"فسِّر لي أمرا واحدا: الطريقة التي استخدمها روبرت ماردوك في صحفه ومع الصحافيين التابعين له: صفقات فاسدة مع سياسيين، ومسؤولين كبار في سكوتلاند يارد، وأيضا رؤساء حكومات. فقد كانت طريقته معروفة للكثير من الناس وعلى مدى سنين؛ فكيف فقط، بعد كشف القضية الجنائية للتنصت الخفي الذي مارسه الصحافيون التابعون له، في صحيفة "نيوز أوف ذا وورلد"، بدأت الصحافة البريطانية الكتابة عن طرق ماردوك؟"- بهذا السؤال توجهت إلى رئيس تحرير واحدة من أكبر خمس

صحف بريطانية، وإحدى الصحف الهامة في العالم. كان هذا، بعد يومين أمضيناهما معا، شملت أكثر من عشر ساعات في مكتبي، في محادثة حول وضعية الصحافة في العالم، وقدرتها على مواجهة مراكز القوّة، وتأثيرها على السياسيين والشركات الضخمة. لكن السيد البريطاني الذي كانت له بشكل عام اجابة سريعة على كل سؤال، ولو الأكثر تعقيدا، صمت لبضع ثوان، وحينها رد على سؤالي بوجه عابس": أوميرتا".

"أوميرتا"؟ عفوا؟ أنا ملزم بالاعتراف بأنني لم أسمع هذه الكلمة منذ زمن طويل. فنغمة هذه الكلمة تذكرني بشيء ما من الأفلام السينمائية. ولكن كنت ملزما بالتأكد من أنه يقصد ما أفكر به. نعم "أوميرتا"، أحد ألقاب الهيبة المتداولة بالأساس في المافيا، والمقصود المصطلح الذي يلزم الجميع بالصمت في مواضيع معينة وعدم كشفه أبدا لسلطات القانون.

كانت هذه هي المرة الأولى التي يقوم فيها صحافي كبير إلى هذا الحد في صحيفة كبيرة، بالاعتراف على مسمعي بأنه في الثقافة الصحافية من الممكن أن يكون شيء ما مشتركا مع المافيا. فقوة ماردوك في سوق الصحافة البريطانية، كانت كبيرة إلى هذا الحد، ورادعة، ومخيفة، وقادرة على أن تُخرس لسنوات، ولم يكن أي شخص يريد محاولة أن يفسّر للجمهور كيف تعمل طريقة ماردوك. وأيضا العشرات أو المئات من السياسيين ورجال الأعمال، الذين عانوا على مدى سنين من قبضة ماردوك.

مؤامرة الصمت هذه تصدّعت، كما نذكر، في العام 2011، حينما كشف الصحافي نيك ديفيس، من صحيفة "غارديان"، التصرفات الجنائية في "نيوز أوف ذا وورلد"، الأمر الذي قاد سلسلة من الصحافيين والمدراء إلى السجن، وإلى إقامة لجنة تحقيق برلمانية، فحصت ثقافة المهنة والسلوكيات في الصحافة البريطانية، وعرفت باسم "لجنة وولفسون". وكانت استنتاجاتها مقلقة جدا: فقد كشفت عن كل الزبالة والعنف في العلاقات بين الناشرين والصحافيين والسياسيين، وعناصر شرطة ورجال أعمال.

إن نشر المحادثات السرية بين رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وبين الناشر والمحرر المسؤول لصحيفة "يديعوت أحرونوت" أرنون موزس، والتي يعد فيها موزس نتنياهو بأنه سيهتم بأن يستمر بالبقاء رئيسا للحكومة بقدر ما يريد. وكذلك افلاس صاحب السيطرة على صحيفة "غلوبس"، وصاحب أسهم في "يديعوت أحرونوت"، اليعازر فيشمان، بإمكانهما أن يكونا لحظة فارقة في تاريخ الصحافة الإسرائيلية، اللحظة التي فيها يقوم صحافيون إسرائيليون، بكسر مؤامرة الصمت: "الأوميرتا" خاصتنا.

مرحليا هذا لا يتم، وسوق الصحافة الإسرائيلية صغيرة ومكتظة، وغالبية الجمهور ما تزال أسيرة فكرة أن التمايز الأساسي بين وسائل الإعلام، هو سياسي: يمين ويسار، لأنه من الصعب تمييز الأوجه الأخرى، الأكثر تعقيدا: المال والقوة، ومصالح أصحاب وسائل الإعلام وبنوكهم، ورجال الأعمال المرتبطين بهم.

من الممكن أن طريقة الكشف عن مؤامرة الصمت في الصحافة الإسرائيلية، لم تبدأ بلجنة رسمية، لتحقق في الفساد، والتأثير على توجهات الصحافة، وإنما باللجنة البرلمانية، التي اقيمت في نهاية شهر حزيران الماضي، من أجل التحقيق في الطريقة التي تم فيها تسليم قروض ضخمة لحيتان مال، من أمثال فيشمان ونوحي دانكنر. والمشترك بينهما، ومعهما شاؤول ألوفيتش، الذي يقف في مركز تحقيقات جنائية كبرى، في سلطة أوراق المال، هو القوة السياسية الضخمة التي راكموها، من خلال ملكيتهم لوسائل إعلام، وميزانيات إعلانية ضخمة يسيطرون عليها.

في العامين الأخيرين تقول غالبية وسائل الإعلام الإسرائيلية إن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو هو رجب طيب أردوغان الإسرائيلي، الذي يسعى للسيطرة على الصحافة، وأن يخصيها ويجعلها تحت مراقبته. لكن هذه رواية مختلف عليها، وأحيانا سخيفة. فأولا السياسيون ورؤساء الحكومات، في غالبية دول العالم، منشغلون دون توقف بالصحافة وبالمحاولات للتأثير عليها. وفقط حينما تكون الصحف مؤيدة لهم تتوقف هذه المحاولات. ونتنياهو لم يخترع شيئا في هذه الجبهة.

وثانيا، من الصعب التفكير بأن رؤية لرئيس وزراء واجهت صحافة انتقادية على مر سنين كثيرة، مثلما حصل مع بنيامين نتنياهو. والسر الأكثر مكشوفا في الجهاز الصحافي في العقود الأخيرة، هو أن الحكومة بشكل عام، ورئيس الحكومة بشكل خاص، هما هدف هجومي سهل. في المقابل، فإن كل نشر عن تحقيقات، وحتى عن مجرد تقارير سلبية عن حيتان المال، واصحاب البنوك والمعلنين الكبار، تكون تقارير أكثر تعقيدا، وخطرة، وترافقها أحداث كثيرة. فللشركات الضخمة أدوات ضغط وقوة على الصحافة، أكثر من أي سياسي. وفي القطاع الاقتصادي، فإن القوة مركزة ومن السهل تفعيلها، بينما في القطاع العام، فإن القوة مشتتة، وفيها سلسلة من التوازنات، والضوابط، وفيها خصوم ومستشارون قضائيون، يقفون في طريق كل سياسي، مهما كانت لديه قوة.

آن الأوان لكسر الأوميرتا خاصتنا، وأن نروي للقراء لدى من تتركز القوة، وممن يخاف حقا المحررون والصحافيون في إسرائيل؛ من المال الضخم. وإذا لم نفعل هذا اليوم فإننا نخاطر، حينما سنصل إلى ذلك اليوم الذي لا نستطيع أن نفعل فيه أكثر.

(عن المجلة الشهرية لصحيفة "ذي ماركر")