منهجية إعداد تقرير هذه المفوضية وطريقة عرض معطياته هي التي تكفل هذا العدد المنخفض جدا، نسبيا، من "الشكاوى المحقة" ونسبتها المئوية المتدنية، بالتالي، من مجمل عدد الشكاوى المقدمة إلى المفوضية في سنة محددة في إحدى قاعات محاكم الصلح في إسرائيل، توجه القاضي فجأة إلى إحدى السيدات قائلا: "السيدة هناك، بالأحمر في الصف الثاني... هل أنت زانية؟ ... لا، لا، فقط أريد أن أعرف... لم أقل إنك زانية، بل سألت"!! وقد حصل هذا بينما نهضت السيدة من مكانها وبدأت تتقدم نحو منصة الشهود في قاعة المحكمة، مقابل القاضي. وعلى الرغم من ذلك، لم يقرّ "مفوض الشكاوى"، رسميا، بأن هذه الشكوى محقة، إذ قال "لم أجد حاجة إلى الإضافة نظرا لأن القاضي كان على وشك إنهاء مهام منصبه قريبا، وهو ما حصل فعلا"!!

تلقت مفوضية شكاوى الجمهور ضد قضاة المحاكم المختلفة في إسرائيل، خلال العام المنصرم 2014، ما مجموعه 794 شكوى، وجدت من بينها 55 شكوى (فقط!) مُحقـّة!

هذه هي "النتيجة الأبرز" التي تظهر من بين طيات التقرير السنوي، للعام 2014، الذي قدمته، في أواخر آذار الأخير، "مفوضية شكاوى الجمهور ضد القضاة" في إسرائيل، والتي يرأسها حاليا النائب السابق لرئيس المحكمة العليا الإسرائيلية، القاضي المتقاعد إليعازر ريفلين. وسنعود إلى هذه "النتيجة الأبرز" لاحقا هنا.

والمحاكم المدنية في إسرائيل (خلافا للمحاكم العسكرية، التي تشكل جهازا آخر مستقلا قائما بذاته) تشمل ثلاث درجات من المحاكم "العامة": المحكمة العليا، المحاكم المركزية (الدرجة الوسطى) ومحاكم الصلح (الدرجة الدنيا).

أما من حيث التخصصات المختلفة فهناك العديد من المحاكم: المحكمة المركزية تعمل، أيضا، كمحكمة للشؤون الإدارية، بينما تشمل محاكم الصلح: محاكم السير، محاكم الدعاوى الصغيرة، محاكم الشباب ومحاكم الشؤون المحلية. وإلى جانبها، هناك أيضا: محاكم العمل، محاكم شؤون العائلة، المحاكم الدينية اليهودية، المحاكم الشرعية (الإسلامية) والمحاكم المذهبية (الدرزية).

شكاوى متنوعة تطال دائرة واسعة من الممارسات

وبموجب التقرير، فإن 82% من مجمل الشكاوى التي قدمت ضد قضاة المحاكم المختلفة في إسرائيل خلال العام 2014 وردت من أطراف متقاضين (متداوِلين في المحاكمة)، شهود، ضحايا المخالفات، مؤسسات وغيرها. وقد تنوعت مواضيع الشكاوى وامتدت على دائرة واسعة من المجالات والمواضيع، من بينها بصورة أساسية: تصرفات غير لائقة من قبل القضاة في قاعات المحاكمات وخلال المداولات القضائية؛ غياب المزاج القضائي اللائق؛ استخدام كلمات وتعابير مهينة أو جارحة بحق أحد الأطراف أو بحق المحامين؛ رفع الصوت دونما حاجة؛ ممارسة ضغط غير تناسبي وغير منطقي على الأطراف المتنازعة / المتقاضية من أجل دفعها للتوصل إلى "تسوية" خارج أروقة المحكمة؛ إبداء الاستهتار والاستخفاف بالمتداولين وبقضاياهم؛ العصبية والمزاج الحاد؛ غياب الصبر والتسامح/ خلق أجواء مشحونة ومتوترة؛ عجز عن السيطرة على مجريات المحاكمة والمداولات القضائية والمس بالموضوعية والنزاهة القضائيتين.

وأوضح التقرير أن "مفوض الشكاوى" قام باستيضاح 488 شكوى من مجمل الشكاوى الإجمالية (794)، أي ما يعادل 62% فقط، بينما أصدر بحق الشكاوى الأخرى جميعها قرارا بأن "لا حاجة إلى استيضاحها"!

ويفصّل تقرير "مفوضية الشكاوى" عدد ونوعية الشكاوى التي وردت إليها خلال العام 2014 ضد القضاة في المحاكم في الدرجات القضائية المختلفة، على النحو التالي: 24 شكوى ضد قضاة المحكمة العليا (الدرجة القضائية الأعلى في إسرائيل)، لكنّ المفوّض لم يجد ولو شكوى محقة واحدة من بين هذه الشكاوى، إذ قرر بالنسبة إلى 19 منها أن "لا حاجة إلى استيضاحها، إطلاقا"، بينما رفض 3 شكاوى أخرى بعد إتمام استيضاحها فيما أوقف عملية الاستيضاح بالنسبة لشكويين، قبل انتهائها وإتمامها.

وتلقت "مفوضية الشكاوى" 96 شكوى ضد قضاة في المحاكم المركزية المختلفة، وجد المفوض 7 منها محقة، فيما قرر أن "لا حاجة للاستيضاح" بالنسبة إلى 43 شكوى (44% من الشكاوى ضد قضاة المحاكم المركزية) بينما رفض 40 شكوى أخرى (40% من هذه الشكاوى). وتم وقف عملية الاستيضاح، قبل إتمامها، بالنسبة إلى 6 شكاوى من بينها.

أما القضاة في محاكم الصلح، فقد وردت 377 شكوى ضدهم، وجد المفوض من بينها 24 شكوى محقة (7% منها) بينما رفض 179 شكوى منها (49%) بعد إتمام استيضاحها، فيما قرر أن "لا حاجة للاستيضاح" بالنسبة إلى 106 شكاوى (29%) وأوقف عملية الاستيضاح قبل إتمامها بالنسبة إلى 31 شكوى (8%).

وتوزعت هذه الشكاوى، من حيث مواضيعها، على النحو التالي: 12 شكوى (50%) حول استمرار الإجراءات والمداولات القضائية لفترات طويلة جدا، التأخير والمماطلة في إصدار القرارات والأحكام القضائية؛ 8 شكاوى (33%) حول قصورات وعيوب في إدارة المحاكم وتسييرها و 4 شكاوى (17%) حول تصرفات غير لائقة.

وتبين من التقرير أن 53 شكوى قدمت في العام 2014 ضد قضاة في محاكم العمل (10 منها ضد قضاة محكمة العمل القطرية ـ الدرجة القضائية الأعلى في محاكم العمل)، وجد المفوض من بين 3 شكاوى محقة فقط (أقل من 1%!!). أما الشكاوى الثلاث التي وجد أنها محقة فكانت: شكوى واحدة ضد قاض في محكمة العمل القطرية موضوعها التأخير في إصدار حكم قضائي وشكويان ضد قاضيين في محكمة العمل اللوائية (الدرجة القضائية الدنيا في محاكم العمل) إحداهما حول قصور في إدارة المحاكمة وتسييرها والثانية حول تصرف غير لائق.

وسُجلت 144 شكوى ضد قضاة المحاكم لشؤون العائلة، وجد المفوض من بينها 8 شكاوى محقة فقط. ولفت التقرير إلى أن عدد الشكاوى المرتفع، نسبيا، ضد القضاة في محاكم العائلة "تشير إلى جملة من المشكلات والصعوبات الخاصة والمميزة، في نوعيتها أو في حدتها، لهذه المحاكم"! ومن بين هذه المشكلات والصعوبات، أشار التقرير بوجه خاص إلى "الطابع المميز للمداولات في محاكم شؤون العائلة، العلاقات المشحونة بين الأطراف المتقاضية والشحنات العاطفية القوية المرافقة لجزء كبير من هذا النوع من المنازعات والخصومات، علاوة على أن إجراء هذه المداولات في جلسات سرية ومغلقة يؤثر، هو أيضا،على الأجواء السائدة في قاعة المحكمة".

43% من الشكاوى غير محقّة!

وعمد "مفوض الشكاوى" إلى تقسيم الشكاوى التي تم الانتهاء من استيضاحها كليا في العام 2014، طبقا لنوع القرار الذي صدر بشأنها، على النحو التالي: 336 شكوى (تعادل 69% من الشكاوى التي جرى استيضاحها و 43% من مجمل الشكاوى) ـ تقرر أنها غير محقـّة؛ 49 شكوى (تعادل 10% من الشكاوى التي تم استيضاحها و 6% من مجمل الشكاوى) ـ انتهت بوقف الاستيضاح؛ 45 شكوى (تعادل 9% من الشكاوى التي تم استيضاحها) ـ انتهت بإنهاء الاستيضاح و 3 شكاوى (1% من الشكاوى التي تم استيضاحها) ـ انتهت بالإقرار بوجود قصور جهازيّ.

أما الشكاوى التي توصل "مفوض الشكاوى" إلى الإقرار بأنها شكاوى محقّة، والتي بلغ عددها 55 شكوى فقط من مجموع الشكاوى الكلي الذي لامس الـ 800، فقد توزعت من حيث مواضيعها على النحو التالي: 23 شكوى (42% من الشكاوى المحقة) دارت حول تواصُل الإجراءات والمداولات القضائية لفترات زمنية طويلة جدا، نسبيا، وحول التأخير والمماطلة في إصدار القرارات والأحكام القضائية؛ 15 شكوى (27% من الشكاوى المحقة) دارت حول تصرفات غير لائقة من جانب القضاة؛ 13 شكوى (24% من الشكاوى المحقة) حول قصورات وعيوب في إدارة المحاكمة وتسييرها؛ 4 شكاوى (7% من الشكاوى المحقة) حول انتهاك مبادئ العدالة الطبيعية.

وأما من حيث توزيعة الشكاوى المحقة الـ 55 على المحاكم (من حيث الدرجات) فقد أظهر التقرير أن غالبيتها كانت ضد قضاة في محاكم الصلح، التي تشمل أيضا محاكم الدعاوى الصغيرة، محاكم الشباب، محاكم السير ومحاكم القضايا المحلية: 24 شكوى (44% من الشكاوى المحقة) ضد قضاة في محاكم الصلح؛ شكوى (22% من الشكاوى المحقة) ضد قضاة في المحاكم الدينية اليهودية؛ 8 شكاوى (14% من الشكاوى المحقة) ضد قضاة في محاكم شؤون العائلة؛ 7 شكاوى (13% من الشكاوى المحقة) ضد قضاة في المحاكم المركزية (بما فيها محاكم الشؤون الإدارية)؛ 3 شكاوى (5% من الشكاوى المحقة) ضد قضاة في محاكم العمل وشكوى واحدة فقط وجدها "مفوض الشكاوى" محقة من بين الشكاوى التي قدمت ضد قضاة في المحاكم الشرعية (الإسلامية).

القاضي و"الزانية"!

بين الشكاوى التي يعرض لها التقرير ثمة ما يتجاوز الكثير من حدود المقبول، بل المعقول، في قاعة محكمة أيا كانت، بوجه عام وأعمّ، فكم بالحري في دولة حفرت في "بطاقة هويتها" كلمة "ديمقراطية" التي تتغنى بها ليل نهار. وللنمذجة، نورد هنا بعض العينات، كما أوردها تقرير "مفوض الشكاوى":

في إحدى قاعات محاكم الصلح في إسرائيل، توجه القاضي فجأة إلى إحدى السيدات قائلا: "السيدة هناك، بالأحمر في الصف الثاني... هل أنت زانية؟ ... لا، لا، فقط أريد أن أعرف... لم أقل إنك زانية، بل سألت"!! وقد حصل هذا بينما نهضت السيدة من مكانها وبدأت تتقدم نحو منصة الشهود في قاعة المحكمة، مقابل القاضي.

وفيما بعد، ادعى القاضي بأن "الكلمة كانت تقصد نكتة مشهورة" ولم يقصد، البتّة، السيدة التي كانت ترتدي قميصا أحمر وهمت بالمثول أمامه.

وعلى الرغم من ذلك، لم يقرّ "مفوض الشكاوى"، رسميا، بأن هذه الشكوى محقة، إذ قال إنه "لم أجد حاجة إلى الإضافة نظرا لأن القاضي كان على وشك إنهاء مهام منصبه قريبا، وهو ما حصل فعلا"!!

وفي حالة أخرى، طلب أحد المحامين من القاضي في إحدى محاكم الصلح قراءة بعض الوثائق التي قدمها إليه خلال الجلسة، نظرا لما فيها من بينات هامة، غير أن القاضي واجه هذا الطلب برفض قاطع قائلا: "أنا أقرأ ما أريد، متى أريد"!! وأقر المفوض بأن هذه الشكوى محقة.

وفي إحدى محاكم شؤون العائلة، وبينما كانت الأجواء مشحونة للغاية بين زوجين متخاصمين، تدخلت القاضية فجأة وقلت للزوج: "إرفعها على صاروخ"!! ولم ير المفوض أن هذه الشكوى محقة!

وفي محكمة أخرى من محاكم شؤون العائلة، أرغمت القاضية شابة قدمت دعوى "نفقة بالغ" ضد والدها بالتوجه نحو والدها وضمّه ومعانقته في قاعة المحكمة، على الرغم من أنه درج على ضربها والاعتداء عليها بينما كانت طفلة. وأقر المفوض بأن الشكوى محقة.

بقي أن نشير، هنا، إلى معنى وتبعات اعتبار شكوى ضد قاض ما شكوى محقة، كما يحددها "مفوض الشكاوى" نفسه: "أي قرار بشأن الشكوى يتم توثيقها في سجلّ القاضي الشخصي... وقد يكون لذلك معنى وتأثير على ترقيته مستقبلاً"! أي: لا شيء يذكر، على الإطلاق تقريبا. ذلك أن "المعنى والتأثير"، كما يصفهما المفوض (وهما ليسا بالشيء الكبير، أصلا)، ليسا مؤكدين وحتميين، بل محتملين فقط. وهذا، على الرغم من أن القانون يخوّل "مفوض الشكاوى" صلاحية تقديم توصية إلى لجنة انتخاب القضاة بإنهاء عمل قاض ما وإقصائه عن منصبه، أو التوصية أمام وزير العدل أو رئيس المحكمة العليا بتقديم اقتراح إلى اللجنة يقضي بإنهاء عمل القاضي وإقصائه.

"الشكاوى المحقة" الحقيقية!

تأسست "مفوضية شكاوى الجمهور ضد قضاة المحاكم" في إسرائيل في العام 2003، بينما كان رئيسها الحالي (المفوّض)، إليعازر ريفلين، لا يزال يجلس على كرسي القضاء، قائما بأعمال رئيسة المحكمة العليا آنذاك، دوريت بينيش. وريفلين هو المفوض الثالث، بدأ يزاول مهام منصبه في تشرين الثاني من العام 2013.

يرى المعنيون والمطلعون على الأمر أن منهجية إعداد تقرير هذه المفوضية وطريقة عرض معطياته هي التي تكفل هذا العدد المنخفض جدا، نسبيا، من "الشكاوى المحقة" ونسبتها المئوية المتدنية، بالتالي، من مجمل عدد الشكاوى المقدمة إلى المفوضية في سنة محددة.

ذلك أن هناك مئات الشكاوى التي تقدم إلى المفوضية، لكنها لا تقوم باستيضاحها قط، لأسباب مختلفة، ولهذا فهي لا تشملها (هذه الشكاوى) في الإحصاء العام.

وهذا إلى جانب الشكاوى التي تُغلق بعبارة: "تم إنهاء الاستيضاح" ، وهو تعبير يتيح خفض عدد الشكاوى المحقة بمعدل النصف تقريبا. فهذا التعبير هو "تعبير وسط" ما بين "الشكوى محقة" وبين "الشكوى مرفوضة"، غير أن الحقيقة هي أن هذا ليس أكثر من "تلاعب بالكلمات" يسمح بخفض عدد الشكاوى المحقة بنسبة كبيرة.

ففي التقرير الأخير هناك نماذج كثيرة على شكاوى "تم إنهاء الاستيضاح" بشأنها، بينما هي في حقيقة الأمر "شكاوى محقة"، لكنها لم تسجل كذلك لأن القضية (موضوع الشكوى) قد تم حلها، إما من خلال إصلاح القاضي ما استوجب الإصلاح، وإما لأن قرار الحكم القضائي قد صدر أخيرا، رغم التأخير الكبير وإما لأسباب أخرى. أي، أن الشكوى كانت محقة، عمليا، لكن موضوعها بلغ حله.