مجرد حادث روتيني وخبر هامشي!

على الجانب الأول للجدار الحدودي (الأمني) تجمهر مئات الشبان في مظاهرة غضب ألقوا خلالها الحجارة وأضرموا النار في الإطارات المطاطية... إنهم سجناء داخل الجدار. على الجانب الآخر، برج حراسة محصن ومرتفع، يتواجد داخله جنود إسرائيليون، مهمتهم مراقبة الجدار.

 

المتظاهرون غير مسلحين، ولا يمكن لحجارتهم أن تشكل خطراً على الجنود المتحصنين داخل البرج. لكن المظاهرة محظورة- هذا ما قرره قادة الجنود المتواجدين في الجانب المراقِب، غير المسجون للجدار... أي في الجانب الإسرائيلي.

كان ثمة قناص داخل البرج، وضع على عدسة المهداف أحد المتظاهرين وأطلق النار، سدد رصاصة حية مباشرة نحو رأس عائد خميس جمعة (35 عاماً). فارق جمعة الحياة على الفور. أُطلق المزيد من الرصاص من داخل البرج ليصيب ستة متظاهرين آخرين بجروح. هذا ما حصل قبل عدة أسابيع فقط قرب الجدار الأمني على حدود قطاع غزة إلى الشرق من مخيم جباليا.

إنه مجرد حادث روتيني وخبر هامشي في وسائل الإعلام الإسرائيلية. وكالمعتاد أُستخدم أيضا أسلوب/ إجراء "إقتبس الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي وأُنشر تصريحه كخبر صحافي". في النص زُجت كيفما أتفق العبارة المألوفة "قوات الجيش الإسرائيلي عملت وفق إجراء اعتقال مشبوه".

أين ومن هو المشبوه هنا؟! هل كان المشبوه متظاهرا واحدا بالصدفة من بين مئات المتظاهرين؟! هل شكل جمعة، المتظاهر غير المسلح ، خطراً على حياة أي جندي؟!

أفلام الفيديو التي جرى تصويرها حول الحادث (المظاهرة) تظهر بوضوح أن نقطة الحراسة التابعة للجيش الإسرائيلي – تُطل من علو خلف سور – لم تكن عرضة لأي خطر أو تهديد.

لقد تحدى المتظاهرون السيطرة المطلقة للجيش الإسرائيلي في المنطقة العازلة وهي منطقة فلسطينية نظريا، ولكن فعليا يُحظر على الفلسطينيين الدخول إليها. لقد خرق المتظاهرون القاعدة الأحادية الجانب التي وضعها الجيش الإسرائيلي: مسموح لنا اقتحام مناطقكم، أما أنتم فممنوع عليكم حتى مجرد الاقتراب منا!

ذلك هو السبب الوحيد لتلقي عائد خميس جمعة رصاصة في الرأس.
وللتذكير، فإن الجيش الإسرائيلي يجتاح بشكل روتيني أراضي قطاع غزة، ويقوم بذلك مرارا وتكرارا من أجل "تسوية وتسطيح" أراض في الجانب الفلسطيني – الغزي للجدار. وقد جرت العادة على تسمية ذلك بلهجة الغموض التي تستخدمها وسائل الإعلام الإسرائيلية: "نشاط روتيني قرب الجدار" مما يشكل تمويهاً متعمداً لحقيقة أن الأمر يتعلق بالجانب الغزي للجدار، وهو اجتياح غير مشروع دون أي استفزاز أو تحرش من الجانب الفلسطيني.

لنقل ذلك ببساطة: إن القناص الذي قتل جمعة نفذ أمراً (عسكرياً) غير قانوني بتاتاً، وإن روتينية مثل هذه الأوامر لا تقلل ولا تلغي مطلقا كونها جرائم، وهذه الجرائم آخذة في الازدياد خارج نطاق رقابة الرأي العام الإسرائيلي.

قبل ثلاثة أيام فقط من وقوع الحادث المذكور أعلاه، وقع حادث مشابه إلى الشرق من خانيونس، فقد لقي فادي إبراهيم النجار (25 عاماً) مصرعه في إثر إصابته برصاصة في بطنه، وأصيب سبعة متظاهرين آخرين بجراح، بنيران قناص من الجيش الإسرائيلي.
قبل أسبوع من هذا الحادث (في 20 أيار) أطلق قناص الرصاص على الفتى خالد غامري (16 عاما) أثناء مشاركته في مظاهرة قرب الجدار شرقي مخيم البريج، مما أدى إلى إصابة الفتى بجروح بليغة. وكان الجيش الإسرائيلي قد أعدم (قتل) خلال عامي 2015 و2016 ما مجموعه 28 فلسطينيا من المتظاهرين غير المسلحين قرب الجدار الأمني، وأصاب مئات آخرين بجروح (وفقاً لمعطيات منظمة "بتسليم"). هذه المعطيات لم تنشر في وسائل الإعلام الإسرائيلية؛ ومثلما لا تُعد قطرات المطر في الخريف، لا يُعد في إسرائيل قتلى الجدار في قطاع غزة. ومن الواضح أن إسرائيل تتعايش بصورة جيدة مع حصة الدم الثابتة هذه ولا ترى فيها أي غضاضة.

منطقة الموت

تعتبر المنطقة العازلة التي أعلنت عنها إسرائيل في العام 2005 في الجانب الفلسطيني من الجدار الأمني، منطقة موت للفلسطينيين، ولا يوجد سبيل أفضل منها لتنفيس وإفراغ بالون "الانفصال" وإزالة المسؤولية الإسرائيلية عن قطاع غزة. من جهته يحرص الجيش الإسرائيلي بشكل متعمد على إبقاء حالة من الغموض فيما يتعلق بعرض المنطقة العازلة، والذي يتراوح بين 100 متر و3000 متر، فيما لا يمتلك الفلسطينيون أية وسيلة لمعرفة أين بالضبط تنتهي هذه المنطقة غير المحددة، وفي أي جانب سيظهر اليوم قائد المنطقة (الإسرائيلي) ليراقبهم من أبراج المراقبة. وفقا لتقدير الأمم المتحدة، فإن مساحة هذه المنطقة تصل إلى 17% من مساحة قطاع غزة، وإلى 35% من مساحة الأراضي الزراعية في القطاع. وهكذا فإن المنطقة العازلة لا تقتل الفلسطينيين فحسب، بل وتحكم عليهم أيضاً بكارثة إقتصادية؛ هذا فضلا عن أن طرد وإخلاء السكان الفلسطينيين من هذه المناطق الواسعة، يُفاقم أكثر مستوى الاكتظاظ السكاني في قطاع غزة، والذي يعتبر من الأعلى في العالم.

إلى ذلك فإن إسرائيل لا تدخر في انتهاج وسائل خنق وتقويض مصادر معيشة المزارعين في قطاع غزة. ففي كانون الأول من العام 2015 قامت السلطات العسكرية الإسرائيلية برش 1500 دونم من الأراضي الزراعية تبعد مسافة 200 متر عن الجدار الأمني، وذلك على الرغم من أن البيان الأخير للجيش الإسرائيلي كان قد حدد المنطقة العازلة بـ 1000 متر فقط. ومن ناحية عملية فإن المواد المبيدة التي يجري رشها من الجو تؤدي إلى إبادة وإتلاف مزروعات في مساحة تصل إلى 7000 متر من الجدار، وبذلك فإن حدود مساحة المنطقة (العازلة)- المتغيرة بصورة تعسفية - التي يفرضها الجيش الإسرائيلي، تغدو عديمة الأهمية. ففي شباط من العام الجاري قامت طائرات رش مبيدات إسرائيلية بإتلاف 4000 دونم من الحقول الزراعية في عمق أراضي قطاع غزة، وبما يتعدى أيضاَ مسافة 250 مترا من الجدار. وقد تكررت هذه العملية بعد شهرين فقط، مما يشير هنا إلى إتجاه تصعيدي من جانب إسرائيل في هذا المجال. ووفقا للذريعة الإسرائيلية الرسمية فإن المزروعات في تلك المناطق تساعد في إخفاء النشاطات "التخريبية"، غير أن هذا المبرر - مَثَله كَمَثل المبرر الرسمي لـ " إطلاق النار على مشبوهين" والذي يؤدي مرارا إلى قتل أبرياء - يبدو سخيفا في ضوء حقيقة أنه جرى أيضا رش وإتلاف نبات السبانخ الذي لا يزيد إرتفاعه عن 20 سم! وهكذا فإن إسرائيل تتحمل إذن المسؤولية أيضا عن الانخفاض الحاد في الإنتاج الزراعي في قطاع غزة.

لقد اعتاد معظم الإسرائيليين على وضع نعال أحذيتهم على رقاب سكان قطاع غزة، دون أن يروا أية مشكلة أو غضاضة في ذلك. ولكن المشكلة، كما هي دائما، تكمن في أن الأمن الحقيقي مرتبط بالعدالة. فحركة "حماس" لن تأخذ على عاتقها المسؤولية الأمنية الكاملة عن إطلاق الصواريخ بإتجاه إسرائيل ، طالما أنها لا تتمتع بمسؤولية أمنية كاملة في قطاع غزة.

ليس لإسرائيل أي حق في إجتياح أراض أو منطقة تعلن وتصرح هي نفسها صباح مساء أنها انسحبت منها إلى الأبد. وطالما كانت تعطي لنفسها الحق، وتقوم بتجسيده وسط إزهاق أرواح فلسطينيين أبرياء، فإنها تعطي بذلك حقا موازياً لحركة "حماس" باقتحام مناطقها وتنفيذ هجمات فيها. إن اجتياحات الجيش الإسرائيلي المتكررة لأراضي قطاع غزة هي أعمال عدوانية وليست دفاعية، كما أن قتل متظاهرين برصاص قناصين يعتبر عملا إرهابيا بكل ما تعنيه الكلمة.

الصيادون كأعداء

إن الحصار البحري المفروض على قطاع غزة يحصد بدوره أيضا حصته الموسمية من الدماء الفلسطينية. قبل أكثر من شهر فتحت سفينة تابعة لسلاح البحرية الإسرائيلي نيرانها على قارب صيادين تجاوز منطقة الصيد التي خصصتها إسرائيل لقطاع غزة، الأمر الذي أدى إلى مقتل محمد ماجد بكر (23 عاما) من سكان مخيم الشاطئ وذلك بعدما تلقى رصاصة في صدره. ومحمد هو الصياد الثاني الذي قتل برصاص الجيش الإسرائيلي هذا العام. ففي إحدى ليالي شهر كانون الثاني الماضي إنقضت سفينة تابعة لسلاح البحرية على قارب محمد الهسي (33 عاما) مما أدى إلى تحطيم القارب وسقوط محمد في مياه البحر، والذي لم يعثر على جثته حتى الآن. ووفقا لمعطيات لم تنشر في وسائل الإعلام الإسرائيلية فقد أعدم الجيش الإسرائيلي منذ العام 2007 ستة صيادين في مياه غزة وجرح المئات، ففي العام 2016 وحده فتحت زوارق سلاح البحرية الإسرائيلي النيران- نيران رشاشات أو قذائف مدفعية - في ما لا يقل عن 133 مرة باتجاه مراكب صيادين خرجوا للصيد من شاطئ مدينة غزة. وعلى الأرجح فإن عدد حالات تجاوز الصيادين الغزيين لمجال الصيد المعتاد (66 ميلا) أكثر بكثير. وهو ما يدعو لتخمين حد الجوع واليأس الذي يجب أن يبلغه إنسان من أجل الإبحار في قارب دون أي سلاح، إلى منطقة تخضع لرقابة دائمة من قبل سفن وزوارق سلاح البحرية الإسرائيلي، في وقت يدرك فيه بأن لقاءه بها سينتهي بإطلاق نيران قاتلة باتجاهه.

بطبيعة الحال فإن إسرائيل تنظر إلى الأمر برمته كمعروف تسديه للفلسطينيين، كما لو أن من البديهي أن مجال غزة البحري يعود إلى إسرائيل وليس لغزة. ووفقا لإتفاقيات أوسلو فإن مجال الصيد المسموح به من قبل إسرائيل حُدِدَ بـ 20 ميلا بحريا من شاطئ غزة، غير أن إسرائيل لم تسمح قط للصيادين الغزيين ببلوغ مثل هذه المسافة.

لقد كان الصراع دوما ضد الفلسطينيين اقتصاديا أيضا، على الرغم من محاولة إسرائيل تغليفه بغلاف أمني وزخرفته بشعارات من قبيل "تعاون إقليمي". ولعل ما يشهد على ذلك حقيقة أن الجيش الإسرائيلي يصادر قوارب الصيادين التي يتم ضبطها ويرفض إعادتها إلى أصحابها. وقد قدرت الأضرار المادية التي لحقت بالفلسطينيين من جراء مصادرة قوارب الصيد وإطلاق النيران من جانب سفن سلاح البحرية الإسرائيلي خلال العام 2016 بما قيمته نصف مليون دولار. لقد رأت إسرائيل أن عليها تحطيم فرع الصيد في غزة، تماما كما رأت فيما يتعلق بفرع المحاجر في الضفة الغربية.

وبالفعل فقد جرى سحق فرع الصيد البحري في قطاع غزة، إذ انخفض عدد الصيادين المسجلين من 10 الآف صياد في العام 2002 إلى حوالي 2000 صياد فعلي في العام 2017. ويعيش 95% من الصيادين في قطاع غزة تحت خط الفقر، الأمر الذي يقتدي تقديم مساعدات إنسانية لهم (وذلك مقابل النسبة العامة للفلسطينيين المحتاجين لمساعدات كهذه في قطاع غزة والبالغة 80%).


والسؤال: هل كان القضاء على فرع الصيد في غزة مصلحة إسرائيلية؟!

تبين الوقائع أن الإجابة نعم، حتى في الوقت الذي كان فيه القادة الإسرائيليون يدعون "إن عدونا هو حماس وليس سكان غزة "، ويقولون في ذات الوقت إن "سكان غزة مذنبون بانتخابهم لحماس".

عموما ليس هناك أي مبرر أمني لإتباع سياسة تقوض مصدر رزق عشرات آلاف المواطنين الغزيين، وطالما أن ذلك كان يعكس حقيقة الأمور، فإن ثمة حاجة لدعاية مستمرة من أجل تكريس الوعي الكاذب، كما لو أن هناك تهديدا وجوديا لإسرائيل يتأتى من شواطئ غزة.

هنا يدخل إلى الصورة المراسلون المقربون من صحافيي بلاط الجيش الإسرائيلي والمؤسسة الأمنية. فقد جاء في تقرير دعائي نموذجي نشر العام الماضي، أعده مراسل قيل إنه رافق "المقاتلين الشجعان" على ظهر سفينة "دبور" تابعة لسلاح البحرية الإسرائيلي في حربهم المتواصلة للقضاء على الإرهاب البحري، على حد قول هذا المراسل، أن "بحر غزة يشهد حربا يومية"! ولكن بين من ومن تدور هذه الحرب؟! بين أسطول من السفن والزوارق الحربية المسلحة المسنودة بمنظومة مراقبة جوية، في مواجهة من؟! مجموعة صيادين جوعى مسلحين بشباك مهترئة، أو مجموعة مهربي بضائع من سيناء؟!

ويتحدث تقرير هذا المراسل عن "عمليات مطاردة بحرية" لقوارب صيد تجاوزت المجال المسموح به، وأن سلاح البحرية مكلف بواجب "إرغام المخالفين على العودة من حيث أتوا"! هكذا يوصف بعض الصيادين الذين ركبوا أهوال البحر بحثا عن فسحة صيد وراء مياه شاطئ غزة الضحلة!

هكذا تعمل وتنطلي الدعاية السلطوية على مواطني إسرائيل، وكل ذلك يجري عبر قناة أو محطة تجارية "متحررة" في الظاهر من قيود السلطة. ولعله يجدر بنا في هذا السياق إجراء مقارنة بين السياسة الرسمية الإسرائيلية المتبعة في سنوات الألفين والسياسة التي اتبعت قبل 40 عاما في قطاع غزة، الذي احتل في العام 1967 حيث وضع القطاع تحت سلطة الإدارة المدنية الإسرائيلية في محاولة "للتخفيف والتسهيل" على السكان جنبا إلى جنب مع مواصلة التصدي للمقاومة المسلحة.

ففي مقابلة أدلى بها مؤخرا المقدم (احتياط) إسحق إيني عبادي، الحاكم العسكري لغزة في ذلك الوقت، قال عبادي: "أقمت بالتنسيق لجنة صيادين كانت من وجهة نظري العامل الذي تولى تطبيق القيود التي قررناها من قبل الصيادين أنفسهم. هم أنفسهم ولسنا نحن، أخذوا على عاتقهم القيام بمهمة الشرطي الذي يحدد متى وأين وإلى أي عمق، ومتى يسمح بالخروج للصيد ومتى يجب العودة.. كان لا بد من اتباع إجراء أو نظام يتيح استئناف الصيد، ليس بواسطة إصدار ونشر أمر عسكري... وقد أخذ الصيادون على عاتقهم تطبيق نظام القيود المقررة من جانبنا.. لماذا فعلوا ذلك؟ لأنهم أرادوا أن يأكلوا! هذه المسألة كانت صحيحة طيلة الوقت.. بدأنا من الأمور الصغيرة: لجنة صيادين.. وجلب السمك".

ما الذي تغير منذ ذلك الوقت ؟ لم يتغير الكثير.
كانت وجهة النظر تقضي وقتئذٍ بأن ندع الغزيين ينظمون ويضبطون أنفسهم أمام أعيننا المفتوحة، أما الآن فوجهة النظر هي "ضبطهم بأنفسنا".

واقع غير محتمل: الـ"حل" تسوية مع حماس !

إن الحصار المفروض على قطاع غزة يقتل ويُميت.
هذا الحصار لم يفرض لأغراض دفاعية وإنما هو منظومة سلبية، عدوانية، وعمل حربي مستمر، ودمج لتكنولوجيا متقدمة ولجنود وضباط لا يرون أمامهم بشرا وإنما فقط ما يعتبرونه "تهديدا وجوديا".

هذا الحصار العدواني يتغلغل إلى المنطقة المحاصرة ويفتح نيرانه على المحاصرين غير المسلحين، وهو ما يشكل عملا روتينيا يجري في كل أسبوع.

إن ما تحاول وسائل الإعلام والسياسة الإسرائيلية كنسه تحت البساط - وهو "ضرر جانبي" و"ثمن مؤسف لكنه حتمي"- هو الجوهر والأساس، ويمثل ذلك التغيير المنظوري الذي يحتاجه الإسرائيليون كثيرا كي يبدأوا بفهم غزة. لا يمكن بأي حال من الأحوال فهم هذا الحصار العدواني كقدر حتمي لمتطلبات الأمن الإسرائيلية. وفي الواقع فإنه لا يفهم على هذا النحو، لا في قطاع غزة ولا في معظم دول العالم. إن الإسرائيليين الذين يعتقدون بأنه لا مفر، من أجل أن يناموا بأمان وطمأنينة، من قتل ضحية فلسطيني برصاصة في الرأس أو البطن، إنما يعيشون خدعة ذاتية عميقة. كذلك فإن من يعتقد أن إتلاف وتدمير الزراعة وفرع صيد الأسماك ودفع عشرات الآف العائلات الغزية إلى الفقر، هو ثمن محتمل، يعيش أيضا كذبة ليست أقل عمقا.

إن المكان الملائم للصرخة القائلة: "ما الذي تقترحه أنت" هو في النهاية في الهامش، ذلك لأن هذه الصرخة تملأ مركز المنصة منذ ما يزيد عن عشر سنوات، وتسكت كل بداية لنقاش انتقادي حول النظرة إلى قطاع غزة. وبصورة عامة ومبدئية، ومن ضمن ذلك في هذه الحالة، يجوز بل ومن الضروري توجيه النقد لأي عمل دنيء أو ظالم حتى وإن لم يكن لدينا تصور بشأن الكيفية التي سيبدو فيها التصحيح للظلم. كذلك يجوز ويجب علينا كشف وتعرية الحقيقة مهما كانت قاسية، وكشف المسؤولية التي نتحملها عن الجرائم التي ترتكب باسم "الأمن" وعدم الاكتفاء بالسؤال البائس: لكن ما الذي تقترحه؟!

إن الذين لا يوجد لديهم ما يقترحونه غير معفيين أيضا من معرفة الحقيقة والإقرار بالمسؤولية الأخلاقية.

إن إنكار الإسرائيليين لمسؤوليتهم عن الجرائم التي تقترفها إسرائيل في قطاع غزة ما زال إنكارا عميقا جدا، وإن أي حرف للأنظار نحو منابر النقاش المريحة في الاستوديوهات، يعتبر بمثابة إخلال وخيانة لدورنا المدني، وتواطؤ مع ذلك الإنكار ذاته. إن ما أقترحه وما يقترحه آخرون معروف منذ وقت طويل، لكنه لم يُجَرب قط: التوصل إلى تسوية حقيقية مع حركة "حماس". فثمة من يمكن التحدث معه، وما يمكن التحدث حوله، وهناك براهين كثيرة جدا. أريد فقط أن ألفت انتباه المهتمين إلى كل المنشورات التي وثقت المساعي والجهود المنهجية التي قامت بها إسرائيل من أجل إحباط أية فرصة للتوصل إلى ترتيب أو حل معين مقابل حركة "حماس"، ولإثبات أنه لا يوجد شريك فلسطيني.

هذا المقال كتب على خلفية أزمة الكهرباء الخطيرة في قطاع غزة. هذه الأزمة يبدو أن الإسرائيليين مسرورون جدا لها، وقد جلبت إلى شاشاتهم مشاهد مألوفة للبؤس والمعاناة في قطاع غزة. إنهم مسرورون لها لأنها تنعش قناعتهم الثابتة بأن "الفلسطينيين وحدهم فقط يتحملون وزر أوضاعهم". هنا وفي هذه النقطة يتوقف تفكيرنا السياسي، فهو لن يجرؤ على إلقاء نظرة إلى ما وراء حاجز الوعي الذي يقوم عليه الإجماع الإسرائيلي. فلو نظر هذا التفكير إلى ما وراء ذلك الحاجز فلربما تمكن من رؤية المسؤولية المباشرة لإسرائيل عن حقيقة أنه لا توجد في قطاع غزة منظومة طاقة كهربائية مستقلة بعد عشر سنوات على الانفصال وبعد خمسين سنة منذ احتلال القطاع. إن من نَمَّا وعزز التبعية وقَمَع كل بادرة للاستقلال الاقتصادي في قطاع غزة هو المحتل (الإسرائيلي) الذي أنكر وما زال ينكر دوره ومسؤوليته تجاه كارثة الفلسطينين في قطاع غزة.

من هنا لن نتحدث عن أزمة الكهرباء وإنما سنواصل الحديث فقط عن رصاص القناصين وقذائف سفن سلاح البحرية وتسميم وإتلاف الحقول الزراعية برشها بالمبيدات من الجو وإجتياحات البلدوزرات. سنتحدث فقط عن روتين الحصار الذي يقتل الناس بوحشية ودقة وبرود أعصاب، ويحيل أراضيهم إلى خراب وقفر، ومصادر رزقهم إلى جذر عقيم وجاف. سنستمر في رؤية والتحدث عن أولئك الناس الجوعى الذين يواصلون الانقضاض على الجدار دون أن يكون لديهم ما يخسرونه، ما عدا حياة البؤس والفقر والاستعباد، دون أن نتحدث عن أنفسنا.

______________________________
(*) أستاذ جامعي إسرائيلي. المصدر: شبكة الانترنت