كان العنوان الأبرز الذي سيطر على تحليلات المختصين الإسرائيليين فيما يتعلق بنتيجة حزب "العمل" في الانتخابات الأخيرة، هو "الفشل" أو "الهزيمة"؛ إلا أنه في واقع الحال، وبقراءة أخرى للنتائج، سنرى أن حزب "العمل" سجّل قفزة كبيرة إلى الأمام، قد تكون فرصة تاريخية له، لإعادة وتثبيت مكانته كبديل للحكم، على الرغم من أن وضعية الشارع الإسرائيلي السياسية في هذه المرحلة تجعل احتمال عودته إلى الحكم بعد الانتخابات المقبلة أمرا في غاية الصعوبة، هذا إذا اخترنا تجنب كلمة "مستحيل". وأسباب هذا الاستنتاج لا تتركز في الحزب ذاته، بل أيضا بالأحزاب المرشحة للانضمام له في أي حكومة مفترضة سيقيمها.

فقد وصل حزب "العمل" إلى الانتخابات الأخيرة بقائمة "المعسكر الصهيوني"، متحالفا مع حزب "الحركة" بزعامة تسيبي ليفني. وكان هذا تحالفا منظورا من قبل، بسبب رفع نسبة الحسم إلى 25ر3%، ما يشكل خطرا على ليفني وحزبها، الذي تأسس قبيل انتخابات 2013، ولكنه لم يُثبت نفسه كحزب، بل بقي حزب "المرأة الواحدة": حزب تسيبي ليفني، التي تعاملت معه كغيرها من الأحزاب الشبيهة، فهي من تقرر هوية المرشحين، فلا هيئات قيادية في حزبها، وإن وُجدت هيئات كهذه فهي تبقى شكلية، لأن القرار يبقى بيد ليفني ذاتها.

وليفني ليست أكثر من اسم له شعبية، من الصعب تحديد حجمها. ولكن هذا الحجم أبعد بكثير جدا من وصف ليفني له، حينما قالت إن نصف المقاعد التي حققتها قائمة "المعسكر الصهيوني"، بمعنى 12 مقعدا، كان بفضلها، فهذا يعني أنها هي من أنقذت حزب "العمل" من سقوط إضافي، في حين أن استطلاعات الرأي التي كانت تظهر قبل الإعلان عن انشاء هذه القائمة التحالفية، كانت تشير إلى أن "العمل" سيحقق تقدما ما في الانتخابات المقبلة بمعنى الأخيرة.

ورغم ذلك، فإن جزءا من المقاعد الـ 24 التي حققها "المعسكر الصهيوني"، يعود إلى طابع "التجدد" الذي يظهر به حزب "العمل"، ما أعطى أملا لدى المعسكر الرافض لحزب "الليكود" بأن يعود "العمل" ليكون بديلا لحكومة اليمين المتطرف.

وكان حزب "العمل" قد حصل في انتخابات 2013 على 15 مقعدا، أعلى بمقعدين مما حققه في انتخابات 2009؛ ولكن عدا مسألة عدد المقاعد الضئيلة، فإنه في جولتي الانتخابات السابقتين، فقد مكانته كـ "الحزب الثاني" في الخارطة السياسية. ففي انتخابات 2009 حلّ رابعا، وفي انتخابات 2013 حلّ ثالثا، وبفارق كبير عن الأحزاب التي سبقته، ما أوحى بأن هذا الحزب المؤسس لإسرائيل، ومن انفرد بحكمها في السنوات الـ 29 الأولى لها، لن يعود إلى الحكم كحزب أول، أو على الأقل لن يحافظ على مكانة "الحزب الثاني".

عوامل ساهمت في الارتفاع

بالإمكان تعداد الكثير من العوامل التي لعبت دورا في زيادة قوة حزب "العمل" وقائمته التحالفية، بعد سنوات طوال من التراجعات، إذ كانت آخر مرّة رئس فيها حزب "العمل" الحكومة في العام 1999، ولمدة لم تزد عن 20 شهرا، ومنذ ذلك الحين، كان يسجل هذا الحزب تراجعا في كل واحدة من الانتخابات التي جرت خلال السنوات الـ 15 الأخيرة.

وإذا ما عدنا إلى نتائج الانتخابات في سنوات الألفين، سنجد أن حزب "العمل" هو أكبر المتضررين من أحزاب "الفقاعة" التي تظهر فجأة، لتزول بسرعة. على سبيل المثال حزب "شينوي"، في انتخابات 2003، حينما حصل على 15 مقعدا، ليختفي الانتخابات التالية. وحزب "يوجد مستقبل" الذي حصل في العام 2013 على 19 مقعدا، وفي الانتخابات الأخيرة التي جرت بعد 26 شهرا، خسر "يوجد مستقبل" 40% من قوته البرلمانية، ولربما لو طالت فترة حكومة نتنياهو أكثر، لخسر عدد مقاعد أكبر، وهذا ما سنعالجه مستقبلا. وفي الانتخابات الأخيرة، ظهر حزب "كلنا"، بقيادة موشيه كحلون، واعتمادا على طبيعته والظروف التي نشأ بها، فإن مصيره لن يكون مخالفا، والقضية مسألة وقت لا أكثر.

وما يجعلنا نستنتج ضرر حزب "العمل" من أحزاب "الفقاعة"، هو المعاقل الأساسية لقوة هذه الأحزاب الانتخابية، في منطقتي تل أبيب وحيفا الكُبريين، معقل العلمانيين، وما يسمى بـ "الوسط" و"اليسار الصهيوني"، وتعدان أهم المعاقل السياسية والانتخابية لحزب "العمل" تاريخيا، ولكن تراجعت مساهمتهما لحزب "العمل" مع السنين، وكانت المستفيدة من هذا التراجع أحزاب "الفقاعة"؛ ما يعني أن في هذه المناطق نسبة الاصوات العائمة، المتنقلة من حزب إلى آخر، أعلى من غيرها. وبالإمكان القول، إن هذا يعبّر عن خيبة أمل الأوساط العلمانية، و"الوسط" و"اليسار الصهيوني"، من أداء حزب "العمل".

ومن أبرز عوامل ارتفاع قوة حزب "العمل"، أنه في الولاية البرلمانية القصيرة نسبيا، 26 شهرا، جلس "العمل" في صفوف المعارضة، خلافا لكل الدورات السابقة في سنوات الالفين، التي كان فيها "العمل" شريكا في حكومات "الليكود"، وواحدة شكّلها حزب "كديما" المنهار. وساعد الجلوس في مقاعد المعارضة، وسلوك مسلك المعارضة، بالمقاييس الإسرائيلية الداخلية، باستعادة ثقة بعض ناخبيه القدامى، أو أن يكون ملجأ لمن خاب أملهم كليا من "الليكود" وزعيمه نتنياهو.

والعامل الثاني، هو التحالف الذي اقامه مع تسيبي ليفني، فمن الواضح أن شخصية ليفني تجذب أصواتا في الشارع الإسرائيلي، ولكن كما سبق وذكر هنا، ليس بالحجم الذي تزعمه، 12 مقعدا. اضافة إلى أن التحالف بحد ذاته يحقق في هذه الحالة بالذات "قيمة زائدة"، لكونه يعطي بعض القطاعات "أملا بالجديد" الذي يبحثون عنه.

وثالثا، أن هذا التحالف استطاع جرف أكثر من مقعد كامل من حزب "ميرتس"، الذي خسر أكثر من 1% من اجمالي المصوتين، مقارنة بالانتخابات التي سبقت الأخيرة، وساهم هذا بفقدانه مقعدا واحدا.

امتحان المستقبل

في المعادلة الانتخابية الإسرائيلية، لا يكفي الحزب الكبير حصوله على عدد مقاعد أكبر، وأن يتفوق على خصمه الأساس، لأنه بحاجة أيضا إلى ضمان تركيبة ائتلافية من أحزاب تفضل رئاسته للحكومة. والمثل الأبرز في هذا المجال كان في انتخابات العام 2009، فقد حصل حزب "كديما" برئاسة تسيبي ليفني على 28 مقعدا، مقابل 27 مقعدا لحزب "الليكود". إلا أن باقي توزيعة المقاعد كانت تميل لصالح اليمين المتطرف، والمتدينين المتزمتين، ما ضَمِن حكومة برئاسة "الليكود".

ويومها، أي في العام 2009، كان نتنياهو يرتكز على دعم 65 نائبا، ولكنه ما كان قادرا على استيعاب أكثر من 61 نائبا، بسبب كتلة "هئيحود هليئومي" الاستيطانية، التي ضمت حركة "كاخ" الارهابية، إذ وجد نتنياهو العائد إلى رئاسة الحكومة بعد عقد من الزمن، حرجا بضم تلك الكتلة، كونها ستؤثر على مشهد حكومته أمام العالم وخاصة أوروبا. ووجد نتنياهو يومها حبل الخلاص بحزب "العمل" بزعامة إيهود باراك. وأدت هذه الشراكة إلى حدوث انشقاق في كتلة حزب "العمل" البرلمانية، بعد أقل من عامين. وبقي القسم الصغير المنشق بزعامة باراك، في حكومة نتنياهو، التي عملت أطول فترة لأي حكومة، منذ العام 1996.

وكان واضحا في كل استطلاعات الرأي التي كانت تصدر تباعا وبكثافة كبيرة على مدى الحملة الانتخابية الأخيرة، أن حزب "العمل" الذي يقود قائمة "المعسكر الصهيوني"، لن يكون بمقدوره تشكيل الحكومة المقبلة، لأن توزيعة باقي المقاعد كانت تميل لصالح نتنياهو و"الليكود". وهذا شمل حزب "كلنا" بقيادة كحلون، الذي وضعه الإعلام الإسرائيلي في خانة الوسط، رغم أنه في الكثير من الأحيان أظهر كحلون وجهه اليميني، وأصوله في حزب "الليكود".

إن أحد أبرز المؤشرات في نتائج الانتخابات، هو أن الصدارة عادت إلى الحزبين التقليديين. فقد حصل حزب "الليكود" على 30 مقعدا، بدلا من 20 مقعدا حصل عليها في انتخابات 2013. بينما حصلت قائمة "المعسكر الصهيوني" على 24 مقعدا، منها 19 مقعدا لحزب "العمل"، و5 مقاعد لحزب "الحركة". وقد تكون الخارطة السياسية الإسرائيلية في طريق العودة إلى الحزبين الكبيرين التاريخيين، اللذين انهارت قوتهما في النصف الثاني من سنوات التسعين، بسبب انتهاج الانتخاب المباشر لرئاسة الحكومة، ولاحقا بسبب عوامل أخرى.

لكن من السابق لأوانه الاستنتاج كليا بأن هذين الحزبين سيستعيدان قوتهما حتى منتصف سنوات التسعين، حينما كانا يحتلان معا ما بين 66% إلى 75% من المقاعد الـ 120 في كل انتخابات.

والامتحان الصعب سيكون في المرحلة المقبلة لحزب "العمل"، فأداء المعارضة يحتاج إلى جهد مضاعف، كي يقنع بقدرته على تولي الحكم لاحقا. فمن الناحية السياسية، ذوّب حزب "العمل" على مدى سنوات، "الفوارق"، بالنظرة الإسرائيلية الداخلية، التي ميزته عن حزب "الليكود" في سنوات التسعين؛ وقد غيّب برنامجه السياسي لحل الصراع. وحينما كان يطرح برنامجه، كانت تطغى عليه الضبابية.

وما ساهم كثيرا في تذويب تلك "الفوارق" مشاركته في حكومات "الليكود"، التي كانت تنتهج السياسة اليمينية المتشددة، ولم يعترض عليها حزب "العمل"، باستثناء نهاية العام 2010، حينما باتت غالبية في كتلة الحزب البرلمانية تطالب بالخروج من حكومة نتنياهو، على خلفية نهجها السياسي، إلا أن من كان رئيسا للحزب، باراك، رفض الخروج، ما أدى إلى الانشقاق في الايام الأولى من العام 2011.

وفي تلك الدورة البرلمانية، كان عدد نواب كتلة "العمل" 13 نائبا، 8 نواب منهم قرروا الانسحاب من الحكومة وتحولوا إلى كتلة صغيرة. ولكن أداء تلك الكتلة لم يكن مميزا من الناحية السياسية، ومن تولت رئاسة الحزب يومها، شيلي يحيموفيتش، أيدت حجب قضية الصراع من رأس أولويات الأجندة السياسية. وعاد الحزب إلى الكنيست في انتخابات 2013 مع 15 نائبا، ما يعني أن انشقاق باراك لم يكن له قاعدة انتخابية في الشارع. وفي هذه الانتخابات حقق "العمل" قفزة أخرى، كما ذكر سابقا.

حتى الآن يُصر حزب "العمل" مع شريكه حزب "الحركة" على الجلوس في مقاعد المعارضة. ومنطق سير الأمور السياسية يعزز الاستنتاج بأن حزب "العمل" سيبقى في المعارضة، لأنه حتى لو قرر نتنياهو تغيير توجهه في تشكيلة الحكومة، واستبعد كتلة تحالف أحزاب المستوطنين "البيت اليهودي"، فإنه سيصطدم مع نواب حزبه، الذين ينافسون في تطرفهم نواب حزب "البيت اليهودي".

وفي حال بقي حزب "العمل" في مقاعد المعارضة سيكون أمام امتحان أداء المعارضة "المقاتلة"، وإذا ما نجح في هذا الأداء فإنه قد ينجح في معركته اللاحقة، وهي استعادة الكم الهائل من الناخبين الذين يلجأون إلى أحزاب "الفقاعة" في كل جولة انتخابات في السنوات الأخيرة.