المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

اختتم البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) في الثالث من الشهر، الجاري آب 2016، دورته الصيفية، التي استمرت 11 أسبوعا، ليخرج إلى عطلة ستستمر قرابة ثلاثة أشهر. وبعد ذلك بأيام قليلة أقرت الحكومة بإجماع وزرائها وأحزاب الائتلاف، الموازنة العامة للعامين المقبلين، 2017 و2018، ما يوحي بأن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قد ضمن ثبات حكومته الحالية لعامين آخرين على الأقل، إذا لم تقع أحداث غير منظورة حتى الآن. وعلى الرغم من المشاحنات التي شهدها الائتلاف الحاكم في الأسابيع الأخيرة، إلا أنه أظهر حالة تماسك كبير، فسحت له المجال لسن المزيد من القوانين العنصرية والداعمة للاحتلال، وسط تواطؤ ومساهمة ملحوظة من كتلتي المعارضة "المعسكر الصهيوني" و"يوجد مستقبل".

 

فقد تميّزت الدورة الصيفية بكثافة القوانين العنصرية والداعمة للاحتلال والاستيطان، لتسجل هذه الدورة ذروة غير مسبوقة في عدد القوانين التي أقرت بالقراءة النهائية، وارتفاع اجمالي هذه الفئة من القوانين التي أدرجت على جدول أعمال الكنيست. ووفق التقرير البحثي الجديد الصادر في الأسبوع الماضي عن مركز "مدار"، فقد بات مدرجا على جدول أعمال الكنيست، منذ افتتاح الولاية البرلمانية في أيار 2015 (بعد الانتخابات)، وحتى نهاية الدورة الصيفية، 82 قانونا عنصريا وداعما للاحتلال، بزيادة 16 قانونا عما ظهر في التقرير ذاته الصادر بعد انتهاء الدورة الشتوية الماضية.

لكن ما هو أبرز، كان عدد القوانين التي أقرت بالقراءة النهائية، إذ ارتفع عددها خلال 11 أسبوعا إلى 14 قانونا، بدلا من 6 قوانين حتى انتهاء الدورة الشتوية. ورأى التقرير أن ثلاثة قوانين من التي أقرت نهائيا، كان الكنيست قد أقرها بالقراءة التمهيدية في وقت سابق، ولكن تم دمجها في قانونين آخرين. وعرض التقرير مدى تواطؤ كتلتي المعارضة "المعسكر الصهيوني" و"يوجد مستقبل"، مع هذه المشاريع، إذ أن جميع نواب الكتلتين متورطون، إما بالمبادرة أو التصويت تأييدا لقانون واحد وأكثر.

لكن لا يمكن الاستنتاج بأن هذه القفزة قد تحققت بفعل انضمام حزب "يسرائيل بيتينو" بزعامة أفيغدور ليبرمان إلى الحكومة، لأن هذه الكتلة كانت مبادرة وناشطة وداعمة للحكومة من دون أي تحفظ، في كل ما يتعلق بالقوانين العنصرية والداعمة للاحتلال.

زوبعات عابرة

وكان نتنياهو قد نجح مع افتتاح الدورة الصيفية في توسيع قاعدة الائتلاف الحاكم، بضم كتلة "يسرائيل بيتينو"، بزعامة أفيغدور ليبرمان إلى الحكومة، وبإسناد حقيبة الدفاع لليبرمان، ما تم اعتباره "اقصاء مهينا" للوزير السابق موشيه يعلون. وقد رافقت هذه الخطوة ضجة عارمة، توهّمت أوساط معينة بأن نتنياهو قد لا يصمد أمامها طويلا، خاصة وأن الضجة انتشرت في الحلبتين السياسية والإعلامية.

إلا أنه بعد مرور شهرين يتضح أكثر أن حجم تلك الضجة كان أضعف من أن يشكل خطرا على شخص نتنياهو ومستقبله السياسي، لأن الشخص الذي يقف من ورائها، ليس شخصية شعبية جارفة. كذلك فإن الوجوه التي ظهرت حول تلك الضجة، وأبرزها إيهود باراك، هي أيضا تبقى وجوها شاحبة شعبيا، من دون رصيد قادر على تهديد مكانة نتنياهو.

لكن الأساس في هذا الاستنتاج، هو أن نتنياهو مدعوم بالأساس من أوساط اليمين الأشد تطرفا، التي أحكمت سيطرتها على حزب "الليكود" بدعم من نتنياهو ذاته. كذلك فإن حيتان المال، ووسائل الإعلام التي يسيطر بعضهم عليها، مستمرون في دعم نتنياهو، وخلق رأي عام داعم نوعا ما له.

ووقف نتنياهو أمام عدة زوبعات في الأسابيع الأخيرة، عدا "ضجة" استبدال يعلون بليبرمان، ومن أبرزها جولتا "غضب" لكتلة تحالف أحزاب المستوطنين "البيت اليهودي"، وزعيمه وزير التعليم نفتالي بينيت. الأولى على خلفية مطالبة بينيت بتعيين سكرتير عسكري للطاقم الوزاري المقلص للشؤون الأمنية والعسكرية، ليزود الوزراء بالمعلومات. والجولة الثانية، كانت على خلفية اعتراض بينيت وكتلته على محاولة نتنياهو اجراء تغييرات في عمل شركة البث العام، التي ستحل محل سلطة البث العام القائمة.

وفي الحالتين كان واضحا عدم جدية الخلاف بين الجانبين، وأن من خلف كل هذا محاولة كتلة "البيت اليهودي" بث رسالة: "نحن هنا"، إذ أن تحالف المستوطنين أظهر قلقا خفيّا من تولي ليبرمان حقيبة الدفاع، لما في ذلك من احتمال أن تتعزز قوة ليبرمان في المستوطنات، رغم أن قوته في المعاقل السياسية لمستوطنات الضفة تلامس الصفر، وأن قوة ليبرمان، الهزيلة أيضا هناك، هي في بعض المستوطنات الكبرى.

وبعد هذا، وخلاله، ظهرت سلسلة ملفات الفساد، التي ما زال التحقيق الأولي جاريا فيها، ولكن طبيعة الشبهات، بموجب ما يرد في وسائل الإعلام حتى الآن، ليست من المستوى الذي يطيح برئيس وزراء، إلا إذا تكشفت قضايا أخرى، ليست معروفة حتى الآن، أو أنه لم يجر تسريبها للرأي العام.

الميزانية لم تكن عقبة

مقابل هذا، فقد نجح نتنياهو في ضمان استقرار حكومته الحالية لعامين اضافيين، على الأقل، بعد أن صادقت الحكومة بعد اختتام الدورة الصيفية على الموازنة العامة المزدوجة للعامين المقبلين 2017 و2018، إذ أن "موسم" اقرار الموازنة يكون فرصة لكافة أحزاب الائتلاف للضغط على الحزب الحاكم في قضايا مختلفة، لكون القانون يلزم الحكومة بإقرار الموازنة في الكنيست في تواريخ محددة، ولهذا فإن غالبية الحكومات الإسرائيلية سقطت في أجواء المصادقة على الموازنة العامة.

وكان نتنياهو قد واجه معارضة وزير المالية موشيه كحلون، لإقرار ميزانية مزدوجة، وهو نمط ليس مألوفا في العالم، سوى في مملكة البحرين، التي تتبع هذا النمط من الميزانية العامة. ولاحقا تراجع كحلون عن موقفه. وحسابات نتنياهو ليست اقتصادية، بل على العكس، لأن كل تجارب السنوات السابقة، منذ العام 2009، وحتى اليوم، بيّنت أن التقديرات التي بُنيت على أساسها الميزانيات لم تصمد. فحسابات نتنياهو هي سياسية حزبية، واهتمامه الأساس هو إبعاد نفسه وحزبه عن ضغوط أحزاب الائتلاف الحاكم.

وقد أثبتت التجربة أن أحزاب الائتلاف تسعى لتحقيق مكاسب سياسية ومالية، في فترة اقرار الموازنة العامة، كون القانون يحدد مهلة زمنية لإقرار الموازنة، وإذ لم تنجح الحكومة بها، يتم حلها تلقائيا، والتوجه إلى انتخابات برلمانية. ولذا رأينا أن الغالبية الساحقة من الحكومات الإسرائيلية قد سقطت في فترة اقرار الموازنة العامة، علما أن آخر انتخابات جرت في موعدها القانوني، وبعد أن استكمل البرلمان فترة ولايته القانونية، كانت في العام 1988، ومنذ ذلك الحين تشهد إسرائيل حالة من عدم استقرار الحكومات والبرلمانات.

وحسب القانون القائم، فإن الانتخابات المقبلة يجب أن تكون في خريف العام 2019، إلا أن نتنياهو ضمن حتى الآن ثباتا لحكومته حتى خريف العام 2018، إذ طالما أن الحكومة أقرت الميزانية، فإن تمريرها في الكنيست، حتى قبل نهاية العام الجاري يصبح مضمونا. وستدعو الحكومة إلى جلسة استثنائية للكنيست في شهر أيلول المقبل، لإقرار الموازنة العامة بالقراءة الأولى. وبعد ذلك تشرع اللجان البرلمانية ذات الشأن في اقرار بنود الميزانية قبل طرحها على الهيئة العامة لاحقا لاقرارها نهائيا.

استطلاعات الرأي

ظهر في الأيام الأخيرة عدد من استطلاعات الرأي حول التركيبة البرلمانية، في ما لو جرت الانتخابات في هذه المرحلة، والنتيجة التي يمكن القبول بها لهذه الاستطلاعات هي أن اليمين المتشدد الحاكم حاليا سيعزز قوته الاجمالية بقليل، وإن كان الليكود سيخسر بعضا من مقاعده، لحساب كتل اليمين المتشدد الشريكة في الحكم؛ فالليكود حقق في الانتخابات السابقة قوة زائدة اقتنصها بغفلة من قوائم اليمين الأشد تطرفا، وحسب هذه الاستطلاعات، فإن تلك الأحزاب ستستعيد بعضها منها في ما لو جرت الانتخابات في هذه الأيام.

ولكن التفاصيل التي نشرت في استطلاعات الرأي جاءت مبالغا بها، فمثلا، منح أحد الاستطلاعات 21 مقعدا لحزب "يوجد مستقبل" بزعامة يائير لبيد، بدلا من 11 مقعدا اليوم، فيما منح الاستطلاع ذاته كتلة "يهدوت هتوراة" للمتدينين المتزمتين (الحريديم) الأشكناز 11 مقعدا، بدلا من 6 مقاعد اليوم رغم أن 95% من أصوات هذه الكتلة تأتي من جمهور الحريديم الأشكناز، وهو لم يضاعف نفسه خلال عام ليصل إلى هذه النتيجة. ولربما أن التعبير الأقوى للاستخفاف بهذه النتيجة، جاء من وزير الصحة، يعقوب ليتسمان، الشخصية الاولى في "يهدوت هتوراة"، إذ قال لإذاعة الجيش الإسرائيلي متهكما: نعم ستحصل "يوجد مستقبل" على 21 مقعدا، ولكن فرصها كما هي فرص حصول "يهدوت هتوراة" على 11 مقعدا.

وأشارت عدة استطلاعات إلى هبوط حاد في قوة "المعسكر الصهيوني"، من 24 مقعدا اليوم إلى 10 مقاعد، في ما لو جرت الانتخابات في هذه الأيام. فصحيح أن الخلافات الداخلية، والتقلبات في خطاب قادة "المعسكر"، ستتسبب في تراجع قوته، ولكن ليس إلى هذا الحد، الذي يظهر في استطلاعات الرأي، فالاستطلاعات تتجاهل القواعد التاريخية التقليدية لحزب "العمل"، التي حجمها يتجاوز عدد المقاعد الذي تتوقعه استطلاعات الرأي.

وطالما أن الانتخابات لا تلوح في الأفق، فإن استطلاعات الرأي ليس بمقدورها أن تتوقع النتيجة الاقرب إلى الواقع، بل ستؤثر عليها أجواء سياسية واعلامية عابرة.

المعارضة تنافس في ساحة اليمين

العامل الأقوى الذي يساهم في تعزيز قوة اليمين المتشدد الحاكم، هو أن هذا اليمين وزعيمة نتنياهو لا يجدان أمامهما معارضة حقيقية، تطرح البديل السياسي؛ فكتلتا المعارضة الصهيونية الأكبر في الكنيست "المعسكر الصهيوني" و"يوجد مستقبل"، تنافسان اليمين على أجندته، وهذا الاستنتاج تعزز بشكل كبير منذ مطلع العام الجاري 2016، حينما تبنى حزب "العمل" البرنامج الجديد لرئيسه إسحاق هيرتسوغ، والقاضي بانفصال أحادي الجانب عن الضفة الغربية المحتلة، بعد تحويل التجمعات الفلسطينية السكانية الكبرى إلى كانتونات مغلقة محاصرة، "إلى حين تسنح الظروف للتفاوض على حل الدولتين"، حسب ما ورد في البرنامج.

وتبع ذلك خطاب هيرتسوغ الشهير قبل أشهر قليلة، وقال فيه لأعضاء حزب العمل إنه "يجب وقف خلق انطباع بأن الحزب يحب العرب". ولكن الاثبات الفعلي لانغماس هاتين الكتلتين في أجندة اليمين، هو أداء نواب الكتلتين في القوانين العنصرية والداعمة للاحتلال، إذ أن كل نواب الكتلتين الـ 35 متورطون بهذه القوانين، إما بالمبادرة أو بالمشاركة في المبادرة، أو التصويت تأييدا من قانون واحد وأكثر.

وزاد على هذا، مبادرة كتلة "المعسكر الصهيوني"، في الدورة الصيفية المنتهية، إلى مشروع قانون يدعو إلى استكمال بناء جدار الاحتلال على طول غور الأردن، وبشكل يجعل من منطقة أريحا جيبا محاصرا، وصولا إلى غرب جنوب الخليل.

كذلك فقد برزت كتلة "المعسكر الصهيوني" في المبادرة إلى قانون آخر يقمع الحريات، ويقضي بفرض غرامات باهظة على شبكات التواصل الاجتماعي، في حال رفضت حذف منشورات تعتبرها إسرائيل تحريضا على الارهاب، وبقصد ما يناهض سياساتها واحتلالها. في حين أن كتلة "يوجد مستقبل" كانت قد شاركت في مبادرة لسلسلة من القوانين العنصرية، خاصة تلك التي تعاقب عائلات منفذي العمليات في الضفة والقدس المحتلة.

وقد أظهر التقرير الدوري للقوانين العنصرية والداعمة للاحتلال السابق ذكره هنا، استفحال تواطؤ كتلتي المعارضة المذكورتين مع القوانين العنصرية والداعمة للاحتلال، إذ تبين أن اعتراض "المعسكر الصهيوني" على هذه القوانين في الدورة الصيفية، كان بنسبة 5ر26%، بدلا من 41% في الدورتين السابقتين. فيما هبطت نسبة اعتراض "يوجد مستقبل" من 33% إلى أقل من 24%.

الدورة المقبلة

ملامح الدورة البرلمانية الشتوية التي ستفتتح في نهاية تشرين الأول المقبل، باتت واضحة منذ الآن، إذا لم تحدث أي مفاجآت غير منظورة. فالمشروع الأكبر في تلك الدورة سيكون اقرار الموازنة العامة لعامين، وكما ذكر هنا فطالما أن الحكومة أقرت الموازنة بالإجماع، فإن هذا يعني تمرير الميزانية بسهولة في الكنيست، إذ لا تظهر جيوب معارضة للميزانية بين نواب الائتلاف الحاكم.

وبالإمكان القول إن كل كتل الائتلاف الحاكم، وحتى وإن كان بعضها يرى أن الانتخابات المقبلة ستعزز قوته، ليست معنية بحل الحكومة الحالية، كون تركيبتها تحقق مكاسب سياسية واقتصادية جمّة للشرائح التي تمثلها، وأولها جمهورا المستوطنين والحريديم. وكما يبدو منذ الآن، فإن الحالة الوحيدة التي من الممكن أن تقلب كل المعادلات، هو ظهور جوانب أخطر مما يظهر حاليا، في ما يتعلق بشبهات الفساد الجاري التحقيق فيها في محيط نتنياهو.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات