المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تواصل وسائل إعلام وأطر ذات شأن التطرّق لظاهرة تغلغل حيتان المال من الإسرائيليين ويهود العالم، وأيضا أجانب، في أروقة الحكم الإسرائيلي، بحيث يكون مفتاح أبوابهم الأموال التي يدفقونها على السياسيين في حملاتهم الانتخابية، خاصة الانتخابات الداخلية في الأحزاب الكبرى، إذ يكون السياسي مضطرا لصرف عشرات آلاف الدولارات، وأحيانا أكثر، لضمان مكان متقدم أو مضمون أكثر في القائمة الانتخابية، تمهيدا للانتخابات البرلمانية.

وهذه الظاهرة تعززت بشكل خاص منذ مطلع سنوات التسعين، حينما بدأ الحزبان الأكبران، "العمل" ومن ثم "الليكود"، باتباع الشكل الأميركي لاختيار مرشحي الأحزاب للانتخابات العامة، من خلال انتخابات مفتوحة أمام الجمهور الذي ينتسب للحزب لهذا الغرض. ونشرت صحيفة "ذي ماركر" في الايام الأخيرة تقريرا آخر، عرضت فيه ظاهرة تمويل الأثرياء الأجانب للسياسيين الإسرائيليين، وخاصة من أحزاب اليمين، واليمين المتشدد، الذي يستند على الدعم الخارجي أكثر من الإسرائيلي.

والمبالغ التي يعرضها التقرير تبقى هشة جدا، أمام حقائق الصرف الفعلي على الحملات الانتخابية التي يخوضها الساسة في الأحزاب الكبرى. ففي حين يجري الحديث في التقرير عن دعم مالي اجمالي بـ 16 مليون شيكل (3ر4 مليون دولار)، في جولتي انتخابات داخلية، تمهيدا لانتخابات 2013 و2015، وأن من هذا المبلغ أكثر من 5ر3 مليون دولار من أثرياء من الخارج، فإن كلفة حملة المرشح الواحد في الانتخابات الداخلية، في حزبي "الليكود" و"العمل"، تتراوح ما بين 20 ألف دولار كحد أدنى، وحتى ما يتخطى مئة ألف دولار، في الجولة الواحدة. وهذا لا يشمل كلفة حملة المرشحين لرئاسة كل واحد من الحزبين، التي تصل إلى مئات آلاف الدولارات، وفق تقارير سابقة.


والسبب في هشاشة التسجيلات الرسمية، هو أن القانون يفرض حدا أقصى للمتبرع للناخب الواحد، وهو 11400 شيكل (أكثر من 3 آلاف دولار)، بينما الحد الاقصى للمتبرع لرئاسة الحزب هو 46 ألف شيكل (ما يزيد عن 12 الف دولار).

فهناك دعم غير مسجل في التقارير الرسمية، منه ما يكون بعيدا عن الأنظار، بمعنى أموال تدفع لناخبين أو تحفيز ناخبين بوسائل متعددة، أو تمويل منتوجات إعلانية جزئية، منها ما هو خارج التسجيلات الرسمية، وغيرها الكثير. وفي أحيان كثيرة يتكشف هذا الدعم لاحقا، ليتورط السياسيون في شبهات فساد. وكما يبدو فإن هذا الأمر هو سبب قوي في النسبة العالية للمتبرعين من الخارج، كون أولئك لا يستطيعون تقديم تبرعات غير مباشرة، كونهم بعيدين جغرافيا، فيما المتبرعون الإسرائيليون قادرون على ذلك الشكل من الدعم.

وحسب التقرير، فإن أحزاب اليمين تتلقى نسبة أعلى من تبرعات الخارج. فقد كانت نسبة التبرعات الخارجية لحزب "الليكود" ولتحالف أحزاب المستوطنين "البيت اليهودي" 52% من اجمالي التبرعات المسجلة للانتخابات الداخلية، فيما حزب "العمل" بلغت النسبة لديه 6ر37%، بينما حزب "ميرتس" الذي هو أيضا لديه انتخابات داخلية لا يتقاضى أي شيء من المتبرعين من الخارج.

أما على مستوى الشخصيات، فنجد أن 99% من التبرعات التي وصلت إلى بنيامين نتنياهو كانت من الخارج، وتهبط النسبة لدى زعيم تحالف أحزاب المستوطنين نفتالي بينيت إلى 85%، بينما النسبة لدى رئيس حزب "العمل" إسحاق هيرتسوغ 54%، في حين أن منافسته على رئاسة الحزب شيلي يحيموفيتش، تلقت 1% فقط من الخارج، من اجمالي التبرعات التي وصلتها.

ونذكر في هذا السياق أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو أعد في السنوات الأخيرة قائمة تشمل مئة من كبار أثرياء العالم، وقلة منهم من الإسرائيليين، وعمل على تدريجهم في أربع مجموعات، بموجب درجة القرب منه، ومدى الاهتمام المطلوب بهم، بموجب ما هم على استعداد لتقديمه له من دعم. وكان من ضمن المجموعة الرابعة، الأبعد، من بات رئيسا للولايات المتحدة الأميركية دونالد ترامب، إلا أن الاثنين قالا في أكثر من مناسبة إنهما على علاقة وثيقة قائمة منذ سنوات طويلة.

وكان المراقب العام السابق للدولة، ميخا ليندنشترواس، قد دعا في تقريرين له، في العامين 2006 و2009، إلى فرض ضوابط على تبرعات الأثرياء من الخارج، وبشكل خاص الزام السياسي بأن يوضح في تقاريره شكل العلاقة بينه وبين ذلك الثري، وإذا ما للثري ارتباطات اقتصادية بالسوق الإسرائيلية، بشكل مباشر أو غير مباشر، إلا أنه حتى الآن لا توجد قيود كهذه. كما أشار المراقب إلى أن قدرته على مراقبة التبرعات التي تأتي من أثرياء الخارج محدودة، في تلميح واضح إلى احتمال الحصول على تبرعات ليست مسجلة في سجلات السياسيين.

لكن هذه العلاقات الاقتصادية تتكشف أكثر لاحقا، خلال عمل ذلك السياسي في مختلف المناصب، من عضوية الكنيست، ولجانها، إلى الوزراء ورئاسة الوزراء. وتشير "ذي ماركر" في تقريرها إلى روابط اقتصادية، أو محاولات أثرياء للاستثمار في الاقتصاد الإسرائيلي، بما يتصل بدوائر القرار السلطوي.

والمفارقة التي تظهر في التقرير، كما في تقرير آخر سابق، هو أن الأثرياء يتبرعون في آن واحد لمتنافسين على منصب واحد من ذات الحزب، أو حتى لمرشحين من أحزاب مختلفة ومتنافسة. وهذا ما أسماه التقرير "التبرعات المزدوجة".

ويقتبس التقرير تصريحات سياسيين، منهم من بقي من دون ذكر اسمه، تقول إن المهمة الأصعب في الانتخابات الداخلية للأحزاب هي تجنيد الأموال، إذ سيكون على السياسي في الغالب، أن يجري الاتصالات مباشرة مع الأثرياء، إن كانوا من الإسرائيليين، أو من أثرياء العالم، وهذا يتضمن عقد جلسات خاصة مع كل واحد من الأثرياء لضمان تبرعاته.

الأثرياء الأبرز

أكبر هؤلاء الأثرياء هو كَنت أبراموفيتش، من الولايات المتحدة، المعروف بمواقفه اليمينية وهو من أبرز الداعمين لحزب "الليكود"، ولمنظمات وحركات محسوبة على اليمين الإسرائيلي المتطرف. وقد أسس في العام 2011 صندوقا أسماه "صندوق استقلالية إسرائيل"، وأدفق أموالا على منظمات صهيونية، من أبرزها
"جمعية رغافيم"، وهي واحدة من أشد المنظمات الصهيونية تطرفا، وتتخصص في نشاطها في ملاحقة قضايا الأرض للفلسطينيين في الضفة والقدس وإسرائيل، وتطالب بتدمير البيوت العربية تحت غطاء ما يسمى "عدم الترخيص".

ويتبين من قائمة الذين حصلوا منه على تبرعات، أن أكبرهم كان نتنياهو الذي حصل منه على قرابة 23 ألف دولار، فيما حصل منافسه السابق على رئاسة "الليكود"، داني دنون (السفير الحالي في الأمم المتحدة)، على ما يعادل 6 آلاف دولار. كما تظهر أسماء النواب والوزراء من الجناح الأشد تطرفا في الليكود، وحصل كل واحد منهم على ما يقارب السقف الأعلى المسموح به من التبرعات، مثل وزير الدفاع السابق موشيه يعلون، ووزير الأمن الداخلي غلعاد إردان، والوزير أوفير أكونيس، والوزير البارز في الليكود زئيف إلكين، ونائبة وزير الخارجية تسيبي حوطوبيلي.

وفي المرتبة الثانية وحتى الرابعة كان ثلاثة من عائلة فاليك الثرية، وأم العائلة حاصلة على الجنسية الإسرائيلية، وهي من العائلات الثرية في فلوريدا، وأكبر استثماراتها في شبكات التسوق في مطارات العالم، المعفية من الضرائب، "ديوتي فري". وهي عائلة أيضا محسوبة على اليمين الإسرائيلي المتطرف، وتتبرع باستمرار للحزب الجمهوري الأميركي.

وقد وزع الأشقاء الثلاثة المتبرعون أموالهم على نواب من حزب "الليكود"، وحزب تحالف المستوطنين، إلا أن حصة الأسد حصل عليها نتنياهو، إذ قدم له كل واحد من الثلاثة ما يعادل 23 ألف دولار، وبالمجمل ما يقارب 70 ألف دولار. كما أن الثلاثة تبرعوا لمن بات رئيس الكنيست، يولي إدلشتاين، بما يعادل 11500 دولار. كما حصل 9 نواب ووزراء من الليكود على تبرعات من واحد على الاقل من الاخوة الثلاثة. وظهرت في القائمة أيضا النائبة المستوطنة المتطرفة شولي معلم، من تحالف "البيت اليهودي"، البارزة في سن القوانين الأشد عنصرية ودعما للمستوطنات.
كذلك من بين الأسماء يورام فايسفيش، الثري البريطاني اليهودي، ولكن له استثمارات كبيرة في ولاية فلوريدا الأميركية. وفي السنوات الأخيرة بات يقيم لفترات أطول في إسرائيل، دون الإشارة إلى إذا ما كان يحمل جنسيتها. وأيضا الثري الاسباني اليهودي ديفيد هتشفيل. وهما من أبرز المتبرعين لنتنياهو، وأيضا لبعض شخصيات حزب "الليكود".

ويعدد التقرير عددا من أسماء الأثرياء الذي أدفقوا الأموال على سياسيي وأحزاب اليمين المتطرف، ولكن ليس وحدهم، بل قلة منهم يتبرعون بالذات لليسار الصهيوني. ويبرز هنا اسما الثريين موريس أركين وزوجته دوريس، وهما إسرائيليان، ودانييل أبرامز الأميركي. والأخير ارتبط اسمه بجمعية "في 15" (V15) التي يتهمها اليمين الإسرائيلي بأنها نشطت في الانتخابات الأخيرة الإسرائيلية، لتحفيز مصوتي اليسار الصهيوني من جهة، ومصوتي المواطنين العرب من جهة أخرى، للخروج إلى صناديق الاقتراع، من خلال حملة اعلانية واسعة النطاق.

ويتبين من التقرير، أن الاثنين تبرعا لرئيس حزب "العمل" إسحاق هيرتسوغ، ما يفوق 40 ألف دولار، في حين تلقت رئيسة حزب "الحركة" تسيبي ليفني ما يفوق 23 ألف دولار. وكما هو معروف فإن ليفني شريكة هيرتسوغ في كتلة "المعسكر الصهيوني" البرلمانية المعارضة.

شلدون إدلسون

تشير الصحيفة في تقريرها إلى أن الاسم الغائب عن قائمة المتبرعين للنواب والوزراء، بمن فيهم رئيس الحكومة نتنياهو، كان الثري الأميركي اليهودي شلدون إدلسون، رغم أنه الداعم الأكبر لنتنياهو في الساحة الإسرائيلية. إلا أن الصحيفة ربطت العديد من أسماء المتبرعين لشخصيات اليمين الإسرائيلي بإدلسون ذاته، من باب علاقات اقتصادية أو اجتماعية، وأنهم جميعا من المتبرعين للحزب الجمهوري الأميركي، بموازاة دعمهم لليمين الإسرائيلي المتشدد.

لكن من جهة أخرى، فإن ما يقدمه إدلسون من دعم لنتنياهو لا يمكن تقييمه بالمال، وهو الدعم الأكبر، الغائب عن كل التقارير الرسمية بشأن تبرعات الأموال للساسة الإسرائيليين، إذ أن دعمه يتمثل، كما هو معروف، من خلال الصحيفة اليومية المجانية "يسرائيل هيوم"، الشغل الشاغل لسوق الإعلام الإسرائيلي في السنوات العشر الأخيرة، نظرا لكونها الداعمة بالمطلق لشخص نتنياهو منذ صدور عددها الأول، ومنذ أن كانت توزع على نطاق جغرافي ضيق، حتى باتت اليوم الأكثر انتشارا، بموجب استطلاعات انتشار الصحف ووسائل الإعلام.

ونذكر أيضا أن قضية هذه الصحيفة، وتوغل صاحبها بشكل أكبر في سوق الإعلام الإسرائيلي، هما محط جدل دائم في الحلبة السياسية والبرلمانية، وهما الآن محور واحدة من أبرز قضايا الفساد التي يتم التحقيق بشأنها مع نتنياهو ومع صاحب صحيفة "يديعوت أحرونوت"، أرنون موزيس، إذ حسب ما ينشر فإن الاثنين كانا يتفاوضان، حول دعم نتنياهو لقانون يقيد انتشار "يسرائيل هيوم"، مقابل دعم "يديعوت" لنتنياهو.

وتبقى مسألة دفق الأموال على السياسيين الإسرائيليين وأحزابهم ابعد من امكانية حصرها بدقة، وهي ظاهرة تتعاظم من حين إلى آخر، على الرغم من سلسلة القوانين والأنظمة التي تفرض قيودا. وتعرف الماكنة الحزبية كيف تُحدث ثغرات في كل واحد من القوانين، من أجل جني أموال أكبر، تصب في نهاية المطاف، ليس فقط في توسيع الحلقة الإعلامية والوصول إلى أوسع شريحة ناخبين، وإنما أيضا في شراء الاصوات.

أما عملية "تسديد الفواتير" للأثرياء، فإنها تبدأ في أوج تشكيل الحكومة الجديدة، ومن ثم في سياسات الحكومة الاقتصادية وغيرها. وغالبا ما يكون لدى الأثرياء مطالب بتعيينات في الحكومة، تتعلق بتوزيع الحقائب، كي يكون لمن دعموهم آليات تتيح التجاوب مع مطالبهم.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات