تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
طباعة
1425

"تكرست وتجذرت في الرأي العام الإسرائيلي جملة من المعتقدات، المسلمات، الخرافات والأكاذيب الهدّامة حيال الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، استوطنت عبر السنوات في وعي غالبية الإسرائيليين حتى أصبحت عصية على التغيير. وكجزء من المعركة من أجل التوصل إلى اتفاق سياسي، لزام علينا كشف هذه المعتقدات والخرافات وتفكيكها"- بهذه الكلمات يمهّد رامي ليفني، الباحث في مركز "مولاد- لتجديد الديمقراطية في إسرائيل" ومدير مشروع "بولي ـ أمل لقيادة سياسية اشتراكية ديمقراطية"، لمقالته التي يخوض خلالها، بالعرض والتحليل، في حالة "الخدر" التي انزلق إليها الرأي العام الإسرائيلي، عموماً، خلال السنوات الأخيرة واستسلامه الطوعي لسلسلة من الأكاذيب والأضاليل التي روّجتها وكرّستها السياسات الإسرائيلية الرسمية وماكينتها الإعلامية في كل ما يتعلق بالصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، خلفياته، مركّباته وآفاق حله.

ويرى ليفني أن "لا اعتراض ولا استئناف، إطلاقا تقريبا، من جانب الجمهور الإسرائيلي عامة، على ما كرسته سياسات حكومات اليمين في إسرائيل خلال السنوات الأخيرة بشأن القضية الفلسطينية"، وأن هذا يشمل، أيضا، "أوساط الوسط ـ اليسار التي لا تجادل في المكوّنات الأساسية للصورة التي رسمها اليمين"، بما في ذلك ـ مثلا ـ المسؤولية الفلسطينية الحصرية عن فشل "عملية السلام"، أو المطالـَبة المبدئية بالاعتراف بالدولة اليهودية، مع الإشارة إلى أن هذه الأوساط (الوسط ـ اليسار) لا تختلف "إلا في منطق التعليل، في الأسلوب وفي وتيرة ترديد الحديث عن "حل الدولتين"، أو في المسائل التكتيكية، وفي مقدمتها التركيز على ضرورة عدم استفزاز الولايات المتحدة".

وفي محاولة الإجابة عن السؤال "كيف تبلور هذا الإجماع الإسرائيلي، الشامل تقريبا؟"، يرى ليفني أن "ثمة جملة من الأسباب لذلك"، السبب المركزي من بينها هو "استقرار سلسلة من المعتقدات، المسلمات، الخرافات الهدامة في الوعي الإسرائيلي العام بخصوص الصراع". ويؤكد أن "هذه الفرضيات، التي لا يعدو بعضها كونه أكاذيب خالصة وبعضها الآخر دعاية محسوبة وبعضها الثالث استنتاجات واهية استنادا إلى معطيات جزئية منقوصة ـ تشيع بيننا، جميعا، شعوراً بالاطمئنان إلى أن إسرائيل تحكم سيطرتها على هذا الواقع المربك والمحمّل بالمخاطر، إلى جانب الإقرار المعزّي بأن إسرائيل على حق، دائماً".

ولئن بدا أن الحديث يتعلق بـ "مجرد كلمات، ليس إلا"، غير أن هذه الكلمات "تسدّ، بقصد متعمد، مجال الرؤية السياسي ـ الحزبي أمام الإسرائيليين"، "تُخرس أي صوت آخر، مغاير، في السجال العام حول موضوعة السلام، تهيمن عليه وتُفرغه من أي مضمون، بما يساعدها على وصم أي صوت آخر بأنه "مجرد هلوسة"، لتُفقِد الإسرائيليين عامة، في نهاية المطاف، قدرتهم على فهم الحالة الإسرائيلية ـ الفلسطينية بصورة موضوعية وعقلانية".

ويشدد الكاتب على أنه "ينبغي توجيه جزء أساس من المعركة من أجل اتفاق سياسي إلى هذه الحلبة وتركيزه فيها: الكشف عن هذه المعتقدات والمسلمات الشائعة ومحاولة تفكيكها، سعياً إلى إزالة المعيقات التي تحول دون التفكير المستقل، المنفتح، المتعقل، النزيه والناقد". ولتحقيق هذه الغاية، "لا يكفي دحض الحقائق والمعطيات التي يطرحها ويروجها اليمين وطرح حقائق ومعطيات بديلة لها، بل من الضروري تحدي البنى التفكيرية التي يرسخها اليمين، الاستئناف على الفرضيات الأساس المتحيّزة التي يعرضها وكأنها حيادية ومفهومة ضمنا".

وفي إطار هذا المسعى، يعرض ليفني "أربعة نماذج" تدلل على ما يكرسه اليمين الإسرائيلي من "معتقدات، مسلمات وأضاليل" في أربع قضايا جوهرية هي التالية:

1. جذور الصراع
الخرافة التي يروجها اليمين الإسرائيلي بشأن "جذور الصراع" تنهل من الآراء المسبقة الإسرائيلية حول "تلون العرب وازدواجيتهم، يضمرون غير ما يعلنون"، وهو ما عبر عنه رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، مؤخراً، في تعقيبه على خطاب وزير الخارجية الأميركي السابق، جون كيري، في الأمم المتحدة، حين قال (نتنياهو): "تحدث كيري عن المستوطنات على مدى أكثر من ساعة وبصورة استحواذية، دون أن يتطرق إطلاقاً إلى جذر الصراع ـ المعارضة الفلسطينية لدولة يهودية ضمن أية حدود، أيا كانت".

وللتدليل على بُطلان هذا الادعاء ومدى التضليل الذي ينطوي عليه، ذكّر الكاتب بأن إسرائيل وقعت على اتفاقيات سلام مع مصر والأردن من دون معالجة "جذور" المواجهة الإسرائيلية ـ العربية ودون أن تطالب إسرائيل بذلك، أصلاً، رغم أن "الغالبية الساحقة من مواطني مصر والأردن لم يكونوا، وليسوا اليوم أيضا، من محبّي صهيون، على الأقل... ناهيك عما يختلج في قلوب الإسرائيليين من مشاعر حقيقية حيال أولئك المواطنين". على أن "الشركاء في اتفاق سياسي ليسوا مطالَبين بأن يحبّوا بعضهم بعضاً"، لا بل "ليسوا ملزَمين بالتصريح بمشاعرهم، وإنما بأن يتعلموا الاتفاق والتعايش فقط"، على أساس ما تمليه "معطيات الواقع، محدوديات القوة، ميزان المصالح، الشرعية الدولية، الوعي بمنحى التطور الذي يسير فيه العالَم"، لأن "هذه، جميعها، تسبق "الجذر" في مساعي تسوية النزاعات... علاوة على أن "الجذر" في حد ذاته دينامي وآيل للتغيير، ولو بأثر رجعي"! فحينما يتم التوصل إلى حل قومي ـ تسوياتي لصراع مثل الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، قد تكون لهذا الحل إسقاطات متأخرة، لاحقة، على مفهوم "جذر الصراع" وطريقة التعامل معه، بحيث يصبح "قوميا لا دينيا، وسياسيا ـ عمليا لا ميتافيزيقياً".
فمنذ اللحظة التي أعلن فيها دافيد بن غوريون عن إقامة دولة إسرائيل في العام 1948، "أصبحت السيادة السياسية، بنظرة إلى الوراء، هي الهدف المطلق الذي سعى إليه المشروع الصهيوني منذ بدايته وأصبحت الصهيونية ذاتها هي الدواء والحل للمشكلة اليهودية، منذ نشوئها". وعليه، فقد أصبحت الدولة الإسرائيلية هي "جذر" الصهيونية، فيما أصبحت الصهيونية هي "جذر" المسألة اليهودية. وهو ما لم يكن من قبل، بالضرورة، إذ "كانت ثمة رغبات وتوجهات أخرى تنافست فيما بينها على طول الطريق، لكنها هُزمت بالحلّ الأخير"!

ويخلص الكاتب، في هذا الباب، إلى القول إن "هذا ما ينبغي أن يحدث مع الفلسطينيين أيضا، بحيث تحدد النهايةُ البدايةَ، وليس العكس"، بالافتراض أن "اتفاقية سلام جيدة وعادلة ستقود إلى أنه في اللحظة التي تقوم فيها دولة فلسطينية، بما ستخلقه من واقع حي جديد وبما ستطلقه من طاقات بناءة، سيصبح في مقدورها تضميد وإشفاء جروح ومواجع الماضي لدى الفلسطينيين، احتواء قصة التشريد واللجوء والتغطية على رواية الصراع المعادي للاستعمار أو الصراع الديني"! ذلك أن "الجذر الحقيقي للصراع هو الإيمان بأن ثمة جذراً للصراع"!

2. حق العودة
يستهل الكاتب معالجته لما تراكم من "معتقدات، خرافات، مسلمات وأضاليل" في الرأي العام الإسرائيلي في موضوعة حق العودة باقتباس ما كان كتبه البروفيسور شلومو أفينيري (المحسوب على "اليسار الإسرائيلي") في صحيفة "هآرتس" عن أن "المشكلة ليست الحدود، ولا المستوطنات، ولا حتى القدس... وإنما، جذر الصراع هو الموقف الفلسطيني الرافض للتخلي عن مبدأ حق العودة".

ويبقى السؤال في جوهر الادعاء: هل لم يتخل الفلسطينيون عن حق العودة، حقا؟

يجيب ليفني على هذا السؤال فيقول: "هذه بديهية متجذرة حقا، وهي عابرة للمعسكرات جميعها في إسرائيل، لكنها غير صحيحة". ذلك أن "الحقائق التي تراكمت في هذا الموضوع تفضي إلى تفسير موضوعي واحد فقط: لقد تخلوا عنه (عن حق العودة) في الواقع، عملياً (دي فاكتو)، وبصورة غير قابلة للرد أو العكس".

وفي تفسيره هذا الاستنتاج، يقول الكاتب إنه "في اللحظة التي قبل فيها الفلسطينيون بالمبادرة العربية، التي تقرّ بأن حل قضية اللاجئين ينبغي أن يكون عادلاً، لكن مقبولاً على إسرائيل أيضا ـ وبالنظر إلى أن موقف إسرائيل الرافض لاستيعاب لاجئين هو موقف معروف وحازم ـ فقد أسقط الفلسطينيون عن جدول الأعمال مطلبهم بحق العودة بمعناه الذي يهدد إسرائيل ويشكل خطرا عليها". ويضيف: "لا يستطيع الفلسطينيون التنصل من ذلك. من الممكن الادعاء ـ دائما ـ بأن الفصل الذي يعالج مسألة اللاجئين في المبادرة العربية يتضمن، أيضا، بنوداً إشكالية بالنسبة لإسرائيل، مثل الارتكاز على قرار الأمم المتحدة رقم 194 القاضي بضمان حق أي لاجئ في العودة إلى منزله إن رغب في ذلك، ما يعني أن الخطوة الفلسطينية هي مجرد مناورة خالية من أي مضمون. لكن هذا الادعاء مغلوط، أو هو تضليل متعمَّد، لأن من غير المعقول ـ بالتأكيد ـ أن الفلسطينيين لم يدركوا ولم يفهموا جيداً دلالات توقيعهم على النص الوارد في المبادرة العربية. فقد تم التمحيص بالكلمات، واحدة واحدة، مرارا وتكرارا، وكان الثمن السياسي الداخلي المحتمل واضحا تماما، كما كان التغيير في القدرة على المناورة مقابل إسرائيل في المفاوضات واضحا تماما أيضا ـ ولو لم يكن محمود عباس يرغب في ذلك، لما وقّع. فقد قرر التوقيع لأنه كان مصمما على إيصال رسالة إلى إسرائيل والولايات المتحدة، رسالة صيغت بصورة ضمنية، لكن ذات وزن هائل ـ حق العودة لن يشكل حجر عثرة في الطريق نحو التسوية".

وإلى ذلك ـ يردف الكاتب ـ ينبغي أن نضيف، أيضا، شهادات المفاوضين الإسرائيليين في مباحثات كامب ديفيد، طابا وأنابوليس حول "التوجه الفلسطيني الواقعي في قضية اللاجئين". فالتقارير التي صدرت عن المباحثات التي أجراها إيهود باراك مع ياسر عرفات في العام 2000 حول قضية اللاجئين "تحدثت عن السماح بعودة ما يقارب الـ 100 ألف لاجئ إلى إسرائيل". وفي قمة طابا، حاول الطرفان وضع آلية تقنية تفصيلية لتحديد هوية اللاجئين الذين سيُسمح لهم بالعودة، فيما أفاد إيهود أولمرت بأنه تباحث مع نظيره الفلسطيني في حل دائم لمسألة اللاجئين يشمل عودة عدد من اللاجئين يتراوح بين بضعة آلاف ـ حسب طلب أولمرت ـ وبضع عشرات الآلاف ـ حسب طلب عباس ـ فيما كان واضحا للجميع أن الحديث يجري عن "عودة رمزية، لا مكثفة".

ويمضي الكاتب في توكيد هذا التوجه بالاستناد إلى "تصريحات علنية يدلي بها مسؤولو السلطة الفلسطينية، مرارا وتكرارا"، مفادها أنهم "لا يسعون إلى وضع يغيّر فيه حق العودة التركيبة الاجتماعية في إسرائيل أو الميزان الديمغرافي". ويضيف على ذلك، أيضا، "تركيز القادة الفلسطينيين، في تعاطيهم العلني مع مسألة اللاجئين، على البُعد الرمزي ـ الفردي في منح كل لاجئ حق الاختيار بين بضعة خيارات، طبقا لمعايير سيتم وضعها بالاتفاق مع إسرائيل، وليس العودة المكثفة الفعلية".

ويخلص الكاتب، من ثم، إلى التساؤل: "هل ثمة طريق آخر لتفسير هذه المؤشرات كلها سوى التخلي الفلسطيني الفعلي عن حق العودة؟"، موضحاً أن "انقلابا قد حصل في الخطاب الفلسطيني المؤسساتي في قضية اللاجئين، ولم يكن (الانقلاب) عفو الخاطر أو صدفة، وإنما كان له هدف محدد: تهيئة الأرضية لتسويات في المفاوضات مع إسرائيل".

وما دام الأمر كذلك ـ كما يعرضه الكاتب هنا ـ يُسال السؤال، إذن: لماذا لا يُعلن الفلسطينيون موقفهم هذا (كما يصوّره هو) جهاراً وبصورة مباشرة؟ "لماذا لا يضعون حدا نهائيا لهذا الخطاب المزدوج، يبددون المخاوف وسوء الفهم؟". ويجيب قائلا: "لأن حق العودة يشكل عنصراً مقدساً في وجدان الشعب الفلسطيني، أحد أنوية الهوية الفلسطينية وأحد مكوّنات الكرامة الجمعية للفلسطينيين، الذين هم شعب لاجئين. وإلغاء فكرة حق العودة مثله مثل إلغاء الفكرة الصهيونية. كل ما يمكن فعله هو عدم تطبيقها، بل تحويلها إلى رمز. وحتى هذا، لا يتم إلا مقابل تحقيق عنصر آخر معادل، مثل التحرر من الاحتلال وإقامة دولة مستقلة... كلما حقق الفلسطينيون إنجازات أكثر على طاولة المفاوضات، كانوا أكثر قدرة على الوضوح في موضوع العودة، بل أكثر وضوحا في عدد اللاجئين المحدد (والمقلص) الذي يريدون من إسرائيل استيعابه، وهذا ما لا يستطيعون القيام به حتى الآن".

ويعتبر الكاتب أن "ما حصل من تليين في مواقف قيادة السلطة الفلسطينية في قضية اللاجئين خلال السنوات الأخيرة، حتى قبل أن يحصلوا على أي مقابل، يشكل في حد ذاته إنجازا هاما لإسرائيل ومن المحظور مطالبة القيادة الفلسطينية بأكثر من ذلك. لا يجوز توقع هذا منها ولا مطالبتها به، خشية زعزعة شرعيتها في نظر شعبها. فما قاله الفلسطينيون حتى الآن هو أقصى ما يمكن قوله وهو يشكل منطلقا جيدا لحوار بشأن التفاصيل".

3. الفلسطينيون يرفضون التفاوض

يستهل الكاتب في عرض "المعتقدات، الخرافات، المسلمات والأضاليل" في الرأي العام الإسرائيلي في هذا الباب باقتباس ما كتبه الكاتب الإسرائيلي أ. ب. يهوشع (في صحيفة "هآرتس") عن أن "السلطة الفلسطينية، التي تبنت حل الدولتين بصورة رسمية، تتهرب من إجراء مفاوضات جدية مع حكومة إسرائيل من أجل التطبيق الواقعي لهذا الحل". ويعتبر الكاتب أن هذا الرأي يمثل "بديهية شاملة، معتمدة في المجتمع وفي السياسة الإسرائيليين".

ثم ينتقل، مباشرة، إلى السؤال: من الذي يتحمل قسطاً أكبر من المسؤولية عن الجمود في عملية السلام، إسرائيل أم الفلسطينيون؟ فيسجل أن "الجواب الأكثر جرأة" الذي يمكن الحصول عليه من الغالبية الساحقة من المحسوبين على اليسار الإسرائيلي اليوم هو: "الجانبان"، وهو "جواب يبدو متوازنا ومنصفا، بفضل ما فيه من مماثلة"، غير أن "هذه المماثلة ليست ضمانة لجودة الادعاء، لأنها لا تعكس بالضرورة انفتاحا أو رجاحة رأي عميقة، وإنما هي تعكس استخفافا فكريا ومحاولة للتمويه والتعمية".

ولأن "المسألة بسيطة جداً" ـ كما يقول ـ يقترح الكاتب "إجراء اختبارين للحقائق، كي نقرر هوية الطرف المسؤول عن الطريق السياسي المسدود بين القدس ورام الله": الأول ـ أي الطرفين أعلن التزامه الصريح بمركّبات لحل سياسي هي أقرب إلى المقترحات المتوقعة للتسوية النهائية (معايير كلينتون، عرض أولمرت لأبي مازن، المبادرة العربية، مبادئ خطاب كيري)؛ الثاني ـ أي الطرفين أبدى موافقته ـ ودفع ثمنا سياسيا لقاء موافقته هذه ـ للتنازل عن ورقة المساومة الأثمن التي يمتلكها من أجل تحسين الفرص لتحقيق الاتفاق؟

ويقرر الكاتب، بصورة حازمة، إن "الجواب غير المتحيز في كلتا الحالتين هو: الفلسطينيون"، وذلك "ليس من كرم أخلاق، ولا من نقاء ضمير أو سذاجة، وإنما من منطلق الوعي والحسم بأن هذه هي مصلحتهم الوطنية". ويضيف: "في جميع القضايا الهامة والحاسمة ـ الحدود، المستوطنات، تبادل الأراضي، القدس واللاجئون ـ من السهل جدا الإقرار بأن موقف محمود عباس أقرب بكثير من موقف نتنياهو إلى إطار اتفاق السلام المستقبلي المحتمل... فعباس يريد عاصمتين في القدس، بينما يريد نتنياهو عاصمة يهودية واحدة؛ عباس يطالب بحدود حزيران 67 مع تعديلات طفيفة، بينما يتحدث نتنياهو عن "أقل من ذلك بكثير جدا"؛ عباس يطالب بإخلاء المستوطنات، بينما يعلن نتنياهو أنها لا تشكل عقبة أمام تحقيق السلام".

ويبيّن الاختبار الثاني ـ كما يضيف الكاتب ـ أن "السلطة الفلسطينية قد أعلنت وجوب التخلي عن أية مقاومة مسلحة ضد إسرائيل وأنها تفي بتعهداتها والتزاماتها في هذا الخصوص وتعمل من أجل تطبيقها منذ سنوات، بحزم وفاعلية، ما يعني أنها تخلت عن ورقة الضغط الأساسية التي كانت تمتلكها مقابل إسرائيل، لأن وقف المقاومة الفلسطينية العنيفة شكّل، على الدوام، دافعا مركزيا وراء تطلع إسرائيل إلى تحقيق السلام... وباعتمادها هذا النهج، أدت السلطة الفلسطينية حصتها ـ من جانب واحد ـ في معادلة "الأرض مقابل السلام" التاريخية ونفذت التزامها بالمحافظة على الهدوء، حتى قبل حصولها على أية أراض بالمقابل".

ويتحدث الكاتب عن "التضحية السياسية الجسيمة" التي قدمتها حركة "فتح" برئاسة محمود عباس في هذا السياق، وتمثلت في "المسّ بمكانتها، بسمعتها ومصداقيتها في الشارع الفلسطيني، حدّ اتهامها بالتصالح والتعايش مع الاحتلال"، غير أن "قرارها كان قرارا استراتيجيا". ومع ذلك، يؤكد الكاتب أنه "لا يمكن، بالطبع، الركون إلى هذا القرار إلى الأبد، إذ ثمة شخصيات فلسطينية بارزة لا توافق عليه، مطلقاً".

في المقابل، يسجل الكاتب أن "الحكومة الإسرائيلية لم تفعل شيئا موازيا ولم تتصرف بصورة مماثلة"، إذ "لم تكن مستعدة للمخاطرة بوقف البناء في المستوطنات بثمن تأليب الرأي العام ضدها، أو بتعريض الائتلاف الحكومي للخطر، ولذا فإن مسؤوليتها عن الفراغ السياسي الذي نشأ هي أكبر بكثير من مسؤولية الفلسطينيين". وحيال هذا، فحتى لو فعلت القيادة الفلسطينية أكثر بكثير مما فعلت "لما نجحت في دفع نتنياهو إلى المساهمة بحصته في مسعى التوصل إلى التسوية، من خلال تجميد البناء الاستيطاني و/ أو تبني مواقف معقولة في القضايا الجوهرية".

ويخلص الكاتب إلى القول إنه "بين مفاوضات تنتهي بخيبة أمل وإخفاق مؤكدين وبين بقاء الوضع القائم (ستاتيكو)، الخيار الثاني هو الأفضل. وحسناً يفعل محمود عباس في عدم تجاوبه مع مناورات نتنياهو، لأن محادثات السلام المتواصلة على نحو عقيم ودون تحقيق أية نتائج لا تخدم سوى مناورات نتنياهو السياسية ـ الحزبية، لكنها تُبعد فرص السلام الحقيقي. وفي هذا، فإن "رفض" عباس ينسجم تماما مع المصلحة الإسرائيلية الحقيقية"!

4. الفلسطينيون مسؤولون عن فشل عملية السلام

في هذا الباب، ينطلق الكاتب من تصريح رئيس المعارضة الإسرائيلية، إسحاق هيرتسوغ (رئيس حزب "المعسكر الصهيوني") عن أنه "من غير الممكن اليوم الدخول إلى غرفة واحدة والتباحث مع الفلسطينيين ثم الخروج، على الفور، متعانقين بعد التوقيع على تسوية شاملة تعيدنا إلى حدود حزيران 1967 وتقسّم القدس" (صحيفة "هآرتس")؛ ثم يعززه بما ورد في البرنامج السياسي لحزب "يوجد مستقبل" (يش عتيد) برئاسة يائير لبيد: "لقد عرضت إسرائيل على الفلسطينيين مرتين، في العام 2000 وفي العام 2006، نحو 90% من المناطق ليقيموا عليها دولة، لكنهم رفضوا"!

ويعتبر الكاتب أن هذه "خرافة تبسيطية تتعلق بجولتين من المفاوضات حول التسوية النهائية بين إسرائيل والفلسطينيين ـ بين إيهود باراك وياسر عرفات أولاً، ثم بين إيهود أولمرت ومحمود عباس ثانياً ـ يُتَّهَم الفلسطينيون بإفشال كلتيهما وبأنه لم تتوفر لديهم فيهما أية نية حقيقية للتوصل إلى اتفاق".

ويؤكد الكاتب أن "هذا الملف قد وُضع موضع البحث والتمحيص مراراً وليس ثمة ما يُضاف عليه، سوى التذكير بمعطيين اثنين فقط: الأول ـ ليس ثمة بين أعضاء الطواقم الإسرائيلية في كلتا جولتي المفاوضات مَن يزعم الآن، أو قد زعم في الماضي، بأن شيئاً لم يتحقق فيهما وبأن الوقت قد ضُيّع سدى، بل العكس هو الصحيح: جميعهم يشهدون بأن المباحثات كانت شاملة وهادفة، بل حثيثة جدا في بعض الأحيان، وتطرقت إلى القضايا الجوهرية، حتى أن الفجوات قد تقلصت كثيرا، وإن لم يكن بالقدر الكافي". ولذلك، "ليس ثمة أساس من الصحة للادعاء بأن الفلسطينيين "لم يحضروا" إلى المفاوضات"!

أما المعطى الثاني، فهو أن رئيسي الحكومة الإسرائيلية السابقين، إيهود باراك وإيهود أولمرت، قد ألمحا، بصورة غير مباشرة، إلى أن المقترحات النهائية التي قدماها خلال المفاوضات ـ وهي التي لم يقبل بها الفلسطينيون ـ كان يمكن أن تكون أكثر سخاء بكثير"! لا بل، يقرّ كلاهما، أيضا، بأن ثمة مسافة لا تزال تفصل بين مقترحاتهما الأخيرة وبين المقترحات المقبولة على المجتمع الدولي بشأن التسوية النهائية، وفي مقدمتها المبادرة العربية.

وأياً تكن مسؤولية الجانب الفلسطيني عن فشل المفاوضات، تبقى الحقيقة ـ وفقاً للكاتب ـ أن "إسرائيل لم تستنفد هامش المرونة المتاح لها ولم تبلغ الحد الأدنى الذي يمكن أن يكون مقبولاً على الفلسطينيين".

وعلاوة على هاتين النقطتين، من الضروري والمفيد الإشارة إلى الجدول الزمني القاسي والضاغط وإلى الظروف السياسية ـ الحزبية الداخلية (في إسرائيل) غير المحتملة التي جرت فيها جولتا المفاوضات المذكورتان: فقد كان إيهود باراك يفاوض في كامب ديفيد بينما كانت حكومته تتعرض لهزات متتالية، ثم خاض مفاوضات طابا بعد أن كانت حكومته قد سقطت، قبل أسابيع قليلة من الانتخابات البرلمانية التي هُزم فيها. وفي هذه الأثناء، قام أريئيل شارون، رئيس المعارضة آنذاك، بزيارة المسجد الأقصى مما أدى إلى اندلاع الانتفاضة الثانية. أما إيهود أولمرت، فقد فاوض محمود عباس بينما كان حزبان مركزيان في حكومته يحاصرانه ويقيّدان خطواته بتهديدات بالانسحاب من الحكومة، على خلفية تورطه في القضايا الجنائية التي آلت إلى تقديمه إلى المحاكمة ثم إلى استقالته.