يتحدث اليمين الإسرائيلي منذ 50 عاما عن ضم "يهودا والسامرة" (الضفة الغربية) إلى إسرائيل، إلا أنه في إختبار الفعل والنتيجة، مُني بفشل ذريع. هذه المسألة، مسألة "الضم" أو الامتناع عن الضم، طرحت مجددا على جدول الأعمال، ولا سيما عقب انتخاب الرئيس الأميركي الجديد المؤيد لإسرائيل، دونالد ترامب، والذي تعهد في حملته الانتخابية بنقل سفارة الولايات المتحدة من تل أبيب إلى القدس.

 

ثمة برنامج تعليمي يجري تنفيذه في جامعة "بار إيلان" في تل أبيب، تحت عنوان "دراسات إدارة وتسوية النزاعات". وترجع هذه التسمية الطويلة إلى كون مؤسسة الأكاديميا الإسرائيلية لم تحسم بعد موقفها تجاه المسألة المفتاحية/ الأولية: هل تعتبر جميع النزاعات قابلة للحل؟ فالقسم الذي يعتقد أن جميع النزاعات قابلة للحل، يريد تسمية المجال "تسوية النزاعات" في حين يفضل القسم الآخر، الذي يزعم بأنه لا يمكن حل أو تسوية كل نزاع، تسمية "إدارة النزاعات".

هذه المسألة الأساسية لا تغيب عن أي نقاش يتناول النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني: فهل يمكن تسوية هذا النزاع؟
من جهتي أميل إلى التماهي أكثر مع المدرسة (وجهة النظر) المنادية بتسمية "إدارة النزاع"، ولكنني أدرك أيضا أن الشعب اليهودي في إسرائيل، وكذلك الرأي العام العالمي، يُؤْثران سماع أن هناك حلا لهذا النزاع (وليس المقصود هنا بالذات التوصل إلى اتفاق أو تسوية تؤدي إلى تقسيم البلاد). هذه الحقيقة لا تعني بأنه يجب اختراع حل في الوقت الذي لا يتوفر فيه مثل هذا الحل، غير أنها تطرح بالتأكيد أمام أنصار توجه إدارة النزاع، المطلب بضرورة طرح رؤية مستقبلية يُدار النزاع بناء عليها أو في ضوئها.

فيما يلي عدة منطلقات/ فرضيات يمكن وتجدر مناقشتها في هذا الصدد:
أولاً: إن النزاع (الإسرائيلي- الفلسطيني) ليس نزاعا إقليميا (جغرافياً)، ذلك أن جوهر وجود الشعب الفلسطيني يشكل رفضا ونفيا لأية سيادة يهودية في أرض إسرائيل (وتشهد على ذلك حقيقة أن المطالب الإقليمية القصوى المطروحة من جانب الفلسطينيين كانت دائما وبصورة عجيبة من إسرائيل فقط، وليس قط من لبنان، أو سورية، أو الأردن أو من مصر).

ثانيا: صحيح أن رؤية أو وجهة النظر القائلة بـ"أرض إسرائيل الكاملة" تعتبر مشروعة بل ورومانسية، غير أنها ليست ذات أهمية كبيرة.

ثالثا: إن قيام دولة فلسطينية في "يهودا والسامرة" من شأنه أن يلحق ضرراً فادحاً بأمن مواطني دولة إسرائيل.
رابعا: سيواصل العالم الغربي ممارسة الضغط على إسرائيل كي تقدم جواباً أو حلاً للمسألة الفلسطينية، ولن يقبل بوجود أو بقاء السيطرة الإسرائيلية على سكان فلسطينيين دون تمتع هؤلاء السكان بحقوق مواطنة.

خامسا: المواطنون العرب في إسرائيل هم جزء من إطار الحل المطلوب للنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني (والدليل على ذلك أن قادة هؤلاء السكان العرب لا يوافقون على تعريفهم كـ"عرب إسرائيل" وإنما كعرب فلسطينيين في إسرائيل).

الدولة القومية للشعب اليهودي

بناء على هذه الفرضيات، فإن السؤال المطروح: ما هي الرؤيا المستقبلية التي سيدار النزاع في ضوئها؟
يتعين على إسرائيل العمل بصورة تدريجية من أجل فرض سيادتها على أقصى مساحة من أراضي "يهودا والسامرة" (آخذة في الحسبان في المقام الأول مصالحها الأمنية)، والعمل على تحقيق الدمج الكامل لـ"عرب إسرائيل"، كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، في المجتمع الإسرائيلي، ومنح مواطنة كاملة لـ"عرب يهودا والسامرة"، المعنيين بأن يكونوا جزءا من دولة إسرائيل.

إن الخطوة الأولى في تطبيق هذه الرؤيا تتمثل في سن قانون أساس: الدولة القومية للشعب اليهودي. وهذا ليس لأن القانون الأساس يهدف وبشكل غير ديمقراطي إلى ضمان كون إسرائيل دولة يهودية، وإنما لأن هذا القانون هو الذي يتيح التكريس الدستوري لضمان طابع إسرائيل كدولة يهودية، ولأنه سيشكل رسالة مبدئية حاسمة لـ"عرب إسرائيل" ومؤيديهم الذين يسعون إلى تحويل إسرائيل إلى دولة ثنائية القومية عن طريق وسائل وأدوات مساواتية زائفة (من قبيل مشروع "الدستور الديمقراطي" المقدم من جانب منظمة عدالة).

أود قبل الخوض في تفاصيل البعد الإقليمي لهذه الرؤية التي أقترحها، تبيان الفارق أو الاختلاف بين هذا الاقتراح وبين عدد من حلول الجوارير التي تتسق في الظاهر مع الفرضيات المذكورة.

الانفصال وتجميد البناء في المستوطنات

يمكن القول إن انسحابا أحادي الجانب من أجزاء في "يهودا والسامرة"، إلى جانب ضم كتل استيطانية، من شأنهما ظاهريا، مساعدة إسرائيل في دفع هذه الرؤيا قدماً. ولكن قبل عام واحد تقريبا من تنفيذ خطة الانفصال من جانب واحد عن قطاع غزة، أدلى دوف فايسغلاس، رئيس ديوان رئاسة الحكومة في ذلك الوقت، بمقابلة مطولة عرض خلالها أمام الصحافي آري شافيط الرؤية السياسية لرئيس الحكومة أريئيل شارون، شارحا بإسهاب الدوافع التي أدت بـ"عزيز المستوطنين" إلى تغيير جلده (هآرتس 8\10\2004). وقد كان ثمة من سعى، في المراحل المبكرة من الجدل السياسي، إلى تسويق عملية اقتلاع (إخلاء) عشرة آلاف مستوطن من سكان "غوش قطيف" (في قطاع غزة) وشمالي الضفة الغربية، كخطوة من شأنها أن تنقذ باقي المستوطنين. وقد صرح فايسغلاس وقتئذٍ قائلا: "فيما يتعلق بموضوع الكتل الاستيطانية الكبيرة، أدى الانفصال إلى حصولنا على تصريح (تعهد) أميركي هو الأول من نوعه، ستكون هذه الكتل الاستيطانية بموجبه جزءاً من إسرائيل... بعد سنوات، ربما عشرات السنين، وعندما تكون هناك مفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين، سيأتي سيد العالم (الولايات المتحدة) ويضرب بقبضته على المائدة ويقول: لقد قلت قبل عشر سنوات بأن الكتل الاستيطانية الكبرى هي جزء من إسرائيل". لكن الكلام شيء، والواقع شيء آخر، فعلى الرغم من حقيقة أن الفلسطينيين خدموا إسرائيل بسماحهم لحركة "حماس" بالصعود إلى الحكم، وباستمرارهم في مهاجمة مواطني دولة إسرائيل من أراضي قطاع غزة، إلاّ أن حكومة إسرائيل لم تُحسن ولم تستطع استغلال الثمن الباهظ الذي دفعته في سبيل جني أرباح ومكاسب حقيقية. فقد كان يتعين على شارون، فيما لو كان القصد هو إنقاذ الكتل الاستيطانية الكبيرة، أن يقود خطة مُدمجة تتضمن أيضاً بسط السيادة الإسرائيلية على هذه الكتل الاستيطانية. لقد ألحق شارون، بقراره القاضي أن تشمل خطة الانفصال اقتلاع مستوطنات وانسحابا كاملا من قطاع غزة، ضرراً فادحاً بمكانة إسرائيل في أية مفاوضات مستقبلية، إذ فسر العالم منذ ذلك الوقت خطوة الانسحاب الأحادي الجانب (وكذلك الانسحابات المستقبلية) على أنها اعتراف وإقرار بأن المشروع الاستيطاني (في الضفة الغربية وقطاع غزة) غير شرعي، والأسوأ من ذلك، أن الفلسطينيين محقون في مطالبهم. لكن المشكلة لم تنته عند هذا الحد: فطوال الوقت الذي استمر فيه قيام المستوطنات وازدهارها، كان عامل الزمن يعمل في صالح الجانب الإسرائيلي، فيما كان الجانب الفلسطيني هو الذي يتعرض للضغوط. ولكن منذ اللحظة التي تخلت فيها دولة إسرائيل عن قطاع غزة، تقرر وترسخ عمليا الموقف القائل بأن الاستيطان اليهودي في "يهودا والسامرة" مؤقت، ومن هنا فإنه لا يشكل عاملاً يجب أخذه في الإعتبار عند تعيين حدود الدولة الفلسطينية العتيدة.

نفس الأضرار التي تسبب بها الانفصال عن قطاع غزة، تسببت بها أيضا الموافقة على تجميد البناء في المستوطنات. فقد أضرالتجميد بشدة بشرعية جميع المستوطنات، وأراح الفلسطينيين أيضا من شبح عامل الوقت أو الزمن، وليس صدفة أن رئيس السلطة الفلسطينية أبو مازن وافق على العودة إلى مائدة المفاوضات فقط عند انتهاء فترة التجميد، وذلك بهدف كسب فترة تجميد إضافية لأنشطة البناء في المستوطنات.

لقد برهن الواقع على أن الانسحابات وخطوات التجميد لم تساهم في تعزيز مكانة الكتل الاستيطانية، وإنما العكس: فقد أدى ذلك فقط إلى خفض وتقليص أنشطة البناء في هذه الكتل الاستيطانية.

تبادل الأراضي

من جهة أُخرى، ثمة من سيقول بأن خطة أفيغدور ليبرمان المتعلقة بتبادل أراض، تشكل وسيلة مركزية في إستراتيجيا إدارة النزاع. وفي الواقع فإن موقف أو رد فعل العرب في إسرائيل تجاه اقتراح ليبرمان يثبت أنهم يفضلون خيار أن يكونوا جزءاً من دولة إسرائيل على خيار المواطنة في دولة فلسطينية، وهي حقيقة تقلل من إغراء أو جاذبية الحل الداعي لقيام دولة فلسطينية، لكنها لا تمنع هذا الحل.

من المحتمل بالتأكيد أن ينشأ وضع يغير فيه الفلسطينيون أسلوب عملهم، ويتبنون الفكرة (فكرة تبادل الأراضي) على طريق إقامة الدولة، وربما يوجهون هذه الفكرة أيضا نحو تطبيق المبدأ القائل بأن الأغلبية الديمغرافية هي التي تقرر في مسألة السيادة. هذا الواقع سيتيح للفلسطينيين المطالبة بأن يكون مركز الجليل أيضا (المأهول بحوالي 75% من السكان العرب) جزءاً من الدولة الفلسطينية، إضافة إلى مناطق في شمالي النقب وجنوبي جبل الخليل تمتد حتى قطاع غزة. والنتيجة ستكون هنا جلية: عودة إلى حدود مشروع التقسيم من العام 1947.

ثمة مشكلة أُخرى في اقتراح ليبرمان، تتمثل في الرسالة التي توجهها إلى "عرب إسرائيل"، ومؤداها أن الدولة ترى فيهم مواطنين مع وقف التنفيذ، يشكلون تهديدا لوجودها.

منح مواطنة لسكان فلسطينيين

هناك خطة ثالثة يمكن أن تؤخذ في الحسبان وهي خطة نفتالي بينيت، والداعية إلى بسط السيادة الإسرائيلية على كامل مناطق ج (في الضفة الغربية). غير أن وزير التربية والتعليم (بينيت) يتجاهل حقيقة أن خطته ستصطدم برفض ومعارضة المجتمع الدولي، أولاً وقبل كل شيء نظراً لأنها تعتبر كخطوة أحادية الجانب تفرض، من ضمن أشياء أُخرى، مواطنة إسرائيلية على السكان الفلسطينيين في مناطق ج.

لكن انطلاقا من هذا الاقتراح (اقتراح بينيت) بالذات أريد اشتقاق المبدأ الأول في اقتراحي: منح الجنسية (المواطنة) الإسرائيلية لسكان فلسطينيين بموافقتهم التامة. فبما أن العالم سيجد أن من الصعب قبول ضم أحادي الجانب، حتى لو كان الأمر يتعلق بمناطق يقطن فيها يهود فقط، فإنني أقترح البدء بالذات من المكان الذي لا وجود فيه لسكان يهود: من مدينة أريحا الوادعة، التي يقطنها قرابة 23 ألف نسمة من الفلسطينيين.

إن ما أقترحه هنا هو أن تعرض دولة إسرائيل على سكان أريحا إجراء استفتاء يختارون فيه بين أن يكونوا مواطنين إسرائيليين متساوين في الحقوق، أو البقاء في الوضع القائم إلى حين التوصل إلى تسوية أُخرى.

لماذا أريحا بالذات؟!
أريحا هي التجمع العربي الأكبر في منطقة غور الأردن، وهي مدينة منعزلة عن باقي المدن والتجمعات العربية في "يهودا والسامرة"، ويعتبر سكانها معتدلين نسبيا، وغير ضالعين تقريبا في أعمال الإرهاب. ولم يكن من باب الصدفة أن تطبيق إتفاقيات أوسلو أُستهل بمسار "غزة وأريحا أولا". ولأننا جربنا مسار "غزة أولاً " في العام 2005 (تنفيذ خطة الانفصال)، دون أن يتكلل ذلك بنجاح كبير، فإن ما يبقى أمامنا هو "مسار أريحا..".

ثمة سبب آخر لاختيار أريحا، وهو الفهم بأن إحدى أول المناطق التي يتعين على إسرائيل ضمها في المراحل الأولى هي منطقة غور الأردن. فبعد إجراء الاستفتاء في مدينة أريحا، سيكون في الإمكان تنفيذ عملية الضم بعد إجراء استفتاء بسهولة أكبر في منطقة الأغوار أيضاً ومناطق أُخرى قليلة الكثافة السكانية الفلسطينية.

إلى ذلك فإن لإختيار أريحا مغزى يهوديا رمزيا: فوفقا لـ"حكماؤنا رحمهم الله " فإن أريحا هي مفتاح السيطرة في أرض إسرائيل.

من المرجح أن يصطدم هذا الإقتراح بمعارضة بديهية في صفوف المجتمع اليهودي في إسرائيل. فالمزاج العام السائد، سواء في معسكر اليمين أو معسكر اليسار، غير متحمس لمنح مواطنة إسرائيلية لأي عربي. وقد بات هذا الاتجاه مهيمنا أكثر منذ أحداث صيف العام 2014 (اختطاف الشبان الإسرائيليين في غوش عتصيون وقتل الطفل محمد أبو خضير- في القدس- وعملية "الجرف الصامد" في قطاع غزة). وفي الفترة المنقضية منذ ذلك الوقت، شهدت العلاقات بين اليهود والعرب في دولة إسرائيل مزيدا من التدهور والانحدار، ولم يعد للتضامن بين المجموعتين السكانيتين وجود في الخطاب العام (خلافا للواقع القائم على الأرض) .

مع ذلك، وبنظرة بعيدة المدى، من الأفضل التطلع نحو الأمام والعمل على تحسين علاقات اليهود والعرب في إسرائيل، بمعزل عن المواقف السياسية ومسألة التسوية المستقبلية مع الفلسطينيين.

يمكن الافتراض بأن الفلسطينيين لن يوافقوا على الأرجح على إجراء الاستفتاء (المقترح في أريحا أولا). وفي هذه الحالة علينا أن نتذكر أن إستراتيجيا إدارة النزاع تنطوي على أفضلية كبيرة من حيث أن إسرائيل ستكون هي الطرف المبادر، وسيكون الفلسطينيون هم الطرف الرافض. وحتى الآن لم ينجح مؤيدو تقسيم البلاد سوى في وضع الفلسطينيين في موقف الرافضين. ومن شأن المسار المقترح هنا أن يتيح ذلك أيضا للذين يرفضون فكرة الدولة الفلسطينية.