طريق مسدود

على الرغم من إعلان الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني بأنهما ملتزمان بحل الدولتين استنادا إلى حدود العام 1967، إلا أن الفجوات فيما يتعلق بشروط وكيفية التنفيذ ظلت قائمة على حالها.

إن من الصعب على المرء الشعور بالمفاجأة، بعد عقدين من المفاوضات العقيمة، إزاء حقيقة أن كل طرف من الطرفين يشكك كثيرا في رغبة وقدرة الطرف الآخر على إبداء مرونة من أجل التوصل إلى تسوية دائمة. فالفلسطينيون يرون في مواصلة أنشطة البناء في المستوطنات في الضفة الغربية برهانا على أن إسرائيل لا تنوي التخلي عن مناطق واسعة، وفي تقديرهم فإن حكومة اليمين لن تقوم بإخلاء مستوطنين من منازلهم نظرا لأنها لا ترغب، بل وربما غير مؤهلة أو قادرة على إخلاء عشرات آلاف المستوطنين، والذين يمكن للكثيرين منهم أن يقاوموا ذلك جسديا. وثمة فرضية أخرى مؤداها، وفق ذات المنطق، أن الحكومة الإسرائيلية الحالية لن تكون مستعدة، إذا ما حانت "لحظة الحقيقة"، لتقديم التنازلات المؤلمة الضرورية بغية الوصول إلى نقطة مشتركة مع معظم التنازلات الفلسطينية. وهذه الشكوك يمكن أن تفسر إصرار الجانب الفلسطيني على الحصول على إثبات بشأن جدية النوايا الإسرائيلية وذلك عن طريق تجميد البناء في المستوطنات وإيضاح خط الحدود المستقبلية والإفراج عن الأسرى والمعتقلين كشرط لاستئناف المفاوضات.

في المقابل تشكك حكومة إسرائيل في قدرة السلطة الفلسطينية على الالتزام بالاتفاق وتطبيقه، وذلك بسبب ضعفها وفقدان شرعية القيادة الفلسطينية في نظر الجمهور الفلسطيني والفجوات الواسعة بين السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وسلطة حماس في قطاع غزة.

ومن الملاحظ أن انعدام الثقة وغياب القدرة على جسر الفجوات يشهدان مزيدا من التعاظم وذلك بسبب إنعدام التناظر بين الطرفين. فإسرائيل دولة قوية ومزدهرة، تسيطر فعليا على الحياة اليومية للفلسطينيين، بينما تقف في مقابلها سلطة تفتقد إلى القدرات السياسية الكاملة وتعتمد بصورة تامة على المساعدة الاقتصادية والسياسية الدولية، فضلا عن أن وجودها وعملها منوطان بقرارات حكومة إسرائيل.

وقد أدى انعدام التناظر هذا إلى تجوهر الغاية الفلسطينية من المفاوضات في تكريس نصي للحقوق الفلسطينية قبل أي مفاوضات حول اتفاق قابل للتنفيذ كما أدى إلى توجه يقوم على "إما الكل أو لا شيء".

في ضوء الفجوات والعوائق المذكورة يبدو أن كلا الطرفين غير واثقين بالقدرة على التوصل إلى تسوية، كما أن كليهما يجني فائدة، كما يبدو، من الطريق المسدود الذي وصلت إليه المفاوضات الثنائية.

عودة إلى التوجه السيروراتي

في ضوء الظروف الحالية فإن السبيل الوحيد الممكن للإبقاء على العملية السياسية والمحافظة على خيار حل الدولتين وإعادة بناء الثقة، يتمثل في العودة إلى التوجه السيروراتي. إن استمرار الجمود يعني زيادة أعداد السكان (المستوطنين) اليهود في الضفة الغربية وبالتالي ازدياد الصعوبات في إخلاء هؤلاء السكان. جنبا إلى جنب هناك إشارات تحذير فيما يتعلق بقدرة السلطة الفلسطينية على مزاولة الحكم لفترة زمنية طويلة بنجاعة ومسؤولية، من دون حدوث تغيير جوهري في الوضع يؤدي إلى تحسين نسيج حياة السكان الفلسطينيين وتطوير إقتصادي للدولة الفلسطينية.

ثمة في الوقت الحالي نضوج دولي وإقليمي للقبول بأي طريق يتيح الخروج من الطريق المسدود. إن تسلم إدارة الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، لمهام عملها يتيح اقتراح توجه مختلف وعدم التمسك بنموذج التسوية الدائمة وحل جميع المشاكل دفعة واحدة. إن الاتفاقيات الانتقالية هي الإمكانية الوحيدة لبناء واقع دولتين بصورة تدريجية، وسط وضع أهداف قصيرة الأمد وقابلة للتحقيق على الأرض، وذلك بموجب الصيغة أو المعادلة القائلة إن "كل ما يُتفق عليه سيطبق"، وتعزيز مكونات وعناصر التنسيق والتعاون مع السلطة الفلسطينية، وتجنيد الدعم والتدخل من جانب الولايات المتحدة والمجتمع الدولي و"اللجنة الرباعية العربية".

ولهذا الغرض هناك حاجة للخطوات التالية:

الاقتصاد والبنية التحتية: القيام بخطوات لتقليص الفجوات العميقة والمشكلات الاقتصادية لدى الفلسطينيين، والتي تؤدي إلى شعور باليأس واندلاع أعمال عنف أحيانا. ويمكن في هذا الإطار زيادة عدد تصاريح العمل في إسرائيل للعمال القادمين من الضفة الغربية ومن قطاع غزة أيضا للعمل في المستوطنات المحيطة بالقطاع، والعمل على إقامة بنى تحتية حيوية في الضفة والقطاع في مجالات المياه والكهرباء والغاز والصرف الصحي والمواصلات والسكن، وتشجيع إقامة مناطق صناعية وتجارية في الضفة والقطاع في إطار تعاون إقليمي ودولي. وفي المرحلة الثانية إبداء استعداد لإعادة فتح وتحديث بروتوكول باريس الذي ينظم العلاقات الإقتصادية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية.

حركة المرور والوصول: تحسين ترتيبات وأنظمة مرور الأفراد والبضائع بين قطاع غزة والضفة الغربية عن طريق جسر اللنبي بين الضفة الغربية والأردن، وذلك من أجل دمج الضفة والقطاع في علاقات تجارية إقليمية وعالمية، على أن يكون هناك استعداد في مرحلة لاحقة، إذا ما استتب الهدوء والاستقرار وتوفرت مساعدة إقليمية ودولية، للسماح بإقامة ميناء في غزة يتم تشغيله من جانب طرف ثالث ويستجيب في الوقت ذاته لمتطلبات إسرائيل الأمنية.

توطيد استقرار السلطة الفلسطينية: وذلك عن طريق توفير الظروف التي تتيح مستقبلا إقامة دولة فلسطينية مسؤولة ومستقرة قادرة على أداء عملها، والعمل في الوقت ذاته على إيجاد الظروف الملائمة للمفاوضات ولعمليات تتم "من أسفل إلى أعلى" وذلك من أجل تقوية مؤسسات الحكم والبنى التحتية للدولة الفلسطينية "القادمة"، بالإضافة إلى تحسين قدرات أجهزة أمن السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وتوسيع نطاق سيطرتها وسلطتها لتشمل كامل الحيز الفلسطيني المأهول وسط التأكيد على مهام المحافظة على القانون والنظام وتفكيك بنى الإرهاب.

سياسة تفاضلية في موضوع البناء في المستوطنات: في المرحلة الأولى تجميد أنشطة البناء والاستثمار في المستوطنات المعزولة في عمق المنطقة الفلسطينية، ومواصلة البناء في الكتل الاستيطانية المتاخمة "للخط الأخضر" وفي القدس الشرقية، على أن يتم في مرحلة لاحقة بذل جهد إسرائيلي لتفكيك مواقع استيطانية غير مرخصة.

أرضية للاستمرار: بمقدار ما تتحسن ظروف حياة السكان الفلسطينيين، سيتحسن مستوى أداء السلطة ومستوى التنفيذ من جانب أجهزتها الأمنية، وسوف تنشأ ديناميكية بناء ثقة بين قادة ومجتمعي الطرفين، كما ستتبلور ظروف مريحة أكثر لإجراء مفاوضات لخلق واقع دولتين حتى في حال عدم نجاح الطرفين في جسر الفجوات المتعلقة بقضايا التسوية الدائمة. وعلى فرض أنه سيتم إحراز تقدم في أداء السلطة الفلسطينية وفي التنسيق بين الجانبين، سيكون في وسع إسرائيل الاعتراف بدولة فلسطينية في حدود مؤقتة بناء على "خريطة الطريق".

تلخيص

إن تراكم سلسلة من النجاحات والإنجازات الصغيرة في إطار التوجه السيروراتي المرحلي يعتبر توجها أكثر واقعية من التوجه نحو التوصل إلى اتفاق نهائي كامل دفعة واحدة.

إن من شأن مثل هذا التوجه أن يوفر للطرفين بيئة حياة ملائمة أكثر تساهم، خطوة بعد أخرى، في إيجاد واقع على الأرض، يتجه شيئا فشيئا نحو وجود دولتين. كما أن توفر دعم إقليمي من جانب حكومات عربية وسُنية لها مصلحة في إنهاء النزاع، من شأنه أن يساهم في تحويل هذه التسويات والحلول المؤقتة إلى واقع، بحيث تقدم أنظمة الحكم في هذه الدول للفلسطينيين الضمانات اللازمة بأن هذه التسويات المؤقتة لن تتحول إلى تسويات دائمة، وتوفر لإسرائيل في المقابل حوافز للتمسك بوجوب إحراز تقدّم في العملية السياسية. إلى ذلك فإن هذه الصيغة توفر فرصة للإدارة الأميركية الجديدة لإثبات أنها غير منقطعة أو منفصلة عن مشكلات الشرق الأوسط، وإنما هي ملتزمة بالعمل على دفع حلول وتسوية خلافات. إن الامتناع عن تقديم مثل هذا الدعم يعني إخلاء الساحة للأصوات المتطرفة التي ترفض المساومة ولا تأخذ بالحسبان الانعكاسات البعيدة المدى.

______________________________

(*) أودي ديكل- عميد احتياط وباحث كبير في "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب. إيما بتراك- مساعدة بحث في "معهد دراسات الأمن القومي". هذا المقال ظهر في العدد الأخير (كانون الثاني 2017) من فصلية "عدكان إسترتيجي" (المستجد الإستراتيجي) الصادرة عن المعهد. ترجمة خاصة لـ"المشهد الإسرائيلي": نُشر القسم الأول من هذه الدراسة في العدد السابق (7/2/2017).