام 1948، ومنذ ذلك الوقت تفتك بها حرب أهلية متواصلة تدور رحاها في مناطق مختلفة من البلاد، التي تحكمها طغمة من العسكريين. وفي العام 2015، جرت فيها انتخابات ديمقراطية أسفرت عن فوز حائزة جائزة نوبل للسلام، أونغ سان سو تشي، وتشكيلها حكومة جديدة، غير أن هذه الحكومة تفتقر إلى أية سلطة أو سيطرة على قوات الأمن أو على الميليشيات العسكرية الخاصة والتي تخضع كلها (قوات الأمن الرسمية والميليشيات) لإمرة الطغمة العسكرية، الحاكمة الفعلية في البلاد.

وقبل أيام قليلة، قدمت مبعوثة الأمم المتحدة الخاصة إلى بورما تقريرها إلى "مجلس حقوق الإنسان" وأشارت فيه إلى ما كانت أكدته مقررة الأمم المتحدة الخاصة بحقوق الإنسان عن أن قوات الأمن في بورما قادت خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة حملة أجبرت نحو 65 ألفا من أقلية الروهينغا المسلمة على الفرار إلى بنغلاديش. وأكد التقرير أن ما تنفذه قوات الأمن الرسمية التابعة للطغمة العسكرية الحاكمة في بورما "يشمل جرائم ضد الإنسانية قد تصل إلى حد الإبادة الجماعية".

"حملة مشتريات عسكرية" في إسرائيل!!

ويؤكد الالتماس الذي قدمه إلى المحكمة العليا الإسرائيلية في شهر كانون الثاني الأخير المحامي إيتاي ماك وعدد من نشطاء حقوق الإنسان في إسرائيل، أنه على الرغم مما نشر عن جرائم الطغمة العسكرية في بورما، تواصل السلطات الإسرائيلية الرسمية تعاونها الوثيق مع هذه الطغمة، سواء من خلال الدعم العسكري المباشر وغير المباشر، بتدريب جنودها وكوادرها، أو تزويدها بكل ما تحتاجه من أنواع الأسلحة والعتاد العسكري، أو من خلال الدعم المعنوي. فقد استقبلت إسرائيل زعيم الطغمة العسكرية، الجنرال إيا ماونغ، على رأس وفد كبير منها في ما أسمته وسائل إعلام إسرائيلية بأنه "حملة مشتريات عسكرية في الصناعات الحربية الإسرائيلية"!!

فخلال شهر أيلول 2015، وصل ماونغ على رأس وفد الطغمة العسكرية الحاكمة في بورما إلى إسرائيل في زيارة رسمية، لكن سرية، التقى، خلالها، برئيس دولة إسرائيل، رؤوفين ريفلين، رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي، الجنرال غادي آيزنكوت، ورؤساء الأجهزة الأمنية المختلفة، كما زار قواعد عسكرية تابعة لسلاحيّ الجو والبحرية الإسرائيليين. كما قام بـ"جولة" في عدد من مراكز ومجمعات الصناعات الحربية الإسرائيلية.

وفي المقابل، كشف النقاب عن زيارة رسمية، لكن سرية أيضا، قام بها رئيس "قسم الصادرات الأمنية الإسرائيلية" في وزارة الدفاع الإسرائيلية، ميشيل بن باروخ، إلى بورما خلال الصيف الأخير.

ويؤكد الالتماس أنه رغم تكتم إسرائيل الرسمية على هذه الزيارات وبرامجها، إلا أن المعلومات والصور التي نشرها قادة الطغمة العسكرية أنفسهم على حساباتهم الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك)، كشفت عن شرائهم سفناً حربية إسرائيلية من طراز "سوبر دفورا"، إضافة إلى كميات كبيرة من الأسلحة، كما تولت إسرائيل تدريب أعداد كبيرة من الجنود التابعين لهذه الطغمة.

وفي شهر آب الماضي، نشرت شركة إسرائيلية متخصصة في بيع المعدات العسكرية و"خدمات التدريبات العسكرية"، على موقعها على الشبكة، صوراً من التدريبات التي شارك فيها جنود الطغمة العسكرية البورمية وهم يحملون بنادق من طراز "كورنرشوت" الإسرائيلية الصنع، مع الإشارة إلى أن "هذه البنادق قد أصبحت قيد الاستخدام العملياتي في بورما"!

وأفاد الالتماس بأن أحد أعضاء إدارة هذه الشركة الإسرائيلية هو المفتش العام السابق للشرطة الإسرائيلية، شلومو أهرونيشكي!

ونوّه، أيضا، إلى أن "تعاوناً إسرائيليا مماثلا" يجري في جنوب السودان هذه الأيام، إذ تصر وزارة الدفاع الإسرائيلية على مواصلة تصدير وبيع الأسلحة للأطراف المتحاربة هناك، على الرغم من الجرائم الفظيعة التي ترتكب هناك والتي "يمكن منعها ووقفها"!

كما جرى "تعاون إسرائيلي مماثل" من قبل، أيضا، في عمليات الإبادة الجماعية التي وقعت في رواندا وفي البوسنة في تسعينيات القرن الماضي، كما في عمليات اغتيال نشطاء السلام في الأرجنتين وتشيلي في سبعينيات القرن الماضي. وفي جميع تلك الحالات، قدم المحامي إيتاي ماك التماسات إلى المحكمة العليا الإسرائيلية للمطالبة بكشف تفاصيل هذا "التعاون" وما تخلله من جرائم ضد الإنسانية وبوضع حد له.

السلاح مقابل تأييد المستوطنات في الأمم المتحدة!

اعتبر الكاتب جون براون، في موقع "محادثة محلية" (سيحاه ميكوميت) العبري، أن ادعاء الدولة (الحكومة الإسرائيلية) بأن المحكمة العليا لا تملك صلاحية ممارسة الرقابة على صادرات السلاح الإسرائيلية هو "ادعاء غير مسبوق ومستهجَن". وتساءل: لماذا تدعي الدولة بأن موضوع التصدير العسكري هو "مسألة سياسية خالصة" و"يمس علاقاتها الخارجية"؟ ويحاول الإجابة عن هذا السؤال بسؤال آخر هو: هل الحال هنا كما كانت في حالات سابقة؟ منها، مثلا، ما أظهرته الوثائق التي كشف النقاب عنها حول التعاون مع نظام الطاغية أوغستو بينوشيه في تشيلي منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي حتى أوائل تسعينياته؟؟ فهل تسعى إسرائيل، إذن، إلى تجنيد وضمان تأييد بورما للمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية في عمليات التصويت التي تجري في مؤسسات الأمم المتحدة حول شرعية هذه المستوطنات؟ وهل تدعي الدولة، فعليا، بأن هذا هو أحد الدوافع المركزية في كل مسألة تصدير وتجارة السلاح؟

وفيما يتعلق بفحوى الادعاء المذكور، بشأن عدم امتلاك المحكمة العليا صلاحية ممارسة الرقابة على صادرات السلاح الإسرائيلية، تساءل براون: هل تفتقر المحكمة العليا الإسرائيلية لمثل هذه الصلاحية بشأن تصدير الأسلحة لارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بينما لم تتوان عن "انتزاع" وممارسة صلاحيتها في محاكمة مجرمين نازيين بجريرة ارتكابهم جرائم ضد الإنسانية؟


من جهته، قال مقدم الالتماس إلى المحكمة العليا، المحامي إيتاي ماك، إن "إسرائيل ارتكبت خطأ تاريخيا فادحاً حينما دعت زعيم الطغمة العسكرية في بورما واستقبلته في البلاد وعقدت معه صفقات لبيع الأسلحة وتنظيم التدريبات العسكرية". وأضاف: "يمكن الافتراض بأن إسرائيل تريد موطئ قدم في بورما، بينما الشركات الأميركية والأوروبية لا تستطيع التحرك بحرية جراء الحظر الدولي المفروض على النظام في بورما... هذا ليس تصرفا جديدا، إذ غالبا ما حكمت المصالح وبررت تقديم المساعدات العسكرية للأنظمة الدكتاتورية في مختلف أنحاء العالم. غير أن السؤال الذي يجب أن نطرحه هنا هو: أليست هنالك قيم وخطوط حمراء أخلاقية؟"!

المصطلحات المستخدمة:

ألف