كشف النقاب في الأيام الأخيرة، عن أن الثري اليهودي الفرنسي المتجنّس إسرائيليا منذ عامين، باتريك ديرهي، يجري مفاوضات باتت متقدمة، لشراء 34% من أسهم صحيفة "يديعوت أحرونوت"، وهي الأسهم التي يحتجزها بنك "هبوعليم"، وكانت للثري المنهار ماليا إليعازر فيشمان. وحسب ما نشر، فإن هذه ستكون الخطوة الأولى نحو شراء ديرهي السيطرة الكلية على الصحيفة من عائلة موزيس، المالكة الفعلية والمؤسسة للصحيفة في فلسطين منذ العام 1930. وعلى الرغم من أن ديرهي ما زال بعيدا عن الحلبة السياسية، وقطاع استثماراته هو الاتصالات والإعلام، إلا أن خطوته هذه تشكل حلقة جديدة في مسلسل سيطرة حيتان المال على وسائل الإعلام الإسرائيلية، كمنفذ للسيطرة على السياسيين وليكون هؤلاء حراسا لمصالحهم.

 

وصحيفة "يديعوت أحرونوت" هي عمليا الصحيفة الإسرائيلية الأكبر، منذ مطلع سنوات السبعين، بعد أن احتلت في حينه مكان صحيفة "معاريف"، التي انهارت في السنوات الأخيرة ماليا وبات انتشارها محدودا جدا. فعلى الرغم من أنه حسب استطلاعات الرأي، يظهر وكأن صحيفة "يسرائيل هيوم" اليومية المجانية، الداعمة بشكل كلي لشخص بنيامين نتنياهو، تحتل الصدارة من حيث نسبة التوزيع، في حدود 39% من قراء الصحف اليومية، وأن "يديعوت أحرونوت" باتت توزع بنسبة 34% الى 36%، إلا أن "يديعوت أحرونوت"، تبقى في صدارة الصحف المؤثرة في صناعة الرأي العام، وهي الأقوى بنظر الجمهور إعلاميا ومهنيا، إذ قالت استطلاعات سابقة إنه في ما لو تم توزيع "يسرائيل هيوم" بالبيع، لانخفض انتشارها الى 5% كأقصى حد.

وهذه الحقيقة يدركها تماما رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ولذا اهتم دائما بشكل ظهوره في "يديعوت أحرونوت"، حتى ولو على حساب الصحيفة التي صدرت لأجله، "يسرائيل هيوم"، بتمويل كلي من صديقه الخاص، الثري الاميركي اليهودي شلدون إدلسون، صاحب أكبر شبكة قمار في العالم. وهذه قضية هي محور واحدة من قضايا الفساد المتورط بها نتنياهو، إذ هناك تسجيلات بين نتنياهو والمالك الفعلي ليديعوت أحرونوت، أرنون موزيس، يتفاوضان خلالها كي تكون الصحيفة "ودية" لنتنياهو، مقابل أن يضمن الأخير مشروع قانون يقيد انتشار "يسرائيل هيوم"، التي باتت تقتنص حصة ليست قليلة من ميزانيات الإعلانات المخصصة للصحف الورقية، ما يعد بمثابة رشوى، وهذه القضية تحمل كنية "القضية 2000".

وقد تأسست "يديعوت أحرونوت" في سنوات الثلاثين في فلسطين، على يد يهودا موزيس، وبقيت الصحيفة بملكية خالصة للعائلة، إذ انتقلت الملكية للأبن نوحي، ومنها الى أبنائه. وتحولت مع السنين الى شركة إعلامية ضخمة، تملك أكبر وأهم موقع اخباري إسرائيلي على شبكة الانترنت، "واينت"، وسلسلة صحف مناطقية، ومجلات أسبوعية وشهرية واسعة الانتشار، إضافة الى شبكة مطابع صحف.

ولاحقا تحولت الصحيفة وكل اصداراتها المتشعبة الى شركة مساهمة، يملك 24% من أسهمها أرنون موزيس، إلى جانب السيطرة على الصحيفة، و13% لمريام موزيس (زوجة عم أرنون)، و12% لجودي موزيس نير شالوم، زوجة وزير الخارجية الأسبق سيلفان شالوم. بينما تملك 17% عائلة يودكوفسكي، وحسب ما نشر فإن حوالي نصف الأسهم الـ 17% واقعة تحت الحجز لصالح بنك "ديسكونت"، بسبب افلاس تلك العائلة، وقد تكون هذه الأسهم هدفا قريبا أيضا للثري ديرهي.

أما نسبة الـ 34%، فهي بملكية الثري الإسرائيلي إليعازر فيشمان، الذي قضت المحكمة بإفلاسه في الأشهر الأخيرة، بعد أن كان واحدا من أكبر حيتان المال الإسرائيليين. وتكشف في قضيته حجم الفساد الضخم في العلاقة بين حيتان المال والبنوك، والشركات التي تستثمر في البورصة في صناديق التقاعد، إذ جرى الحديث عن تخفيض في الديون المتراكمة، بما يزيد عن مليار دولار، يتكبدها بشكل غير مباشر الانسان العادي، من خلال خسارات في صناديق التقاعد والتوفير.

وكما ذكر، فإن أكبر البنوك الإسرائيلية يحتجز أسهم فيشمان، وهو يعرضها للبيع، إلا أنه لن يعرضها في المزاد بل في المفاوضات، التي يبدو أنها باتت في مرحلة متقدمة مع باتريك ديرهي، ويجري الحديث عن ثمن يقارب 300 مليون دولار، وهو ليس بذلك المبلغ لمن تتجاوز ثروته 14 مليار دولار.

وحسب ما نشر، فإن موزيس كان قد أبدى في السنوات الأخيرة استعدادا لبيع سيطرة على "يديعوت أحرونوت"، وحتى أنه خلال اتصالاته مع نتنياهو، عرض الأخير عليه أن يبحث عن مستثمرين ليشتروا أسهما في الصحيفة، على أساس أن يكونوا من أصدقاء نتنياهو في العالم؛ وهذا ما يعزز الاعتقاد بأن ديرهي يتجه نحو امتلاك الصحيفة كليا تقريبا، بعد أن يشتري في المرحلة الأولى 34%، ثم 8% من أسهم عائلة يودكوفسكي، ولاحقا نحو نسب أكثر.

وقال تقرير لصحيفة "ذي ماركر" الإسرائيلية إنه في السنوات الأخيرة، نشأت علاقة تعاون بين ارنون موزيس، والثري ديرهي، وحتى أن شركة انتاج تملكها ابنة أرنون موزيس وزوجها، تلقت عطاءات بقيمة عشرات الملايين الدولارات، لانتاج أفلام وبرامج شركة الكوابل التلفزيونية "هوت". وكما يبدو أن هذا ثمرة تلك العلاقة، التي حسب التوقعات قد تتطور الى حد بيع السيطرة على الصحيفة لديرهي، منهيا بذلك ملكية عائلة موزيس للصحيفة.

من هو باتريك ديرهي

باتريك ديرهي (53 عاما) هو يهودي مغربي فرنسي، حصل على الجنسية الإسرائيلية قبل عامين، بسبب القانون الملزم بحيازة الجنسية الإسرائيلية، كي يكون مالكا كليا لوسيلة إعلامية، تابعة لسلطة البث، إذ أن ديرهي يملك 100% من أسهم شركة الكوابل التلفزيونية "هوت"، التي توسع عملها أيضا في سوق الاتصالات. وقد احتل العام الجاري المرتبة الأولى في قائمة أكبر 500 ثري في إسرائيل، إذ أن ثروته الاجمالية بلغت 14 مليار دولار، بعد أن تكبد خسائر كبيرة في العام الماضي 2016.

وديرهي هو يهودي ولد في المغرب العربي، ووالداه كانا من اليساريين، وهاجرت العائلة في نهاية سنوات السبعين إلى فرنسا، وأكمل باتريك تعليمه فيها. وفي بداية سنوات التسعين فتح شركة صغيرة، كانت تعرض على الفرنسيين الاشتراك في شبكة كوابل تلفزيونية بأسعار أقل من غيرها. وسرعان ما توسعت الشركة، وسجلت نجاحات، لتبدأ في عملية شراء شركات أخرى.

وبعد أن استكمل خلال سنوات قليلة سيطرته تقريبا على شبكة الكوابل التلفزيونية في فرنسا، بدأ يتمدد في عدة دول أوروبية، تبعتها الولايات المتحدة ودول أفريقية، وإسرائيل. وقد بدأ في إسرائيل مساهما في شركة الكوابل "هوت"، التي جمعت شركات صغيرة سابقة، ودأب في كل مرّة على شراء أسهم مساهمين آخرين، إلى أن اصطدم بالقانون الذي يلزم بأن تكون أسهم 5%، على الأقل، في شركات الاتصالات بيد حامل جنسية إسرائيلية، فاختار ديرهي في العام 2015 الحصول على الجنسية الإسرائيلية ليطبق السيطرة الكلية على "هوت"، وبات قسم من شركاته مسجلا في إسرائيل.

وانضم ديرهي بفعل التجنيس في العام 2015، الى قائمة الأثرياء الـ 500 الأكبر في إسرائيل، حاملا معه ثروة بلغ مقدارها في ذلك العام 5ر16 مليار دولار، و"خسر" منها في العام الماضي 2016، ما يعادل 6ر7 مليار دولار، كقيمة شركاته في البورصة، بينما في هذا العام 2017، عاد ليحتل المرتبة الاولى بعد أن حقق أرباحا عن العام الماضي بقيمة 4ر6 مليار دولار، لتصل ثروته الإجمالية هذا العام إلى 14 مليار دولار.

 ديرهي والسيطرة على الإعلام

حتى الآن لا يظهر اسم باتريك ديرهي في الحلبة السياسية الإسرائيلية، خلافا للعديد من حيتان المال الذين يسيطرون على وسائل الإعلام في العقدين الأخيرين على وجه التحديد. وقد يكون ديرهي يتعامل حقا مع وسائل الإعلام كقطاع استثماري، خاصة وأن هذا هو قطاعه الاستثماري الأكبر في العالم. وهذا ما قد يبعده عن الحلبة السياسية، ولكن قد تكون الفترة القصيرة منذ أن حصل على الجنسية، هي التي تؤخر ظهوره في المشهد السياسي، خاصة وأن غيره من حيتان المال اليهود، من غير الإسرائيليين، لهم دور في الحراك السياسي، مثل شلدون إدلسون، وسبقه أيضا بدرجة أقل الثري الأميركي الإسرائيلي حاييم سبّان.

وتشهد إسرائيل منذ سنوات التسعين الأولى عملية تمت بشكل تدريجي حتى نهاية سنوات التسعين، ومن ثم حتى الآن، سيطر فيها حيتان المال على وسائل الإعلام المختلفة، وبشكل خاص على الصحف الكبرى ومحطات التلفزة واسعة الانتشار، وبشكل خاص القناتين الثانية والعاشرة، وهذه القضية طرحت أكثر من مرّة على بساط البحث في الكنيست وفي أوساط معينة.

وتحولت هذه القضية لاحقا إلى مصدر قلق، خاصة وأن وسائل الإعلام، وهي ليست مربحة، تحولت الى أداة ضغط بيد حيتان المال على السياسيين، بدءا من رأس الهرم، في سعي لتحقيق مصالحهم الاقتصادية، من خلال السياسة الاقتصادية، والقوانين والاجراءات اللازمة لمصالحهم. فسوق الإعلام هي سوق ضعيفة، والأرباح فيها قليلة جدا وهامشية، وغالبية الأطر التي تعمل فيها في السنوات الأخيرة تعاني من تراجع مالي كبير جدا، يجعلها غير حصينة في وجه الأزمات، وأحد أسباب هذا الضعف هو التغيرات المتسارعة في سوق الإعلام، وأمام وضع كهذا تتحول وسائل الإعلام من ذراع للمسؤولية تجاه المجتمع، إلى ذراع استراتيجية لحماية مصالح أصحاب رأس المال.

وكثير من المال تدفق في السنوات الأخيرة على وسائل الإعلام، وأعاد "التنفس الاصطناعي" لوسائل إعلام عديدة، مثل القناة العاشرة للتلفزيون، وشركة "ريشت" التي تدير قسما من القناة الثانية للتلفزيون، وصحيفة "معاريف"، وهذه الأموال لم يتم رصدها لأهداف استثمارات مالية ربحية.

وحقيقة أن حيتان المال يوظفون أموالهم بهذا الشكل، وعلى الرغم من الوضع الاقتصادي القائم في وسائل الإعلام، تعكس ظاهرة الاحتكارات في الاقتصاد الإسرائيلي، وتركيز الكثير من المصالح بأيدي عدد قليل من المستثمرين، وهذا الأمر يخلق حواجز تحافظ على الكارتيلات والاحتكارات الكبرى في وجه أي منافسة محتملة.

وقد زاد القلق في السنوات الأخيرة بعد أن تسلل الى أسهم بعض وسائل الإعلام أثرياء يهود من العالم متورطون في جرائم مالية عالمية، كما أن حيتان مال كبار يملكون أسهما في وسائل إعلام بارزة، قد تورطوا ماليا وانهارت امبراطورياتهم المالية، كما في حالتي الثريين فيشمان ونوحي دانكنر، ما يجعل أسهمهم في وسائل الإعلام تلك مشاعا للبيع، بأيدي من يدفع أكثر، ما يضع وسائل الإعلام في مكانة أخطر من حيث مكانتها الصحافية.

والهدف الأساس لحيتان المال في ملكية وسائل الإعلام، هو السيطرة على ماكنة صناعة الرأي العام، بما يخدم مصالحهم، وبهذا الشكل تكون لهم القدرة على السيطرة على السياسيين، خاصة أولئك الذين يجلسون في رأس هرم الحكم، أو يدورون في فلكه، ليكون الساسة حراسا لمصالح حيتان المال الاقتصادية في جهاز الحكم من عدة نواح.