المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

اختار رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، خلال تفقده لقوات الجيش الإسرائيلي بالقرب من منطقة الحدود مع لبنان، في 22 تشرين الأول الجاري، توصيفاً حاداً للحرب المتواصلة، معتبراً أنها "مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى إسرائيل". وكذلك، في سياق خطاب مفتوح لوسائل الإعلام، يوم 25 من هذا الشهر، قال نتنياهو مخاطِباً مواطني إسرائيل: "كان السابع من شهر أكتوبر يوماً أسود في تاريخنا. وسنجري تحقيقاً جوهرياً فيما حدث على الحدود الجنوبية وفي منطقة غلاف غزة. وسيتم التحقيق في هذا الإخفاق بشكل شامل. وسيتعين على الجميع بمن فيهم أنا شخصياً تقديم الإجابات لكن لن يحدث ذلك إلا ما بعد الحرب".

من خلال عبارات "حياة أو موت" و"يوم أسود" و"إخفاق"، يلتقي نتنياهو من دون أن يفصح مع حشد التحليلات والتعليقات التي قاربت ما بين الحرب الحالية التي باتت تحمل اسم حرب أكتوبر 2023 وبين حرب أكتوبر 1973 المعروفة بالتسمية العبرية كـ"حرب الغفران". وهذه الحرب الأخيرة تعتبر في المعجم الرسمي والوعي العام حرباً وجودية، حرب حياة أو موت. لذلك فليس صدفة أن هذه المقارنة وردت في عديد من التحليلات.

فالدبلوماسي والقنصل السابق في نيويورك ألون بنكاس كتب في صحيفة "هآرتس" يوم 8 تشرين الأول: "لا يمكن المبالغة في تقدير حجم وقوة موجات الصدمة المدوية لهجوم يوم السبت على إسرائيل. هذا هو يوم الغفران عام 1973 مرة أخرى، مع فارق أساس واحد: أن الخسائر التي لحقت بإسرائيل في عام 1973 (3 آلاف قتيل) كانت على حساب الجيش. غير أن هجوم يوم السبت، الذي من المؤكد أن يتصاعد، أودى بحياة مدنيين، وأرعب بلداً بأكمله وكان مهيناً بقدر ما كان مميتاً".

أما الضابط في سلاح المظليين السابق وعضو الكنيست السابق عوفر شيلح فقد ربط في مقال له يوم 21 تشرين الأول ما بين التجنّد الأميركي الحالي لحماية إسرائيل، وبين ما قامت به من تحرّك شبيه في العام 1973. وتوقّف في مقال تحت عنوان "غزة ستقرر مستقبل الشرق الأوسط" عند زيارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى إسرائيل، ورأى فيها خطوة تضاف "إلى سلسلة خطوات غير مسبوقة للإدارة الأميركية: الإعلان الفوري عن إرسال حاملة طائرات إلى المنطقة، وبعد ذلك إرسال حاملة طائرات أخرى، والتصريح الصريح لبايدن بأن من سيوسع ساحة المواجهة سيواجه ليس فقط إسرائيل، بل أيضا الولايات المتحدة، والتي تظهر الاستعداد لاستخدام القوة الأميركية وليس التلويح بها فقط للردع، والقطار الجوي للمساعدات العسكرية لإسرائيل الذي كان في حرب "يوم الغفران" في وضع أسوأ بكثير من ناحيتنا".

1973: "غُصنا في التصوّر الجاهز. ونحن الآن في هذا الوضع مرة أخرى"

علّق يعقوب (ماندي) أور، الجنرال في الاحتياط، ومسؤول سابق عن مراقبة نظام الأمن في مكتب مراقب الدولة، المسؤولية الرئيسة على الاستخبارات، مثلما كان في العام 1973. وقد نقل عنه موقع القناة التلفزيونية 12 يوم 8 تشرين الأول القول: "لا أفهم كيف وصلنا إلى هذا الوضع حيث لا يوجد إنذار أو استعداد استخباراتي حتى بدون مثل هذا التحذير. إنه أمر لا يصدق إلى حد الخزي. يتم إنفاق ثروة ضخمة على قدرة استخباراتية تعتبر واحدة من القدرات الاستخباراتية الأفضل في العالم؛ هناك قدرة على تلقي المعلومات وتقييمها. ولكن الأخطر من ذلك، أنه لا يوجد أي تقييم تكتيكي". وعن فشل الحاجز تحت الأرض والسياج، قال: "نحن نعتمد على تصوّر أن السياج يمكنه أن يصدّ وأن الطرف الآخر لن يتصرف بالطريقة التي يخطط لها، وعندما يتم استيفاء هذين التقييمين، نكون أمام تصوّر جاهز". وينوّه الموقع إلى أن المتحدث "يذكر الكلمة السيئة الذكر من حرب يوم الغفران"، ويضيف أور: "تم الاستعداد والتدريب على الجانب المصري وعلى الجانب السوري. كانوا مستعدين بامتياز ونحن غصنا في التصوّر الجاهز. ومما يبدو فنحن الآن في هذا الوضع مرة أخرى"، قاصدا تلك الحرب.

يُشار إلى أن مصطلح "التصوّر" في سياق حرب أكتوبر 1973 هو الاسم الذي أطلقته لجنة التحقيق المعروفة باسم "لجنة أغرانات" على المفهوم الذي صاغه قسم الأبحاث التابع لشعبة الاستخبارات في الجيش الإسرائيلي، خلال العام 1971، فيما يتعلق بالشروط الأساسية المصرية والسورية لخوض الحرب. تمت صياغة المصطلح على ما يبدو على أساس شهادة رئيس شعبة الاستخبارات اللواء إيلي زعيرا، الذي أوصت اللجنة في النهاية بإقالته بسبب مسؤوليته الشاملة. وكان في قلب التصور، كما حددته اللجنة، افتراضان أساسيان: "مصر لن تخوض حرباً ضد إسرائيل ما لم تضمن لنفسها أولاً قدرة جوية لمهاجمة إسرائيل بعمق، وخاصة المطارات الإسرائيلية الرئيسة، من أجل شلّ سلاح الجو الإسرائيلي. وسورية لن تشن هجوما كبيرا على إسرائيل إلا في نفس الوقت الذي تشن فيه مصر".

يشار إلى أنه كان بين المعلّقين من وضع منذ العام الماضي مقارنة مع حرب أكتوبر 1973 في سياق سيناريو مستقبلي محتمل فيما لو اندلعت الحرب بمفهومها الشامل مع حزب الله. فمثلا، الكاتب روغل ألفر كتب في "هآرتس" يوم 12 تشرين الأول العام الماضي (2022) أن "الناس يميلون الى تخيل ما جربوه، حسب التجربة. هذه نقطة تعامل تلقائية. الناس في إسرائيل لا يتعاملون مع حقيقة الحرب مع حزب الله فعلاً. يبقون في مستوى العناوين والشعارات ولا يدخلون الى الداخل. أي أنهم يتجنبون الاعتراف بالحقيقة الدامغة القادمة وهي أن إسرائيل لا تستطيع اجراء مفاوضات مع حزب الله من موقع قوة، وهي ستفعل كل ما في استطاعتها تقريبا لتجنب الحرب. لأنه في هذه الحرب يوجد لها ببساطة الكثير مما ستخسره، بالدماء والأموال، وهي الأمور التي تهم جدا كل مجتمع. الدماء ستسيل والأموال ستتوقف عن التدفق. الأضرار البشرية والاقتصادية ستكون ثقيلة على التحمل. الشعور سيكون مثل الشعور بيوم القيامة. المناخ سيكون مناخ يوم الغفران". 

"هذا الفشل (الحرب الحالية) يبدو أخطر من الفشل في حرب الغفران"!

لم يتوقف عدد من المحللين الإسرائيليين، سواء من الصحافيين أو العسكريين السابقين، عند الحدث نفسه بشأن أوجه الشبه أو ترداد الصدى لما كان في حرب أكتوبر 1973، بل ذهبوا إلى ما وراء الحدث حين سينتهي بشكل أو بآخر. المقصود أية آفاق سيكون مفتوحاً عليها، وخصوصاً على المستوى السياسي. هذا علماً بأنه ما زال من المبكر جداً تكوين صور تحليلية واضحة، لكن مع ذلك كانت هناك أسئلة وتخمينات متباينة. 

الجنرال المتقاعد عاموس جلعاد يقيم مقارنة بين الحدثين، من ناحية المضمون وكذلك من ناحية الاسقاطات المترتبة عليهما. بمعنى أنه يقرأ هذا الفشل من خلال مقارنته مع 1973 أي فيما أفضت إليه تلك الحرب على المستوى السياسي. وقال جلعاد في مقابلة مع قناة التلفزيون التابعة للكنيست، يوم 22 تشرين الأول: "نحن بعد حرب الغفران. يمكن للمستويين السياسي والعسكري فحص جانب الاستخبارات وإجراء تقييم. وأنا واثق حتى من دون أن أعلم أنه كانت هناك علامات ومؤشرات واسعة النطاق على عملية، ولا يعقل أن الاستخبارات لم تعلم، لكن هذا سوف يتضح فيما بعد". وهو يرى حتى أن "هذا الفشل (الحرب الحالية) يبدو أخطر من الفشل في حرب الغفران، فحينذاك فشل التقييم الاستخباراتي لكننا في النهاية كنا على مسافة 100 كيلومتر من القاهرة و40  كيلومتراً من دمشق، وبعد ذلك كانت اتفاقية سلام، بينما هنا نحن أمام فشل متعدد الأبعاد وهو ما يصعب استيعابه".

في مقال نشره جلعاد نفسه في "يديعوت أحرونوت" طرح السؤال "بالنسبة لليوم التالي لحماس"، وهو السؤال الذي يتردّد كثيراً، إسرائيلياً وأميركياً أيضاً. وهو يقدّر أنه "سينشأ فراغ وتوجد الكثير من البدائل. لكن يبدو أن المصريين لن يدخلوا الى هناك. وقوة دولية والجيش الإسرائيلي لا يمكنهما أن يعالجا هذا، ومع الفلسطينيين هذا قد ينطوي على تسوية سياسية، تتواصل مع اتفاق سلام مع السعودية وخلق حلف استراتيجي بين الولايات المتحدة والسعودية. في مثل هذه الحالة سيبذل جهد لاعطاء الرئيس أبو مازن نوعاً من السيطرة هناك لكن هذا لن يحصل بلا أفق سياسي".

ربما أن تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن، يوم 25 تشرين الأول، تتقاطع مع الرؤية "المائلة للتفكير السياسي" التي يقدمها جلعاد، من ناحية ما يجب او يُفترض أن ينجم عن هذا الحدث فيما يتجاوز المستوى العسكري. فقد قال بايدن خلال مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيز: "لا عودة إلى الوضع الراهن كما كان في السادس من أكتوبر عندما تنتهي هذه الأزمة، يجب أن تكون هناك رؤية لما سيأتي بعد ذلك. ومن وجهة نظرنا، يجب أن يكون ذلك حل الدولتين. وهذا يعني بذل جهود مركزة من جميع الأطراف - الإسرائيليين والفلسطينيين والشركاء الإقليميين وزعماء العالم – من أجل وضعنا على الطريق نحو السلام. في الأسابيع القليلة الماضية، تحدثت مع القادة في جميع أنحاء المنطقة - بمن في ذلك العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، والرئيس المصري السيسي، ورئيس السلطة الفلسطينية عباس، وبالأمس فقط مع ولي عهد المملكة العربية السعودية – حول التأكيد على وجود أمل حقيقي في المنطقة بمستقبل أفضل؛ وحول الحاجة – وأعني ذلك بصدق –إلى العمل من أجل اندماج أكبر لإسرائيل مع التشديد على أن تطلعات الشعب الفلسطيني ستكون جزءاً من ذلك المستقبل أيضاً".

"مثلما في 1973، رأت المنظومة كل المؤشرات واستنتجت بغرورها أنها مجرد مناورة"!

مقابل ذلك السيناريو المستقبلي الذي يميل إلى التفاؤل، بمفهوم "السلام الأميركي"، فإن آخرين عبروا عن توجّس وخشية من سيناريوهات مناقضة قاتمة. ولعلّ أحد أبرزهم هو المحلل والكاتب البارز في "يديعوت أحرونوت"، ناحوم برنياع، الذي كتب في ثاني أيام اندلاع الحرب، كيف أن "ملايين الإسرائيليين الذين تابعوا أمس، دهشوا وتخوفوا من هذه الحرب التي لم يعدّهم لها أحد. في نظري، 7 أكتوبر 2023 كان إهانة عظمى، إهانة لم يشهد لها الجيش الإسرائيلي مثيلا في كل سنواته. وسأشرح السبب: الإهانة الأولى كانت استخباراتية. مرة أخرى، مثلما في 1973، رأت المنظومة كل المؤشرات الدالّة لكنها استنتجت بغرورها أن هذه مجرد مناورة، تدريبات عابثة... الإهانة الثانية كانت السهولة التي تجاوز فيها عناصر حماس الجدار... الثالثة كانت السهولة التي عادوا فيها الى غزة، ومع عشرات الرهائن. أما الإهانة الرابعة فهي البطء الذي ردّ به الجيش الإسرائيلي على التوغّل. عشرات المخربين يتجولون في معسكر مدرعات وكأنهم يتجولون في بيوتهم ولم توجد مروحية هجومية تطلق عليهم النار. ستقولون: إن فشل يوم الغفران كلف عدداً أكبر بكثير من الضحايا، بما لا يقارن. هذا صحيح، بالطبع. لكن في حرب غفران 1973 واجهنا أكبر الجيوش العربية، وليس منظمة إرهاب من الدرجة الثانية. ومن الحرب الأليمة إياها خرج سلام لا يزال يصمد حتى اليوم، بعد 50 عاماً من وقف إطلاق النار". وهنا يقول الكاتب: "لكن من الصعب أن نرى في هذه اللحظة ما هو الخير الذي سيخرج من الحرب الحالية"، ويتابع في تتمة مقاله: "توجد للحدث في غزة معانٍ سياسية وحزبية بعيدة الأثر. غير أن وزنها الحقيقي لن يتبين إلا في المستقبل...".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات