أظهر بحث إسرائيلي نُشر مؤخرا أن نسبة الفلسطينيين في القدس تجاوزت 40% من مجمل السكان في شطري المدينة، بعدما تبين أن قرابة خمسين ألف فلسطيني، يسكنون في مخيم شعفاط للاجئين وضاحية كفر عقب، لم تشملهم أية إحصائيات. واستند البحث، الذي أجراه "معهد القدس"، إلى صور التقطت من الجو للمباني في هذين الموقعين، وإلى كميات الصرف الصحي والنفايات التي تخرج منهما. لكن هذه المعطيات الجديدة لا تغير من الواقع الاجتماعي – الاقتصادي المتدني في المدينة، خصوصا بسبب السياسات التي تمارسها دولة الاحتلال فيها.

 ورأى المؤرخ الإسرائيلي والنائب السابق لرئيس بلدية القدس، ميرون بنفنستي، أنه "لا يوجد شيء اسمه ’القدس المدينة’. هذا اختراع بيروقراطي له هدف سياسي واحد، وهو خلق حيز لا تجري مفاوضات حوله" بين إسرائيل والفلسطينيين.

في أعقاب حرب حزيران العام 1967، وسعت إسرائيل منطقة نفوذ بلدية القدس من 38 كيلومترا مربعا إلى 125 كيلومترا مربعا، من خلال فرض القوانين الإسرائيلية على القدس الشرقية والعديد من القرى الفلسطينية المحيطة بها، وهو ما اعتبرته إسرائيل ضما وفرضا للسيادة على هذه المناطق، لكن العالم لا يعترف بهذه الخطوة.

وأشار بنفنستي، وفقا لتقرير نشرته صحيفة "ذي ماركر" الأسبوع الماضي، إلى أن مساحة منطقة نفوذ بلدية القدس هي ضعفا مساحة باريس. وقال إنه "من أجل التحدث عن القدرة الكامنة لمدينة ينبغي أن تكون لها دلالة حضرية، ولا يوجد للقدس دلالة كهذه. إذ يدور الحديث عن جزر متنافرة، ونسيج مكون من كراهية، ولا يوجد أي احتمال لأن ينجح. وهناك مجموعة عزلت نفسها طواعية، وهم الحريديم، والثانية، العرب، معزولة كعقاب. وفي جميع الأحوال، كلتا المجموعتين ليستا مندمجتين مع باقي أجزاء المدينة، بل إن دعم القسم الشرقي من المدينة، الذي يبلغ حجمه مئات ملايين الشواكل، وغايته الحفاظ على السيطرة عليها، يُحدث ضغطا اقتصاديا كبيرا جدا".

وأضاف بنفنستي أن "الذي اتخذ القرارات بأن تمتد حدود القدس على 125 كيلومترا مربعا علم أنه يخلق وحشا حضريا، ووضعا مستحيلا. لكن بدا له أن الثمن مُجدٍ في مقابل الأفضلية السياسية والأيديولوجية للقدس الموحدة إلى أبد الآبدين. والوضع اليوم هو أن حوالي 40% من السكان يكفرون بشرعية الحكم. وهذه مدينة من دون إجماع، ومدينة كهذه لا يمكنها أن تؤدي مهامها".

وشدد الناشط الاجتماعي وعضو مجلس بلدية القدس سابقا، المحامي غلعاد برنياع، على أن "المدينة تتفتت. القدس ليست موحدة ولا حتى في غربي المدينة. توجد مشاكل بين الحريديم والعلمانيين، وبين الأشكناز والسفاراديم (اليهود الشرقيين)، وتوجد فيها أحياء فقر. إنها مؤلفة من مجموعة مجتمعات. ربما توجد أمور تدعو إلى التفاؤل مثل القطار الخفيف أو حديقة الحيوانات التوراتية، وترى هناك جميع المجتمعات، لكن هذا استثنائي. وعدا ذلك لا يوجد اندماج بين المجتمعات وإنما يوجد فصل بينها".

وأوضح برنياع أن "هذه مدينة لها تاريخ وتعقيدات كبيرة جدا. لا يمكن القول إن هذه مدينة طبيعية. هي ليست كذلك. لكن المشكلة هي أنه في معظم الحالات لا يفكر السياسيون، على المستوى القومي أو البلدي، كيف يحتوون هذا الأمر وكيف يبدأون خطوات صحية من أجل تعزيز المدينة، وإنما هم منشغلون بإثارة النفوس مثل مسيرة الأعلام (الإسرائيلية) التي تجري في يوم القدس (ذكرى احتلال المدينة) خلال السنوات الأخيرة، وينظر إليها الفلسطينيون على أنها طعنة في العين".

ويرى خبراء إسرائيليون في الجغرافيا والتخطيط البلدي أن التخطيط في القدس لا ينطلق من اعتبارات التطوير الحضري الطبيعي، وإنما من اعتبارات سياسية في مركزها الحفاظ على أغلبية يهودية. وكانت المعادلة السائدة أن يكون 70% من سكان القدس يهودا و30% عربا، لكن الإحصائيات الرسمية، التي نشرها "معهد القدس لدراسة إسرائيل" في العام 2015، تفيد بأن عدد السكان في شطري القدس يبلغ 865 ألف نسمة، ويشكل اليهود نسبة 63% والعرب الفلسطينيون 37%.

هجرة اليهود من القدس

قال المحاضر في قسم الجغرافيا في الجامعة العبرية في القدس، البروفسور عيران فايتلسون، إن "مفهوم التخطيط في القدس كان سياسيا طوال السنين الماضية. يفحصون حجم السكان العرب، وبموجب ذلك حددوا الغاية للسكان اليهود. لقد أقاموا أحياء (مستوطنات) عملاقة. بسغات زئيف وغيلو هما ضاحيتان عملاقتان وبعيدتان عن التواصل الجغرافي الحضري. وبدلا من إقامة مناطق تشغيل تزيد دخل البلدية من الضرائب، أقاموا مساكن. وهذه أمور تضر باقتصاد المدينة".

وللمقارنة، تفيد المعطيات بأن دخل بلدية تل أبيب من الضرائب البلدية يبلغ 9ر2 مليار شيكل سنويا، بينما دخل بلدية القدس من هذه الضرائب هو 9ر1 مليار شيكل، علما أن عدد سكانها قرابة ضعفي عدد سكان تل أبيب. وهذا الفرق الكبير نابع من الإعفاءات في هذه الضرائب التي تمنح للسكان في القدس بسبب حجم الفقر الكبير. ويزيد دخل بلدية تل أبيب من الضرائب على الأماكن التجارية بمبلغ 1ر1 مليار شيكل عن دخل بلدية القدس من هذا النوع من الضرائب. وحصلت بلدية القدس على دعم حكومي بمبلغ 8ر1 مليار شيكل في العام 2015، وشكل 37% من ميزانية البلدية، بينما حصلت بلدية تل أبيب على 680 مليون شيكل، شكلت 16% من ميزانية البلدية.

ويعمل 40% من المستخدمين في المدينة في المؤسسات الحكومية، مثل التربية والتعليم والصحة، و4% فقط يعملون في مجال الهايتك. وأحد أبرز أسباب هجرة اليهود من القدس، وخاصة العلمانيين، تتعلق بالعمل. ووفقا لبحث أجري في "معهد القدس لدراسة إسرائيل"، فإن 20% من اليهود العلمانيين الذين هاجروا من القدس أشاروا إلى مشكلة التشغيل على أنها سبب مغادرتهم. ووجد هذا البحث أن 54% من المهاجرين من القدس هم يهود علمانيون، و22% هم يهود متدينون و23% حريديم. وتبين أن 61% من هؤلاء المهاجرين يحملون لقبا جامعيا. ويغادر المدينة سنويا ما بين 7 إلى 8 آلاف يهودي، إذ يهاجر إليها نحو 10 آلاف ويغادرها 18 ألفا ينتقلون للسكن في مناطق أخرى، إلى المستوطنات القريبة مثل "موديعين" و"معاليه أدوميم".

لكن السبب المركزي الذي يدفع اليهود إلى الهجرة من القدس هو السكن. وقال 47% من المشاركين في استطلاع شمله البحث إن موضوع السكن هو السبب الأول لمغادرتهم. وتبرز هذه المشكلة لدى الحريديم (78%) والمتدينين اليهود (60%)، بينما تنخفض هذه النسبة إلى 28% لدى اليهود العلمانيين.

أما السبب المركزي للهجرة إلى القدس فهو التعليم، وقال 29% إنهم انتقلوا للسكن في القدس من أجل الدراسات العليا. وتضع بلدية القدس مخططات وتمنح محفزات من أجل بقاء هؤلاء الطلاب الجامعيين في المدينة بعد إنهاء دراستهم.

رغم ذلك، يقول الباحث في "معهد القدس لدراسة إسرائيل"، الدكتور يائير أساف – شبيرا، إن "القدس تواجه مشكلة في بلورة أساس اقتصادي صلب وتزويد مستوى خدمات لسكانها الذين يزيد عددهم عن 800 ألف. فعلى مدار السنين بنوا أحياء (مستوطنات) معزولة عن المدينة، وربما تكون أسعارها متدنية نسبيا، لكن جودة الحياة فيها ليست مرتفعة والوصول إليها ينطوي على إشكالية".

وأضاف أساف – شبيرا أن "المعطيات الاقتصادية المتوسطة لا تعكس ما يحدث في الأطراف. من جهة، يسكن في القدس أثرياء، ومن الجهة الأخرى توجد فيها مجموعات سكانية تعيش في فقر مدقع. وثمة أمور لا يتم الالتفات إليها، مثل حجم التجارة، أسعار السكن المرتفعة، وبين أسباب ذلك شراء أجانب لبيوت، وهذا يعني أنه يوجد طلب".

الفلسطينيون يغادرون أحياءهم

الوضع الاقتصادي للفلسطينيين في القدس صعب جدا، ووفقا لمعطيات إسرائيلية رسمية، يعيش 79% منهم تحت خط الفقر. لكن هذا الوضع آخذ بالتغير في السنوات العشر الأخيرة، مع بدء تحولات تظهر اندماج الفلسطينيين في اقتصاد القدس.

وقال الباحث في "معهد القدس لدراسة إسرائيل"، ميريك شطيرن، إن "50% تقريبا من العاملين من القدس الشرقية يعملون في غربي المدينة. ولا يعمل جميعهم في الأعمال الشاقة، وإنما يوجد دخول للسكان الفلسطينيين إلى مهنة أكثر تقدما، وتحتاج إلى تعليم ثانوي وأكاديمي. والاندماج الاقتصادي في المرافق الإسرائيلية أصبح يعتبر مشروعا أكثر من الماضي بين العرب، لأنه يسمح بصمود اقتصادي. ويتعلم قرابة 1500 طالب جامعي من القدس الشرقية في مؤسسات في غرب المدينة. وهؤلاء الأشخاص، وبعضهم على الأقل، سيتم استيعابهم لاحقا في سوق العمل الإسرائيلية. وهذا أمر لم يكن موجودا في الماضي".

في موازاة ذلك، وبسبب الضائقة السكانية في الأحياء والبلدات الفلسطينية في القدس المحتلة، التي سببتها السياسات الإسرائيلية، ينتقل عرب من هذه الأحياء والبلدات إلى السكن في مستوطنات، وخصوصا التلة الفرنسية و"بسغات زئيف"، رغم أن غالبية العرب الذين ينتقلون إلى السكن في التلة الفرنسية هم بغالبيتهم من المواطنين العرب في إسرائيل الذين انتقلوا من شمال البلاد إلى القدس من أجل الدراسة الجامعية وبقوا في المدينة.

وقال شطيرن إن "من يمكنه السماح لنفسه بذلك ينتقل إلى الأحياء اليهودية في القدس الشرقية، وهذا مريح للفلسطينيين. ويبدو أن تقسيم القدس مستحيل. بالإمكان المحاولة، لكن تمرير الحدود بشكل ملتو هو أمر صعب وغير مريح وسيمس بالنسيج البلدي. وبهذا المفهوم، تم تحقيق الهدف، لكن صبغة المدينة بدأت تتغير. والقدس بدأت تبدو شبيهة بنموذج مدينة مختلطة في إسرائيل، وفي تقديري أن هذا الاتجاه سيتعزز في السنوات القريبة المقبلة".

المصطلحات المستخدمة:

موديعين