المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

قدّم مكتب مراقب الدولة الإسرائيلية، بتاريخ 18.1.2017، تقريرًا غير مسبوق إلى الحكومة الإسرائيلية حول عمل وأداء وحسابات الجهاز المسمى "كيرن كييمت ليسرائيل": الصندوق القومي الإسرائيلي.

وأشار التقرير في عنوانه الرئيس إلى "معلومات حول مخاوف من مخالفات جنائية" في "الصندوق".

وهذه هي المرة الأولى التي يتعرض فيها "الصندوق" لرقابة بهذا المستوى الرسمي، على الرغم من أنه يملك ويدير أموالا ضخمة جدًا ولديه صلاحية التصرف بمساحات أراضٍ هائلة، تقع تحت تعريف "أراضي الشعب اليهودي".

ويبدو أن هذا التعريف بالذات هو ما أعفاه لعقود عديدة من المتعارف عليه قانونيًا بخصوص سائر الأراضي. فـ"أراضي الشعب اليهودي" ليست أراض كبقية أراضي البشر، بل مصطلح يُسقط الكثير من الرّهبة على المسامع الصهيونية.. وهو ما منح "الصندوق" والحكومات مساحة مناورة واسعة للتصرف بالأراضي بما يخدم أهدافًا ومصالح سياسية تحت عنوان "المصلحة القومية".. "الصندوق" بوصفه "المؤتمن على أملاك الشعب اليهودي"، يقع فوق الدولة نفسها. أبرز ما يميّز ذلك الوصف أنه فضفاض، سواء من ناحية إمكانية ضبطه ببنود وملاحق وشروحات قانونية، أو من ناحية إمكانية تفكيك الشحنة الأيديولوجية التي تلفّه، نحو "تطبيعه" مع مفاهيم الدول المدنيّة الحديثة.

مراقب الدولة يحدد بدوره حرفيًا المكانة الخاصة المُعطاة لهذا الجهاز هائل القوّة. فيكتب في مقدمته أنه أقيم عام 1901 "بموجب قرار المؤتمر الصهيوني التابع للمنظمة الصهيونية العالمية، من أجل شراء الأراضي في أرض إسرائيل بأموال تبرعات الشعب اليهودي، بهدف تحقيق الرؤيا الصهيونية المتمثلة بالاستيطان اليهودي في البلاد والسكن فيها".

وعن شكل العلاقة التي تربط "الصندوق" بالحكومة/ات الإسرائيلية يقول المراقب: "بموجب اتفاقية وقع عليها (الصندوق) مع الحكومة في العام 1961 يُعتبر مؤتمنًا من طرف الدولة في موضوع تطوير أراضي إسرائيل". وهو يفصّل مجالات تطبيق صلاحيات أو سلطة "الصندوق" كالتالي: "كل مجال التحريج ومشاريع في مجال تأهيل الأرض وتطويرها مثل التأهيل الزراعي، شق طرقات السلامة الزراعية، تأهيل البنى التحتية للبلدات الجديدة في الضواحي، إقامة مصادر مائية وإعادة تأهيل الوديان والتطوير البيئي الصديق للبيئة في السلطات المحلية".

"إنقاذ" الأرض... منّا نحن!

يتناول التقرير في معظم فصوله فترة عمل "الصندوق" خلال السنوات 2011- 2014 إذ "موّل تنفيذ 797 مشروعا في مختلف أنحاء البلاد، بكلفة مالية إجمالية بلغت نحو962 مليون شيكل".

ملاحظة: خلال السنوات المذكورة، بلغ إجمالي ميزانية "الصندوق" أو الأموال تحت سيطرته، نحو 7ر1 مليار شيكل.

يعرّف مراقب الدولة دور هذه المنظمة الصهيونية كالتالي: إن عمل الصندوق يندرج في إطار "نشاط جماهيري يتم تمويله بالأساس من أموال الشعب اليهودي التي تم التبرع بها في الغالب قبل قيام الدولة بهدف إنقاذ الأرض (إنقاذها مِنّا نحن الفلسطينيين! – هـ. ن) وتطويرها. وعليه، فإن تخصيص الموارد لتمويل هذه المشاريع يجب أن يتم بناء على المبادئ الموجهة الأساسية: الشفافية، النزاهة وتفادي الاعتبارات غير الموضوعية". وينوّه إلى أن "الدولة أهملت، ولمدة عشرات السنوات، حقها بموجب الاتفاقية وواجبها الجماهيري بأن تكون مشاركة وضالعة في نشاط الصندوق القومي الإسرائيلي ومراقبته، ولم تمنع حصول العيوب المشار إليها في هذا التقرير. كذلك تم الحديث عن عيوب جدية في كل ما يتعلق بالحسابات المالية بينه ("الصندوق") وبين الدولة والتي تم تحديد ترتيباتها في إطار الاتفاقية" (من العام 1961 كما ذُكر أعلاه).

وفقًا للتقرير، تتم إدارة الأراضي ضمن التوزيعة التالية: نحو 93% من مساحة دولة إسرائيل هي أراضي إسرائيل وتدار بائتمان "سلطة أراضي إسرائيل" المسؤولة عن تخطيط الأراضي، تطويرها وتسويقها؛ نحو 70% من مساحة الدولة تملكها الدولة، ونحو 11% تملكها "سلطة التطوير" ونحو 12% (حوالي 5ر2 مليون دونم) يملكها "الصندوق القومي". نموذج: في منطقة وسط البلاد، حيث سعر الأرض هو الأعلى، يسيطر "الصندوق" على ثلث الأراضي وكان المدخول من "إدارة الأراضي" في السنوات 2011 - 2015 حوالي 6ر9 مليار شيكل؛ وهي ميزانية تفوق ميزانية وزارات بأكملها.

الفحص الذي أجراه "المراقب" في الفترة الممتدة من آب 2014 حتى تشرين الأول 2015، تناول تطبيق بنود الاتفاقية بين "الصندوق" وبين الدولة بشأن "تطوير أراضي إسرائيل"، بما في ذلك "سياسة التطوير" الخاصة بالمشاريع المختلفة، عملية اتخاذ القرارات حول المشاريع والخطة العامة التي تشملها وتحديد ميزانياتها.

وجرى كذلك فحص الحسابات المالية المتبادلة بين الدولة وبين "الصندوق".

وهنا يتوقف التقرير بملاحظة مفاجئة وغريبة:
"نشير إلى أن قسمًا من مستخلصات الرقابة الخاصة بتلك الحسابات المالية لا يتضمنها هذا التقرير. الطلب الذي قدمه "الصندوق القومي الإسرائيلي" لفرض السريّة على ذلك القسم، وفقًا للبند 17 من قانون مراقب الدولة، من العام 1958، يمثل الآن في إجراءات فحص لدى اللجنة الفرعية التابعة للجنة رقابة الدولة التابعة للكنيست". وسأعود إلى هذه الموضوعة المركزية بعد قليل.

أرضية خصبة لتجاوزات ومخالفات

العيوب الأساسية التي عثر عليها "المراقب" هي: عدم تعيين وزير مسؤول عن تطبيق اتفاقية الدولة و"الصندوق"؛ غياب الدولة عن سياسات تطوير الأراضي التي يضعها "الصندوق"، خلافًا لنص الاتفاقية بأن يتولى الموضوع "مجلس تطوير" مشترك لـ"الصندوق" والحكومة (بخصوص المشاريع المخططة،، أولوياتها، مواقعها، ميزانياتها..). وهكذا، يقول التقرير: "على مدى عشرات السنين حدّد "الصندوق" وحده سياسات تطوير الأراضي، بما في ذلك أنواع المشاريع ومواقعها. وتجاهلت حكومات إسرائيل حقها وواجبها المنصوص عليه في الاتفاقية، بالتأثير على تحديد أولويات عمل "الصندوق" بشأن تطوير أراضي إسرائيل، وبمعظمها بملكية الدولة".

هنا، وفقًا للمراقب، لم يقدّم "الصندوق" أية تقارير للحكومة، وهذه الأخيرة لم تسأل ولم تطلب (رسميًا!).

هذا المعطى يعني ما يلي: هذه المساحة الواسعة الشاسعة "المهملة" من ناحية رسمية، أي من ناحية توثيقها في أوراق وبروتوكولات وحسابات، شكّلت أرضية خصبة لتجاوزات ومخالفات عديدة، وفقًا لشبهات أشار اليها في سلسلة تحقيقات لافتة الصحافي رفيف دروكر في القناة التلفزيونية العاشرة، وكانت عمليًا المحرّك لإجراء فحص مراقب الدولة.

يشير التقرير إلى قصورات ذات طابع إداري، تفتح الأبواب هي أيضًا على شبهات القيام بمخالفات ومقايضات في مصالح سياسية ومالية. مثلا: لقد عمل "الصندوق" باستقلالية وبشكل منفصل مقابل وزارات مختلفة. وبالرغم من وجوب العودة إلى "مجلس التطوير" سابق الذكر، بمشاركة الحكومة، في تحديد مشاريع وأولويات، كانت كل وزارة تعمل منفردة على إقناع مسؤولي "الصندوق" بدعم مشاريعها الخاصة. هذا الوضع منع، وفقًا للمراقب، وضع سياسة منهجية واضحة حول تطوير الأراضي، وفتح الباب على "تخصيص مزدوج لميزانيات" بشأن مشاريع ومواقع جغرافية ووزارات. وكما يكتب: "إن عدم ضلوع الدولة أبقى لدى "الصندوق" ليونة ومساحة غير محدودتين لإقرار إطار ميزانيات تطوير الأراضي وتوزيعتها، وهو ما لم يتم أحيانًا على أساس أصول الإدارة السليمة".

مثلاً، يشير المراقب إلى إقرار مئات المشاريع بمئات ملايين الشواكل سنويًا "وفقًا لاعتبارات غير معروفة وغير واضحة" لأنه لم يتم تحديد اعتبارات كهذه أصلا. والإجتماعات التي اتخذت تلك القرارات كانت بدون بروتوكولات، لم يسجّل أحد ما قيل فيها وما دار من أبحاث ونقاشات، وبالتالي فمسوّغاتها غير قابلة للمتابعة والفحص، وكذلك الأمر اعتبارات وميول متّخذي القرارات. على سبيل تجسيد الوضع، يشير التقرير مثلا إلى اجتماع لمجلس إدارة "الصندوق" عام 2014 قيل فيه ما يثير شبهات قوية بالفساد، كالتالي: "لا يوجد هنا ولو عضو واحد لا يهتم بالجهة التي يمثلها، من أصغرهم إلى أكبرهم. الجميع يهتمون بمن يمثلونهم ويتلقون أموالا". هذه الأقوال "الخطيرة"، كما يصفها التقرير، و"الصمت الضاجّ" عليها "مقلقة جدًا وتشعل ضوءًا تحذيريًا".

يعدّد التقرير حالات تم فيها إقرار مشاريع عينيّة وصرف ميزانيات عليها. إحداها تخص مستوطنة "كتسرين" المقامة على الأراضي السورية المحتلة عام 1967 في الجولان. يكتب أن "الصندوق" اتّخذ قرارًا عام 2012 بتطوير "ييشيفاه" (مدرسة دينية) من خلال "التنفيذ الذاتي للمشروع" أي أن يقوم "الصندوق" بالعمل، لكن تم تغيير القرار عام 2013 بحيث يدفع "الصندوق" تكاليف التطوير، وكل هذا بدون عقد اجتماع للجنة الإدارة. مدير عام "الصندوق" قام بإبلاغ المستوطنة المذكورة بالأمر، ولكن بسبب وجود إفادات متناقضة، لم تتضح هوية المسؤولين عن تغيير القرار.

لكشف القسم الملفوف بالسريّة والظلام!

أعود للفقرة المفاجئة في التقرير والتي كتبها المراقب في تقريره وفي ملخّص التقرير: "نشير إلى أن قسمًا من مستخلصات الرقابة الخاصة بتلك الحسابات المالية لا يتضمنها هذا التقرير. الطلب الذي قدمه "الصندوق القومي الإسرائيلي" لفرض السريّة على ذلك القسم، وفقًا للبند 17 من قانون مراقب الدولة، من العام 1958، يمثل الآن في إجراءات فحص لدى اللجنة الفرعية التابعة للجنة رقابة الدولة التابعة للكنيست".

ليست الفقرة مفاجئة لندرتها. فكثير من تقارير المراقب تتضمن فصولا مخفيّة سريّة تحت طائلة الأمن. ولكن لماذا تضفى سريّة على صفقة بين الحكومة وبين "الصندوق القومي"؟ أية علاقة للأمن بهذا؟ وحتى لو طلب "الصندوق" التستّر لماذا يستجيب المراقب؟ وإذا استجاب فلماذا يشير للأمر؟ ربما أن الفترة القريبة ستحمل إجابات، إذا اجتهد أصحاب الشأن لكشف القسم الملفوف بالسريّة والظلام!

صحافي القناة العاشرة دروكر كشف في برنامج التحقيقات "همكور" تفصيلاً وجيزًا من ذلك القسم في تقرير المراقب. وهو يتعلّق وفقًا له بقيام حكومة إسرائيل بتحويل 51 ألف دونم في الجليل إلى "الصندوق القومي الإسرائيلي"، مقابل تلقي أراضٍ بديلة (لم تكشف مواقعها)، وذلك لغرض منع توسّع بلدات عربية في الجليل. الأمر يتم كالتالي: هناك أراضِ محيطة بالقرى والمدن العربية "بملكية الدولة"، وأضعها بين مزدوجين لأنها في الغالب أرض بملكية عربية صادرتها الدولة (سرقتها باللغة العربيّة) بشكل عنيف مباشر أو بشكل ملتوٍ تحت مختلف الذرائع (للصالح العام، لأغراض عسكرية، لدواع بيئية وإلى آخره..). هذه الأرض تشبه حلقة محيطة بالبلدات العربية تحدّ من تطوّرها سواء في البناء الإسكاني أو التطوير الصناعي والسياحي. الآن، طالما هي أرض بملكية الدولة (أرض عامة) يمكن للمواطنين العرب المطالبة بها، أما حين تحوَّل ملكيّتها لـ"الصندوق القومي اليهودي" فعندها لا يمكن للعرب المطالبة بها لأنها أرض "بملكية الشعب اليهودي" و"تم شراؤها بتبرّعات اليهود" وهي بالتالي مخصصة لليهود فقط. العالم مليء للأسف بالممارسات العنصرية. ولكن لا توجد في العالم كله عنصرية بهذه الدرجة المباشرة والسافرة من الوقاحة. بالتأكيد لا توجد.

المصطلحات المستخدمة:

مراقب الدولة, الصهيونية

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات