على مدى أكثر من شهر، يتابع الجمهور الإسرائيلي سلسلة من التقارير عن شكل علاقة رئيس حكومتهم بنيامين نتنياهو بكبار الأثرياء خاصة من العالم. والقضية التي تثير اهتمامهم أكثر هي مسألة "الهدايا" التي يتلقاها منهم، ليس فقط لتمويل نشاطه السياسي، بل لتمويل ترف حياته الشخصية.

وهذا يعيد للأذهان تقارير أخرى عن نتنياهو، مثل فاتورة "الآيس كريم" السنوية الباهظة لعائلة نتنياهو على حساب الخزينة العامة. وقضية مردود عبوات الماء والمشروبات الفارغة، برغم أثمانها الزهيدة.

ومهما تكن صيغة السطر الأخير لهذه القضية، إلا أن الصورة التي ارتسمت لنتنياهو في وعي الرأي العام الإسرائيلي هي أنه جشع و"بخيل أسطوري"، بحسب وصف المحلل ناحوم بارنياع.

بدء موجة الشبهات

شبهات الفساد الأخيرة المتعلقة بأموال الأثرياء، بدأت تتكشف في مطلع العام الماضي 2016، حينما تفجرت قضية الثري الفرنسي اليهودي آرنو ميمران، الذي حوكم وأدين بجرائم مالية في فرنسا، وخلال التحقيقات معه أفاد أنه تبرع لبنيامين نتنياهو قبل سنوات عديدة أموالا. وحاول نتنياهو إنكار الأمر، ثم اعترف مدعيا أنها لتمويل حملة سياسية لأجل إسرائيل في العالم.

ولاحقا، بدأت تتكشف قضايا أخرى، حتى طلب المستشار القانوني للحكومة أفيحاي مندلبليت من الشرطة إجراء فحص أولي، قبل الشروع بالتحقيق الجنائي، الذي بدأ في نهاية الشهر الأخير من العام الماضي 2016.

وأبرز هذه القضايا، التي عادت تطفو على سطح وسائل الإعلام في الأيام الأخيرة، قضية "الهدايا" التي تلقاها نتنياهو من الثري الأميركي الإسرائيلي أرنون ميلتشين، البارز في استثماراته في القطاع السينمائي الأميركي في هوليوود. وذلك بعد أن سيطرت على التقارير الإعلامية، على مدى ثلاثة أسابيع، مسألة الاتصالات بين نتنياهو وصاحب أكبر صحيفة إسرائيلية "يديعوت أحرونوت"، أرنون موزيس، بهدف إبرام صفقة، بموجبها يعطي نتنياهو الضوء الأخضر لمشروع قانون يقيد حجم انتشار صحيفة "يسرائيل هيوم" الداعمة له بالمطلق، مقابل أن تغير "يديعوت أحرونوت" توجهاتها لنتنياهو، وتصبح أكثر ايجابية.

وقضية "الهدايا" و"الأموال" التي حصل عليها نتنياهو من كبار الأثرياء، يجري الحديث عنها بشكل مكثف في المرحلة الأخيرة منذ ثمانية أشهر، حينما بدأت تظهر ملامح هذه القضية، وشرعت الشرطة في فحصها على مدى ستة أشهر، قبل أن تحصل على موافقة المستشار القانوني للحكومة، كي تشرع بتحقيق جنائي بشأنها.

ومن أبرز ما يجري الحديث عنه أن ميلتشين، الذي لم يظهر أسمه في التقارير الصحافية في الأشهر الماضية، قد زود عائلة نتنياهو على مدى سنوات، بـ"هدايا" يقدر ثمنها التراكمي بمئات آلاف الدولارات (معدل سعر صرف الدولار حاليا 8ر3 شيكل للدولار). ومن أبرز الهدايا، تمويل دائم وثابت لنوع فاخر من الشمبانيا، سعر الزجاجة الواحدة 200 دولار، تحبها بشكل خاص سارة نتنياهو. وحسب التقارير فإن استهلاك هذه الشمبانيا لا يتوقف وكانت تهتم العائلة بضمان المخزون الدائم على حساب ميلتشين، الذي كان يتم الاتصال به إذ ما تأخرت "الهدايا".

أما بنيامين نتنياهو فيتلقى بشكل ثابت السيجار الفاخر وباهظ الثمن، من صنف "كوهيبا سيجالو 5"، وأيضا على حساب ميلتشين. وقال تقرير آخر إن سارة نتنياهو طلبت من ميلتشين في العام 2004، شراء مجوهرات لها بقيمة 8600 دولار. وتدعي عائلة نتنياهو أن الهدايا كانت متبادلة، إلا أن الصحافيين في تقاريرهم ينشرون هذا الادعاء بنوع من الاستخفاف.

ونذكر أنه قبل عامين، في بدايات العام 2015، تفجرت فضيحة عبوات المشروبات الفارغة، التي طلبت سارة نتنياهو من العاملين في المقر الدائم لرئيس الوزراء، بأن يعيدوا لها المرتجعات المالية لهذه العبوات، رغم أن تمويل هذه العبوات من الخزينة العامة، عدا عن المردود الزهيد. وحسب القانون الإسرائيلي، فإن المردود للعبوة الواحدة 25 قرشا، وهو ما يعادل 5ر6 سنت، والمبلغ الاجمالي حتى لمئات العبوات زهيد، وهو أصلا ليس من حق عائلة نتنياهو.

وقبل أربع سنوات، ظهرت فضيحة "الآيس كريم"، لعائلة نتنياهو على حساب الخزينة العامة، ووفق القضية فإن نتنياهو طلب من الحكومة أن تشمل ميزانية المقر الدائم لرئيس الوزراء 10 آلاف شيكل، أكثر من 2600 دولار سنويا، لشراء "الآيس كريم". علما أن فاتورة الطعام للمقر الدائم، التي تتضمن الصرف على العائلة (4 أنفار)، تصل إلى 22 ألف شيكل شهريا، ما يعادل قرابة 5800 دولار، وبميزانية سنوية تقارب 70 ألف دولار.
وحينما ظهرت القضايا الأولى، كان الرأي العام مؤيدا أكثر لنتنياهو، واعتبر التقارير استهدافا شخصيا، إلا أنه مع ظهور قضية ميلتشين، اضافة إلى أحاديث عن التحقيق مع أثرياء آخرين يُغدقون على نتنياهو في حياته الشخصية، فإن الأمور بدأت تختلف.

ومن المؤكد أن التفاصيل التي تنشر عن نتنياهو لن تفاجئ الكثيرين في الحلبة السياسية، إن كان ممن عملوا في الدوائر الأقرب لنتنياهو في كافة المناصب التي تبوأها، أو من السياسيين الذين عرفوه عن قرب، أو سمعوا عنه الكثير. وعلاقة نتنياهو بحيتان المال كانت موضوع تحقيقات صحافية في العديد من المحطات، وفي العديد من وسائل الإعلام، وأبرزها في العام 1991، حينما تبوأ نتنياهو منصب نائب وزير الخارجية في حينه دافيد ليفي، في حكومة إسحاق شمير، بعد خروج حزب "العمل" من الحكومة.

فقد نشرت الصحافية البارزة حنة كيم تقريرا موسعا في العام 1991، عن علاقة نتنياهو منذ تلك السنين بحيتان المال، الذين يمولون نشاطاته وحياته العامة، رغم أنه في تلك السنين كانت القيود على تمويل الأحزاب والسياسيين أقل بكثير مما هي عليه اليوم.

الصرف المتشعب

ويقول تقرير لصحيفة "ذي ماركر" إن أول اتصال بين نتنياهو والأثرياء كان في نهاية سنوات السبعين من القرن الماضي، حينما لم يكن نتنياهو قد دخل إلى السياسة، وسعى حينها لإقامة مركز على اسم شقيقه يوني، الذي قتل في عملية تحرير الطائرة الإسرائيلية المختطفة إلى مطار العاصمة الأوغندية عنتيبي في العام 1976. ولكن هذه العلاقات بدأت تشتد أكثر خلال سنوات تواجده في سفارة إسرائيل في الأمم المتحدة في سنوات الثمانين الأولى، ولاحقا بعد أن دخل إلى الكنيست لأول مرة في العام 1988.

وحينها بدأ نتنياهو يظهر بقوة أكبر على واجهة السياسة الإسرائيلية، وقد لفت لنفسه الأنظار حينما تبوأ منصب نائب وزير الخارجية دافيد ليفي، مستغلا براعته الإعلامية، في ظل وزير ضعيف. وبرز هذا أكثر خلال مؤتمر مدريد للسلام في خريف 1991، حينما بات نتنياهو ناطقا إسرائيليا مركزيا.

وتقول "ذي ماركر" إن نتنياهو احتاج لهؤلاء الأثرياء أكثر، حينما كان خارج سدة الحكم، أو خارج الصفوف الأولى فيه، إذ كان يطلب منهم تمويل حملاته الانتخابية، أو جولاته السياسية في العالم. ولكن لاحقا يتبين أنه ليس فقط هذا الصرف، بل سعى نتنياهو إلى تمويل ترف حياته، هو وزوجته الثانية سارة.

وقال أحد العارفين بطريقة نتنياهو في العلاقة مع المتبرعين له، لصحيفة "ذي ماركر": "لنفترض أن نتنياهو ذهب لإلقاء محاضرة في كنيس يهودي، فدائما سيكون شخص ما يقول له انتبه لهذا الشخص، إنه صاحب ثراء فاحش، حينها يعرف نتنياهو كيف يكون لطيفا معه. فهذه مناسبات يكون معروفا مسبقا الجمهور الذي سيحضرها، ولا أحد من هؤلاء يكون محسوبا على اليسار، لأن الوسطاء يعرفون من يجب دعوته".

وتضيف الصحيفة أنه على مدى السنين، يتبين أن هناك علاقة قوية بين المتبرعين، وبين الخط السياسي الذي يتبناه نتنياهو، فكلهم محسوبون على اليمين الإسرائيلي. واستعرضت الصحيفة أسماء أثرياء يمولون نتنياهو، وفي ذات الوقت يمولون جهات ومؤسسات تابعة لليمين الإسرائيلي المتطرف.

الأمر الآخر أن نتنياهو استفاد من هؤلاء الأثرياء من أجل ضمان مكان عمل للمقربين منه، الذين عملوا معه في المناصب التي تولاها على مر السنين، واختاروا الخروج إلى الحياة الاقتصادية المفتوحة، وعددت الصحيفة بعض أسماء كبار المستشارين، الذين باتوا يعملون في وظائف رفيعة في شركات عدد من كبار الأثرياء. وما من شك في أن نتنياهو رابح من هذه التعيينات، لأن أولئك الموظفين سيحافظون على مصالحه عند مشغليهم الأثرياء.

تدريج مئة ثري أحدهم ترامب

تقول "ذي ماركر" إن نتنياهو أحاط نفسه بما لا يقل عن مئة من كبار الأثرياء في العالم، وعمل على تدريجهم، ضمن 4 مجموعات، بموجب درجة الاقتراب إليهم، بحيث أن الدرجة الأولى هم الأشخاص الأقرب. وأولهم حسب ما نشر في ذلك التقرير كان شلدون إدلسون، صاحب صحيفة "يسرائيل هيوم"، المجنّدة كليا لشخص بنيامين نتنياهو.

وحسب تقرير نشرته صحيفة "هآرتس" في الشهر الماضي كانون الثاني، فإن "يسرائيل هيوم" سجلت منذ يوم صدورها الأول، في منتصف العام 2007، وحتى نهاية العام 2014، خسائر بما يعادل 190 مليون دولار. وحسب التقديرات، فإن الخسائر الاجمالية تزايدت في العامين الماضيين إلى ما بين 230 مليون حتى 240 مليون دولار. وهناك من يرى أن هذه الصحيفة هي الرشوة الأكبر التي يحصل عليها نتنياهو يوميا، تحت سمع وبصر الجمهور.

كذلك وردت أسماء آيرا رانرط وسبينسر باتريدج وغيرهما. ولكن كما ذكر، فإن هذا التقرير لم يكن قد ذكر اسم أرنون ميلتشين، الذي ظهر كمن يُغدق أكثر من غيره على ترف نتنياهو. ويقول تقرير "ذي ماركر" إن هؤلاء الأثرياء يحترمهم بنيامين نتنياهو، ويلائم نفسه لهم. وهناك الكثير من الأثرياء بدرجة أقل، الذين كان يماطل نتنياهو في لقائهم، وهذا مرتبط بوضعهم المالي. "وعلى سبيل المثال، ففي الماضي البعيد كان نتنياهو يتحدث كثيرا بإعجاب عن أحد أكبر أثرياء بريطانيا، ويدعى جيرالد رونسون، ولكن ذات يوم واجه هذا الأخير أزمة كبيرة في استثماراته، ومن يومها لم يعد نتنياهو يلتفت له".

وإذا كنا قد أشرنا إلى أول تحقيق صحافي في صحيفة "حداشوت" السابقة نشر في العام 1991، فإن التقرير البارز الآخر، كان تحقيقا في صحيفة "يديعوت أحرونوت" في العام 2010، التي نشرت "القائمة السرية لأثرياء أصدقاء نتنياهو"، وقد أدرج نتنياهو القائمة في أربع مجموعات، ثم كان نتنياهو يضيف للقائمة أسماء ويُسقط منها أسماء أخرى، بحسب الأوضاع والاحتياجات، وتطور العلاقة مع كل واحد منهم.

وبضمن التدريج الرابع، وهم الحلقة الاضعف، يرد اسم دونالد ترامب، الذي بدأت العلاقة معه قبل العام 2007، وهو العام الذي تم فيه إعداد هذه القائمة. وفي العام 2010، لم يكن اسم ترامب واردا في واجهة السياسة الأميركية، إلا أنه كان من الحزب الجمهوري، واستثماراته الأساسية كانت في قطاع العقارات.

جشع وبخيل

يقول المحلل السياسي في صحيفة "يديعوت أحرونوت" ناحوم بارنياع، في مقال له منذ شهر حزيران الماضي 2016، وتحت عنوان "طبق فضة"، إن من حق الإسرائيليين أن يسألوا الآن، دون صلة بنتائج الفحص، كيف يجد شخص مثل نتنياهو نفسه في سرير أخلاقي واحد مع شخص مثل (الثري الفرنسي اليهودي) آرنو ميمران (الذي أدين بالفساد قبل أشهر). وأضاف: "لماذا على مدى كل حياة نتنياهو الشخصية تمسك بأناس أغنياء، يمنحونه الامتيازات، ينزلونه في شقق فاخرة وفي فنادق فاخرة ويحرصون على تدفئته بالمال؟. فهو شخص ذكي.. وهو يعطي هؤلاء الاشخاص المشكوك فيهم، وهم موضع التحقيقات من لاس فيغاس وحتى باريس، الكثير جدا: يعطيهم إيانا، وشرف دولة اليهود، وهذا طبق الفضة (المال) بصيغة إسرائيل 2016".

وتابع برنياع "لو أنه كان يحصل بالمقابل على مساعدة لدولة إسرائيل في صراعاتها، لكان يمكن أن نقول فليكن، إذ أنه حين كانت إسرائيل في مهدها تلقت المساعدة حتى من المافيا اليهودية. ولكن ما يحصل عليه بالمقابل هو زجاجة نبيذ روتشيلد أو "روم سيرفس" (خدمة الغرف الفندقية) أو المال. ومن رئيس وزراء مسموح لنا أن نتوقع أكثر".

ويختتم بارنياع مقاله كاتبا "نتنياهو لم يخترع هذا الاندفاع نحو الأغنياء اليهود الجدد، فقد سبقه آخرون... من جهة هو محب للاستمتاع الذي لا يعرف الشبع؛ ومن جهة أخرى هو بخيل أسطوري. وهذا الخليط فتاك.. وحتى لو لم تلد هذه القضية شيئا على المستوى القضائي، فإن لها معنى على المستوى السياسي... ومن شأنها أن تعزز التمرد داخل الائتلاف وداخل الليكود. فالسياسيون مثل سمك القرش، يعرفون كيف يشمون الدم. وللدم رائحة".