المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

يكاد لا يخلو يومٌ إخباري واحد من عنوان حول فصول الحملة المتواصلة التي يشنها رئيس حكومة اليمين الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على الصحافة والصحافيين. وهو يخصص، إلى جانب ذلك، مساحة كبيرة من صفحاته الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك وتويتر، والمقاطع المصوّرة من الاجتماعات البرلمانية والحكومية الرسمية، كي يهاجم الصحافة ويدمغها بشتى أوصاف الإدانة بغية هزّ أعمدة شرعيتها ومهنيّتها، وبالتالي ضرب مصداقية نقدها وتحقيقاتها لممارساته العامة والخاصة.

المواجهة بين السلطة السياسية والصحافة هي مسألة قديمة طبعًا. وستظلّ حاضرة. إنه صدام بين ضرورات التكتّم على معلومة أو خلل، وعدم الخروج عن النص الذي تحاول إملاءه السلطة السياسية؛ وبين الجهة التي يُتوقع منها ويُفترض بها كشف الجوانب غير المشرقة في أداء الأولى، حتى لو عملت الاثنتان في نسق هيمنة اجتماعيّ واحد. هذه الجملة الأخيرة جاءت للاستدراك، لأن التعارض ليس قيميًا بالضرورة. قد يكون صدام مصالح أيضًا، كأن تمثل الصحافة تيارًا ما في المؤسسة الحاكمة، يعارض تيارًا آخر يحتلّ الحكم في الوقت الراهن. هذا مثلا وضع نتنياهو: معارضوه في الإعلام العبري ليسوا ثوريين جذريين مناهضين للمؤسسة والنظام وسياساته العميقة. بل هم شركاؤه في المؤسسة الصهيونية الحاكمة بنطاقها الواسع. يجدر الانتباه إلى هذا وعدم تحميل الأمور فوق سعتها.

لكن نتنياهو يتميّز بأنه من صنف الزعماء الذين وضعوا الصحافة على مهدافهم بصفة عدوّ، بغير قليل من الهوس. قبل تناوُل حيثيات من أدائه في هذا الباب، يجدر التنويه بواقعتين من النظام الذي يشكل نموذجًا يُحاكى ويُحتذى بالنسبة للمذكور: إنه نظام الولايات المتحدة الأميركية. فبعد انتهاء حكم الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون (1969-1974) تم تسريب تسجيل بينه وبين أحد مساعديه وصف فيه الصحافة بقوله: "إن الصحافة هي عدوتنا. عدوتنا، هل تسمع؟ لأنها تحاول غرس السكين في أجسادنا". اليوم لا حاجة لتسجيلات ثم تسريبات من أجل فهم وجهة نظر الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب. لأنه يقولها علانية من خلال سيل كتاباته على "تويتر": "إن صحافة الأخبار المضللة (نيويورك تايمز، إن بي سي نيوز، آي بي سي، سي بي إس، سي إن إن) ليست عدوي أنا، بل عدو الشعب الأميركي".

هذا الموقف الرجعي من الصحافة - رجعي لأنه محافظ يرفض توسيع الأفق والسياق ومساحة الجدل والنقد، وبالتالي الوعي - هو موقف يحمله بدرجة تعصّب ربما أشدّ، زعيم يمين إسرائيل. فهو يصرّ على التمسّك بزمام الوزارة القادرة على التأثير والتدخّل في صياغة جهاز الصحافة والإعلام عمومًا: وزارة الاتصالات. وحين اضطر مؤخرًا لرفع قبضته عنها لمقتضيات قضائية، سأشير إليها بعد قليل، اهتمّ بنقل محدود لا أكثر للصلاحيات، إلى أحد أكثر الوزراء ولاءً له، تساحي هنغبي.

ملاحقة المنتقدين ودعم المحابين

بدأت وزارة الاتصالات في إسرائيل عملها كوزارة للبريد عام 1952. وحملت اسمها ووظيفتها الجديدتين عام 1971 "كجهة لنـَظم سياسة الرقابة والإدارة لمسائل طيف موجات البث" (موقع الوزارة). هذه الصلاحية تمنح الحكومة تأثيرًا وقوّة في تخصيص مساحات البث و"صناعة الإعلام" وهوية أصحابه. تعرّف الوزارة سياستها في مجال البث الجماهيري كالتالي: "لبرلة متمحورة في تطوير تنافس في سوق الإعلام" و"انفتاح على التنافس والخصخصة (...) من منطلق أن الانفتاح على التنافس يؤدي إلى النمو، زيادة الاستثمارات الأجنبية في البلاد، زيادة أماكن العمل، خفض الأسعار" وغيرها. من صلاحيات الوزارة: منح تراخيص وإجراء رقابة على شركات تزويد خدمات الاتصالات، بينها شركة الهواتف "بيزك"، ومنح تراخيص وإجراء رقابة على خدمات التلفزيون ورسومها.

هذا التوجه الذي يضع "الانفتاح والخصخصة"، قيم الرأسمالية الأساسية، بوصلة له، حين يترافق مع صلاحيات للتحكم بمساحات البث التلفزيوني وتنويعته، يتحوّل إلى أداة هامة هائلة القوّة للتحكّم بأيدي السياسي.

مثال: معروف عن نتنياهو مثلا قيامه بحملة ملاحقة علنية ضد "القناة العاشرة" لأنها كشفت عددًا من الملفات التي يشتبه بارتكابه مخالفات فيها، ولأن معلقيها يكثرون من انتقاده هو وحكومته. فجرت محاولات لإغلاق القناة وخنقها ماليًا، من خلال استغلال أطر برلمانية تتحكم بها أحزاب الحكومة. بالمقابل، جرى إعطاء ترخيص لبث نشرات إخبارية لـ"القناة 20" ذات الميول الدينية واليمينية بحكم تعريفها "قناة التراث اليهودي"، وذلك للتأثير على "نغمة النقد" والقصة المسرودة في المشهد الإخباري.

مع تواتر الكشوفات عن الشبهات التي تلف رئيس حكومة اليمين، قدّم زعيم حزب "المعسكر الصهيوني" إسحاق هيرتسوغ، الشهر الفائت، التماسًا إلى المحكمة العليا ضد مواصلة حيازة نتنياهو حقيبة الاتصالات بسبب تضارب المصالح الناجم عن علاقاته مع الملياردير أرنون ميلتشين الذي يشتبه بحصوله منه على "هدايا" و"عطايا" بمئات ألوف الشواكل، وهو الذي يحوز حصة من ملكية "القناة العاشرة". كذلك، أشار الالتماس، جرت تحقيقات مطوّلة مع نتنياهو بشأن اجتماعاته السرية مع أرنون موزيس، صاحب جريدة "يديعوت أحرونوت" التي تناولت تقليص انتشار جريدة "يسرائيل هيوم" المنافسة للأولى، مقابل نيل تغطية إعلامية أكثر إيجابية من جهة موزيس.

المحكمة أمرت نتنياهو بتسويغ عدم تنازله عن حقيبة الاتصالات. لكن قرار نتنياهو كان، كعادته، ملتويًا. لم يفلت الوزارة من يديه بل قام بنقل صلاحيات حيازتها إلى الوزير المؤتمن والمقرّب منه هنغبي، ولمدة ثلاثة أشهر فقط، (وهي الفترة القصوى التي يسمح بها القانون لأيّ نقل مؤقت للصلاحيات). "وبعد هذه الفترة سنتخذ قرارات"، علّق نتنياهو. لكن هيرتسوغ من جهته رفض الخطوة وأعلن مواصلته هو وحزبه إجراءات الدعوى القضائية ضده.

عقيدة الخصخصة وهوَس التحكّم

العداء الذي يكنّه ويعلنه ويحمله رئيس حكومة اليمين الإسرائيلي للصحافة، يشكل أكبر راياته السياسية. فلطالما اتهم وسائل الإعلام بالتآمر لإسقاطه وحزبه من الحكم، في إشارة إلى نشر معلومات مسرّبة من تحقيقات الشرطة معه في عدد من الملفات التي تفوح منها رائحة شبهات الفساد واستغلال الصلاحيات لأغراض نفعية شخصية. مثلا، كتب على صفحته في موقع "فيسبوك" قبل أسابيع: هناك حملة مبلورة للضغط على النائب العام وجهات أخرى في النيابة العامة لتقديم لائحة اتهام ضدي. ويجري يوميًا توزيع كلمات منتقاة بدقة تتضمن الكذب المقصود.

وسبق ذلك إطلاقه حملة تجريح عنيفة كانت في مركزها الإعلامية البارزة في القناة التلفزيونية الثانية د. إيلانه دايّان متهمًا إياها "بالمشاركة في مؤامرة" لإسقاط حكومته. وقد رفض أن تجري دايان حديثا معه في إطار برنامجها الاستقصائي "عوفداه" عن أسلوب عمل مكتبه، والدور الذي تلعبه زوجته سارة في تعيين المسؤولين. وبعد ذلك أرسل مكتب نتنياهو للإعلامية بيانا مكتوبا مليئًا بالتهجم والتجريح. ولوحظ دمج عبارات/ اتهامات بـ"اليسارية" في البيان. وزعم أن "ثلثي الإسرائيليين يعتقدون أن وسائل الإعلام لها ميول يسارية". ولوّح مهددًا بضرورة "إجراء إصلاحات في هيئة البث العامة". ولوحظ هنا استخدامه لعقيدة "انفتاح السوق والخصخصة" لتبرير تهجمه العنيف، بالقول إن "برنامج دايان (...) يبين على نحو مثالي سبب احتياج صناعة الإعلام للإصلاح. وأنا عازم على فتح السوق أمام المنافسة لإتاحة المزيد من تنوع الآراء".

المختصون في الشأن الإعلامي لاحظوا ما سُمي "الفوضى الإعلامية" التي أنتجتها توجهات نتنياهو الراغبة في الهيمنة. المحامي إلعاد مان المستشار القانوني لمؤسسة "سيفنث آي" المعنية بمراقبة الإعلام علّق قائلا: "ما نراه هو محاولة شاملة من نتنياهو وحكومته للسيطرة على كل أشكال الإعلام".

شبكات الإعلام العالمية اهتمّت هي الأخرى بالموضوع لحدّة التهجمات وشدة الحملة. مثلا، كتبت وكالة "رويترز" عن موافقة نتنياهو في 2014 على إقامة شبكة إعلامية عامة جديدة بديلة لـ"سلطة البث" الحالية التي طالما وصفها بأقذع النعوت. وأعلن أن الشبكة الجديدة ستكون جاهزة للانطلاق في كانون الثاني. واستعانت المؤسسة الجديدة بالفعل بخمسمئة موظف وخططت لضم 150 آخرين. لكن نتنياهو يرغب الآن في وقف العملية. ولم يعلن السبب لكن حلفاءه تحدثوا عن ارتفاع التكاليف بينما قال رئيس ائتلافه دافيد بيتان في تشرين الأول إن السبب هو تحيزها ضد نتنياهو، واحتواؤها "أناسًا لهم أجندة يسارية ومناهضة للحكومة والمؤسسة". نتنياهو لا يكتفي بهيمنته المستمدة من جريدة "يسرائيل هيوم" التي يملكها ملياردير القمار الأميركي شلدون إدلسون. ويعتبر مراقبون رئيس حكومة اليمين "محررًا خفيًا" لها ما جعل منظمة "فريدم هاوس" المعنية بحرية الإعلام تخفض تصنيف إسرائيل إلى "حرّة جزئيا". وشبه بعض المعلقين الإسرائيليين نتنياهو بالرئيس التركي أردوغان كإشارة إلى حملات التطهير ضد الصحافة والصحافيين.

أداة للتحكم بنوعيّة المعلومة

وزارة الاتصالات كأداة للتحكم بنوعيّة المعلومة التي يُسمح ببثها ويشترط بمطابقتها رؤى السلطة، تجسدها القصة التالية: قبل نحو أربعة أشهر قرر مدير عام الوزارة، اسمه شلومو فيلبر، ومعروف عنه قربه من أكثر حلقات اليمين الاستيطاني انغلاقًا وتشددًا، أن يعاقب محطة تلفزيونية لم ترُق له ولرؤسائه صورة تغطيتها للواقع. وهكذا، أوقف الدعم الذي قدمته الوزارة لقناة اسمها "القناة الاجتماعية" مبرًرًا ذلك بمقولة تخوينية من الوزن الثقيل: "التآمر تحت أركان الدولة ومنح منبر لنزع شرعية جنود الجيش الإسرائيلي".

لماذا؟

مجموعة منظمة من جنود الاحتياط طلبت من الحكومة وقف دعم "القناة"، والمقدّم لها من خلال أربع وظائف تؤديها مجندات في "الخدمة القومية" وهي بديلٌ عن الخدمة العسكرية. منظمة جنود الاحتياط تلك ادّعت أن "القناة" عبارة عن "منظمة تنشط ضد دولة إسرائيل، تدعم رفض الخدمة العسكرية وتغطي نشاطات الـ BDS بشكل إيجابي". وقد سارع لدعم هذا الموقف الزعيم في حزب المستوطنين "البيت اليهودي" ووزير الزراعة أوري أريئيل. وتنوّعت الاتهامات بمختلف الألوان للقناة الاجتماعية: معادية للصهيونية، مؤيدة للمقاطعة، متآمرة على الدولة وقس على ذلك. كذلك "جرّمت" أوساط اليمين "القناة" لأنها نشرت مقالا اعتبر إحدى جرائم الاحتلال الإسرائيلي خلال العدوان على قطاع غزة عام 2014 "إرهاب دولة أو إرهابًا منظمًا".

هذا هو شكل الصلاحيات وتطبيقاتها التي يريد نتنياهو التمسك بها من خلال اختبائه خلف ستار من الدخان المؤلف من اتهامات للصحافة بـ "اليسارية". الصحافة التي يهاجمها ليست يسارية بأي شكل. أما الأصوات اليسارية أو المختلفة فعلا فهي التي تسارع أذرعه لاقتناصها وسط صمت الصحافة المهيمنة، نفسها. مفارقة؟ ليس بالضرورة، فكما ورد أعلاه: هذا وذاك، السياسي والإعلام الطاغي، جزء من المؤسسة المهيمنة نفسها..

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات